بسم الله الرحمن الرحيم
قد تحسب أمورك أحياناً على ما يرام لفترة طويلة، حتى تكتشف فجئة أن الأمور سيئة تحت ناظريك منذ الأزل.
"تعرف؟..."
"ماذا؟"
"لم تكن الأمور لتنتهي على ما انتهت عليه، لو لم تسيء الفهم دائماً."
"أعرف..."
"إنك محظوظ إذاً"
"لا. ليس من البداية"
"العبرة بالخواتيم."
"ربما"
"لا زلت غير مقتنعاً؟"
"لا أدري، هل كان الأمر يستحق العناء؟"
هل سيستحق الأمر العناء، كيفما انتهى؟...
أياً كان الأمر؟
ماذا لو كان الأمر، هو حياتك برمتها، أو، مجرد نزوة. سيان، العبرة بالمعنى، ماذا تعني حياتك برمتها، وماذا قد تعني مجرد نزوة.
ذهبت اليوم إلى موعدي لدى طبيب الجلدية، الذي لطالما انتظرته. هو في المستشفى الجامعي، وعليه، يمكنكم تخيل كم انتظرت. كنت أرغب في الحجز في البداية لدى معالج أمي، د.الغامدي. رجل طيب، ومتمكن، في كل الأوجه، سواء في مهنته وحرفيته، أو في تعامله. لا يمكنك سوا أن تحبه، خصوصاً حينما ترى تقديره لأمك، وصبره على توترها في المستشفى، في حين قد لا تجد من الأطباء الحقيرين الآخرين سوا البرود، وأحياناً الإهانة أو ما يشبهها. ولكن لم يسمح لي بالحجز لديه، لأنه أخصائي ليزر أو شيء من هذا القبيل، هكذا قالوا لي، وافقت مضطراً للحجز لدى غيره، فحجزوا لي لدى آخر، غير عادي، ولكن بطريقة أخرى. لم يكن الرجل سيء، ولكن، لدي حساسية خاصة تجاه الأطباء السعوديين ومفاجئاتهم السخيفة. بالبداية، كلمتني تلميذته، وهي شابة مجتهدة على ما يبدو، ليست باردة، وهذا شيء نادر وممتاز بالنسبة لطلاب وطالبات الطب السخفاء على وجه العموم. ولكن، يعيبها كما يعيب كل العرب التحدث معاً بالانجليزية بخصوص المريض، وكل العاملين في المجال الطبي خصوصاً هكذا، متكلمين أحياناً بما لا يرضى المريض، أو ما حتى ما لا يرضى أن يفوته وهو أحق به منهم، وهم لا يفكرون بأن العديد من الناس يتحدثون هذه اللغة، وكأنها حصر عليهم. المهم أن الدكتور دخل، وهو طبيب سعودي شاب، ملتزم بلحية طويلة، ونظرة مغرورة باردة. سأل باختصار عن حالتي، ولوى رقبتي لأعلى لينظر إلى وجهي إلى حد آلمني، مستمعاً إلى ملاحظات تلميذته، التي تحسبني لا أفهم ما تقول، من الجيد أن مهن الناس لا تكتب على جباههم، حيث لفتّ انتباهها إلى غلطة بخصوصي. ثم استأذن ليرى مرضى آخرين، وخرج، وأنا جالس مع الممرضة، التي يفزعها جوالي كل دقيقه حينما أضغط أزراره (سامسونج إزعاج، ولكن ممتع). دخل كثيراً وخرج وهو يعتذر عن تأخيري، وأنا أقول: خذ وقتك. كنت أتأمل النافذه، الهواء القوي وهو يعبث بشجرة طويلة، المنظر البعيد، البعيد جداً، لمنزل مقابل للجامعة الضخمة، وأنا أفكر بساكنيه، وأنسج قصة تدور بالغرفة التي أنا فيها، والخارج، وأخرج الورق وأكتب ملاحظات... أخيراً جاء، وجلس أمامي وتكلمنا عن حالتي، وأعطيته ماضيها الذي يعود إلى ثلاث سنوات، أو أكثر قليلاً، وثلاثة أطباء ممتازون اطلعوا عليها، وأعطوني أدوية واقترحوا حلولاً. نظر الرجل، وأخرج عدسة متطورة في قطعة بلاستيكية، وتطلع إلى شنبي، وقال بأنه لا يرى مشكلة. قلت بأن الأطباء الآخرين رأوا المشكلة واقترحوا حلولاً، قال مبتسماً، وهو متضايق بوضوح: "أنا المتخصص، وأنا الأعرف بمجالي..." يعني كل الأطباء اللي رحت لهم أطباء دجاج؟! نظرت إليه صامتاً، وربما فضح وجهي بعض ازدرائي، حيث بدا انه انتبه لما قال، خصوصاً بحضور تلميذتين، فسارع لتغيير الموضوع، حيث بدا مغروراً ولا مجال لمحي الانطباع. بعد تعليقه السخيف، أصبح أكثر اهتماماً بحالتي، وهذه طبيعة الناس حينما يشعرون بالإحراج، حينما يحسبون أنفسهم بصمت الأفضل بالعالم، فتنفضح هذه الفكرة غير المنطقية. تكلم معي كثيراً بخصوص حالتي، وقال بأني ربما أنا المتسبب!! يا لسخافته. طلب مني أن أترك شعر وجهي لأسبوعين وآتيه لأعطيه إنطباعاتي، موحياً بأنه يثق بما يقول تماماً، رغم من سبقه من أطباء. طلب من الممرضة إحضار كاميرته الخاصة، وأحضرت حقيبة كبيرة، أخرج منها كاميرا ثمينة، ليصور شنبي ويريني وجهة نظره. هذا الاهتمام جيد، ولكني لم أستطع التخلص من الشعور بأنه يحب أن يري الناس كاميرته الجيدة لأنه سعيد بها، ولكن هذا لا يعدو سوء ظن مبالغ فيه فيما أحسب. سألته عن جانب آخر من الحالة، وهو شيء لا يبدو أنه لديه وجهة نظر حقيقية بخصوصة، وعاد مرة أخرى إلى القول بأني قد أكون المتسبب. أخبرته بأني لا ألمس شواربي. تكلم طويلاً، أكثر مما توقعت أن تأخذ حالتي، وشعرت بأنه يمنحني اهتمام غير مخطط له، بدافع تحسين نظرته لنفسه ربما. وقفنا، ففطن من تلقاء ذاته إلى شكواي الأخرى، حواجبي، مع أنه حسبها رموشي بالبداية. أخرج كاميرته مرة أخرى، وصور حواجبي وأراني إياها، بدت عيناي الناظرتان إلى أسفل مضحكتان، وقال: شف، ما أشوف الا تماثل جميل. أعلم بأن حواجبي متماثلة، ولكن هناك مشكلة، حتى لو كانت صغيرة أو خفيفة، ليست بالتماثل أو الشكل، ولكن بسبب فطريات أخبرني عنها طبيب آخر، يبدو أنها قد زالت الآن، ولكني أشعر بأن هناك علة بمكان معين من الحاجب. أريته جرح لم يزل منذ فترة طويلة أسفل ساقي، وصدقاً، سمعت عن جروح تتسرطن. ولكنه قال بأنه ملتهب، ويوجد فيه اكزيما على الأغلب، وشد كمه عن ذراعه ليريني أثر جرح لديه لتوه بدأ يزول منذ سنوات. طال اللقاء أكثر مما توقعت، رغم أني لم أكن عنيداً أو مخالفاً. فكرت بالعودة إلى موضوع أنه أفضل طبيب، ولكن، لم أشأ إحراجه أمام تلاميذه، خصوصاً أنه أحرج نفسه مسبقاً، كنت سأقول بأن الأطباء الذين عاينوني ربما درسوه بمرحلة ما. لا يعني هذا بطبيعة الحال أنهم أفضل منه، ولكن حدة غرور الشباب يجب أن تكسر. خرجت وهو يريد أن يراني بعد اسبوعين، فمنحوني موعد في نهاية السنة، ولم أكن واثقاً على أي حال أني سأعود. أريد أن أرى الغامدي، سأصدقه لو تماثل كلامه مع زميله هذا، الذي يبدو أنه الوحيد في العيادة حالياً. الغامدي، ربما هو الأفضل بالعالم، لا يقول هذا، أنا أقوله. من تواضع لله رفعه، والتواضع فضيلة لا يجزئ عنها الالتزام. والغامدي ملتزم أيضاً من مظهره على فكرة. كنت أراه أحياناً حينما كنت أعمل في الجامعة حينما أركن سيارتي أو أخرجها، ورغم أني لا أحب السلام على الدكاترة السعوديين، أطباء أو دكاترة خرابيط، لأنهم دائما يفهمون السلام كمحاولة للاستفادة، إلا أني أحرص على السلام عليه، لا أعتقد أنه يفهم بأني أريد أن أستفيد منه. يرد بتواضع واهتمام، وبصوت مسموع، حتى لو كنت أنا بالسيارة. أتمنى لو كان واحد على الأقل من الدكاترة الذين أراهم مثله.
إني أحب هذا المستشفى رغم كل عيوبه وسخافاته، رغم منظر طلاب الطب الذين يبدو عليهم الغباء المطبق، وطالبات الطب بتبرجهن المثير للشفقة، أحبه رغم وجود الكثير من التلاعب، الكثير من التسيب، الكثير من الأكاذيب وعدم الكفائه، أحبه فهو مثل الجامعة في كل هذا، رغم ذلك، أحبها بلا شروط. هذا فضلاً عن تعالج أمي فيه، فأنا لست مثل الكثير من الذين سمعوا أحدهم يقول بابتذال في رواية، أو ما شابه: تفوح من المستشفى رائحة الموت. فرددوا جميعاً القول، متناسين الآلام التي زالت، والأطفال الذين ولدوا وبدأوا حياتهم. أنا لا أنسى أن أمي المتعبة قد شفيت بعد الله من الكثير من عللها هنا، وتحسنت أحوالها هنا. وكذلك والدي. لا، إني أعشق هذا المستشفى، وأحمد الله على وجوده مهما بلغت علله من مبلغ، ومهما غضبت من مساوئه حد الرغبة بالصياح. أحب حتى الأشجار التي حوله وآلفها. كنت أقول لأمي مازحاً بأنهم سيتدبرون لنا غرفة أو شقة دائمة وسط المستشفى لكثرة ما نداوم فيه، ولكن الذهاب إليه لا يسوءني، لأنه يجعل أمي أفضل بعد الله، وأنا واقعي في خصوصها.
مع ذلك، كم أكره بعض الأشكال فيه، كم لا أرتاح لأخصائي الجراحة الأحمق، غير الحساس، ذلك الدكتور البغيض المغرور، و أسنانه الأرنبية. لقد قال ذات مرة لأمي وأختي بأن يذهبوا لمستشفيات خاصة طالما لديهن المال. حقير. وكأنما يدفع من ماله. وما يدريه عن مقدرتنا؟ هل يتخيل بأننا نستطيع أن ندفع ثمن عملية واحدة بلا ديون؟ هو يعلم هذا، ولكنه لا يحس. ذهبت إليه مع أمي كثيراً، وفي آخر مرة أطال النظر إلي بقدر ما تجنبته، فأنا حتى لا أطيق النظر في وجهه وابتسامته غير المريحة. حاول مجاملتي لسبب ما، لا أدري لماذا سوء الحظ هذا. رأيته في الخارج في يوم آخر أمام مسجد المستشفى، نظر بتركيز وسلم كذلك على غير العادة، وعلى نحو انتقائي وغريب، رددت السلام، ليتني قلت: وعليكم السلام يا مكروه. أتذكر ضحكه الغبي حين دخولنا بتأثر على أمي وهي تحت التخدير، لتوها خضعت لعملية خطيرة. إنه لا يحس.
الآن، أشعر بالخوف مما قد اواجهه في مسيرة نقلي. لقد أخافني أحد الزملاء، واحد من اثنين يعلمون عن موضوعي، مما قد يحدث كسيناريو محتمل حسب خبرته. ومما جعلني أشعر بأمكانية الأمر القوية، هو أني لست على علاقة طيبة مع شئون الموظفين لدينا، حتى مديرهم، أعتقد بأنه يجدني غير مريح، كما أجده، رغم أن أسبابي وجيهة.
وفعلها محمد أخيراً، ابن اختي العزيز ذو الرأس الذي يشبه المنقا، وأكل من أدويتي على حين غرة. لم يداهم الغرفة كما يحاول دائما، إنما دخلها بهدوء مع حشد من الأطفال الأكبر، الذين سمحت لهم باللعب قليلاً بالوي، جهاز ألعاب الكتروني في حجرتي. وبقي بصمت يتجرع حبوب الفيتامينات البرتقالية الصغيرة حتى اكتشفه ابن أخي وأخبرني بسرعة، بينما أجلس خارج الغرفة. فجعت، وحاولت التأكد من أنه ابتلعها. أنكر، حيث خاف، وهو عمره سنتين ونصف أو يزيد قليلاً، حققت معه، ولما لم أستطع الوصول إلى نتيجة، فتحت فمه بيدي ووضعت أنفي بالداخل وشممت، عرفت بما لا يدع مجال للشك أن الكثير من الحبوب قد وجدت طريقها إلى جوفه، وقد مضغ بعضها بالتأكيد مما يمكنني قوله من خلال الرائحة. وكأنما الرائحة لا تكفي، وجدت إلى جانبه نصف حبه. نزلت مسرعاً أحمله على كتفي إلى أمه. حققت معه بدورها لتتأكد أكثر. ولكنها سألته: أكلت حبوب حبيبي؟ حلوه الحبوب؟ أجاب: أيه أكلت!! أجاب أخيراً بصراحة لأنه ظن أنه شيء مفضل بسبب لهجة أمه، فعمره أصغر من أن يفهم الخدعة. سألته أختي سؤال أكبر من عمره، كم أكلت؟ أجاب: واحد اسنين! وهو يشير بأصابع قصيرة وصغيرة جداً. اتصلنا بالصيدلي، ونصحنا بإذابة حبوب الفحم وإشرابه إياها، لأنها تمنع الامتصاص أو شيء من هذا القبيل. ذهبت واشتريت، وكانت من النوع السائل وليس الجاف، مما وسخ ثوبي الجديد، أشك أنه سينظف، فقد حاولوا مغاسل الرهدن ولم يستطيعوا. شرب من الماء شبه مرغم. وعادوا إلى المنزل وأنا قلق بشدة. في الفجر، اكتشفت بأن حبوب بنادول نايت، الحبوب المساعدة على النوم، قد اختفت منها كبسولتين، الجرعة المحددة للبالغين. كدت أجن، كيف استطاع أن يبتلع هذه أيضاً؟ فهي كبيرة حتى على الكبار. اتصلت بوالدته، وقالت بأنها لاحظت بأنه نام جيداً، وبسرعة! طلبت منها ايقاظه، استيقظ على ما يرام، وبمعنويات عالية! ولكنه رفض أن يستيقظ طويلاً. لا زلت أتابع حالته. حيث أن لونه تغير، ولون بوله بطبيعة الحال، ولكن يقال بأنه بدأ يعود تدريجياً إلى حاله. الله يستر. أتمنى لو عصرته أحياناً...
قبل قليل، أظهر الدكتور الذي أعمل معه تذمراً مؤدباً من مواعيدي التي تكاثرت مؤخراً. كيف شعرت حينما تذمر مبتسماً وهو يتساءل عن سبب كثرتها؟ شعرت بالسعادة!! فهذا سيساعدني في موضوع الانتقال. يا رب، خذني من هنا. شرحت له بأني غداً سأذهب إلى الأحوال المدنية للحصول على بطاقتي، وبعده لدى أمي موعد في المستشفى. هذه هي ظروفي، وهي ظروف واقعة، لا تتغير، وهكذا تسير حياتي. لا تلائم الكثيرين، ولكن، ماذا عساي أن أفعل؟.
يوجد دكتور آخر جديد هنا، ذكرني تواجده بقدري الغريب، الذي تحدثت عنه هنا في وقت سابق، حيث ألحق بالآخرين بلا خيار، رغم أني سأبتعد إن كتب الله بعودتي للجامعة. المهم أن هذا الدكتور كان عميداً في جهة بالجامعة، وقبل أن أنتقل من الجامعة قبل 5 أشهر تقريباً، كنت أعمل على الانتقال داخل الجامعة إلى قسم آخر. والقسم الآخر هو عمادة هذا الدكتور، كنت سأعمل في إدارته. ولكن شاء الله أن يظهر اسمي في وظائف الديوان، وأترك الجامعة وآتي للوزارة. مؤخراً، علمت أن هذا الدكتور انتهت فترة عمادته، وسيأتي للوزارة على شكل مستشار، موضة الجهات الحكومية الحالية. لم يلفت الامر انتباهي سوا قبل أيام. يا الله، كنت سأعمل لدى الرجل ولكني غادرت، والآن، هو لحق بي. بالواقع كنت أحمل همه قبل أن أنتقل حينما كنت أحسب بأني سأعمل لديه، ولكنه يبدو ودوداً نوعاً ما الآن رغم أني لم أتعامل معه كثيراً. كل ما هنالك هو السلام. ولكنه يسدد نظرات، عادة تكون غير مريحة من الغير، ولكنه يشعر المرء بصفاء نيته لسبب ما. ما الغريب في أمره؟ القصة هي، أن الشخص الذي خرج من الجامعة إلى الوزارة في زمن سابق، ثم قدري قادني حينما خرجت من الجامعة وألحقني قربه بشكل ما، ينتمي لنفس عائلة هذا الدكتور الجديد، فهم أقارب، من بعيد أو قريب. تراهات، أعلم ذلك.
أجد نفسي اليوم سائم على نحو غير عادي، لدرجة أن حتى الدكتور الذي أعمل معه كل يوم، وبالعادة لا أجد مشكلة تجاهه، أجدني اليوم لا أطيق النظر إليه أو سماع صوته، وأجد لساني يتدلى حينما لا ينظر. أعتقد أن سبب هذا المزاج المتعكر هو أشياء مجتمعه، لم أتمكن اليوم من استلام بطاقة الهوية، وكذلك، ورقة نقلي لم تصل اليوم رغم أن الوعد كان أمس، وفوق هذا، الموظف البشوش أمس تغير تعامله اليوم، لا عجب، فذاك اللئيم يجلس إلى جواره في شئون الموظفين، حسبي الله ونعم الوكيل.
ما أبطأ الوقت...
ذهبت البارحة لاستلام جهاز ابن اختي، وبما أني كنت في الروضة، منطقة شرق الرياض، قررت أن أمر ببعض المحلات الأخرى هناك. كان محل برناردي للملابس لا وجود له، ولا أعلم منذ متى اختفى. ليس أني كنت أريد أن أشتري ملابس، ولكن قلت لعلي أجد حذاء جيد. توقفت عند العبيكان، اشتريت كتابين لم أخطط لهما، وشعرت بأني يجب أن أقلل من جرير، فهي لم تعد تأتي بما يلائمني. حصلت على خصم جيد كذلك بتعاون من الموظف. بعد ذلك، قررت أن آكل في فدركرز. حينما دخلت وجلست، بقيت لمدة دقائق أطالع لائحة الطعام، اقترب مني رجل بدين، عرفت فيه زميلي في الجامعة، بعينيه الغريبتين بلونهما العسلي. سلمنا وجاملنا بعضنا بالأسئلة، ثم استأذنني ليعود إلى طاولته. هذه هي المرة الثانية التي أراه فيها في مطعم منذ أن تخرجت، وفي المرة الأولى عاد إلى طاولته بنفس الطريقة، وانشغلت أنا بنفسي كذلك. تذكرت كيف كنا نجلس على طاولة واحدة مع بقية الزملاء في الجامعة، نتحادث، حيث غالباً ما كنت مستمعاً، هذا إذا جلست. الآن، نسلم فقط ونبتعد، والكل على طاولة منفردة في مكان ضيق من الجامعة، لا يوجد هم مشترك، ومن الجيد كذلك أنه سلم، فبعضهم يرمق بنظرات لا معنى لها، ثم يهرب، وبعضهم يتصنع بأنه لم يرك، ولا ألومهم بصراحة، فبعضهم لا أود أن أسلم عليه أو أراه، وهذا الأخير في فدركرز ليس منهم، فقد كان خلوقاً ومسالماً، وشديد الهدوء. ولا أتذكر بأني حادثته على مستوى عميق، أو عرفت عنه الكثير، سوا أنه يحب متابعة كرة القدم بشغف غير عادي، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الزملاء. رسب ذات مرة، لأن دكتور سوري حقود لدينا بالكلية، شديد القومية، يعلم بارتباط هذا الشاب بالكويت بشكل ما، وكانت تلك سنة غزو العراق. فحاول أن يوجه اهانات بشكل ما إلى الكويت حينما حضر الرجل إلى مكتبه لعمل ما، وحاول أن يستفزه، أفحمه الرجل. يا لصغر عقل هذا الشامي، ويا لقلة ذمة من احتفظوا به بالجامعة. رسب الطالب.
سوف يذهب الدكتور الذي أعمل معه ولن يعود قبل الاسبوع القادم. هذا سيجعلني أتفرغ جيداً لعمل الدكتور الآخر، وعمله الذي تركه لي. أرجو أن أتخلص من هذه الهموم سريعاً، فلست أحب حقاً ما أقوم به مهما بدى قليلاً ومتقطعاً.
وبذكر الدكتور الآخر، ترك العمل في يدي، وانقطعت اتصالاته لحسن الحظ، على أني أتوقع اتصاله غداً أو بعد غد. أتمنى أن لا يتصل، والله لا أدري لماذا لا أطيقه حتى حينما يكون ودودا.
لقد مررت بتجربة سيئة مع شركة الساعات اليابانية التي طلبت منها مرتين. إحدى الساعات التي طلبناها مؤخراً دخلها الماء بعد رشة بسيطة. رغم قولهم بأنها ضد الماء حتى عمق معين. يحدث هذا حتى مع شركات أخرى مثل سواتش، ولكن حينما يحدث تستبدل الساعة بلا جدال. حينما أبلغتهم ردوا بلهجة لم تعجبني، أن هذا لا يدخل في الضمان حسب سياستهم، رددت أن يروني أين كتبوا هذا؟ فأرسلوا لي الرابط. وبعد شد وجذب قالوا بوقاحة أن أرسل لهم الساعة، وسيفحصونها ويتأكدون من مزاعمي (!!) أنها رشة صغيرة وليس غوص أو سباحة. لو كانت رشة فسيصلحونها مجاناً، ويدفعون بعض مبلغ الشحن، وإن لم تكن رشة، فسأدفع ثمن الإصلاح. وأضافوا بتلميح أن أتواصل معهم عبر الايميل، حيث اتصلت فيهم من قبل عدة مرات. جن جنوني. فرددت بأني لا أستطيع أن أثق بهم. وأنهم لعلمهم برداءة ساعاتهم ابتكروا هذا الباب الخلفي للتنصل. وأن هذا غش. مع العلم أن الماء دخل في الساعة بعد يومين من وصولها. وقلت بأن شركات أخرى مثل سواتش تستبدل الساعة حينما يدخلها الماء بلا نقاش، وأضفت: ولكن هؤلاء سويسريون. قاصداً تسديد إهانة إلى عقلياتهم. وتساءلت بالرسالة طالما لا تستطيعون ضمان ساعاتكم لماذا تقولون أنها ضد الماء؟ أضفت بأني لو أردت التواصل لاستخدمت الطريقة التي تعجبني أنا. وختمت الرسالة بالقول بأني سأنصح الناس على الانترنت بعدم الشراء منكم.
لم أتوقع رداً، ووجهت أختي بأن ترسل ساعتها إلى أي مصلح. ولكن بعد عدة أيام وصلني رد من المدير الفني للشركة، واسمه غربي. يعتذر عما حصل ويبرر بأن البعض يسبحون بالساعة رغم التوجيه بعدم القيام بهذا. تكلم كثيراً في محاولة لاحتواء الوضع، وطلب مني أن أرسل الساعة لـ"تستبدل". لم أرسلها حتى الآن، لم أفرغ. ولكني سأفعل إن شاء الله.
اليوم الاربعاء. وقد كنت محبطاً بسبب موعد لأمي لم أستطع تسويته رغم استأذاني من العمل للمرة الثانية، والثالثة فعلياً إذا ما حسبنا محاولتي الحصول على بطاقة الهوية هذا الاسبوع. وصلت إلى العمل باكراً نسبياً، وبدأت العمل على أمر سخيف وممل للدكتور الذي لا يعجبني. لم يكن هناك في القسم غيري وآخر تقريباً. الدكتور المشرف مسافر، دكتوري الذي أعمل معه مسافر، الدكتور الآخر مسافر، زميلي الأقرب غير موجود. كان جو جيد لإنجاز بعض العمل، ولكن الصداع والضيق احتاج جهاداً للتغلب عليه. جاء زميل لطيف، وجلس معي يحادثني عن سفراته ضمن وفود الوزارة. كانت حكايات ممتعة، ولكن لم تشمل ما أريد أن أعرف عن البلدان لاختلاف الاهتمامات جذرياً. جاء الآخر، وهو مدير المكتب. رجل طيب جداً وودود وعملي، حادثني قليلاً، وهو يوعيني على بعض الأمور التي أقدرها، فيما يخص حقوقي وما يجب أن يكون نظير تعبي، ولكن كل ما أفكر فيه هو الخروج من المكان. كنت أشعر ببؤس لإخفاقي في تنسيق موعد أمي الضروري بسبب غياب الطبيب، رغم أنه قيل لي بأنه سيحضر، لقد أضاعوا علي من وقت العمل وصار الوضع أصعب للاستئذان لاحقاً من أجل الضرورات. في لحظة لم أستطع العمل بسبب الصداع، والصداع لا يصيبني إلا نادراً، فخرجت لأتنفس بعض الهواء الطلق بالخارج. جاءت صلاة الظهر سريعاً، وبعد الصلاة وأنا أبحث عن حذائي، رأيت وجه مألوف أمامي. مد يده وصافحني، وكل ما استطعت أن أتوصل إليه أني أعرف هذا الوجه من الجامعة. عرف عن نفسه قائلاً بأنه فلان الفلان، دكتور من الجامعة، له مظهر طالب، كنت قد حادثته حينما جاء يطلب تعريفاً في الجامعة، عن عائلته وأقاربه المشهورين. كان ودوداً، وتذكر أني المترجم هناك، تذكرني أكثر مما تذكرته. لم يفهم أني أعمل هنا الآن. ودعنا بعضنا، ولكن بعد قليل رأيته في مكتب آخر، وفهم أني أريد الانتقال من هنا إلى الجامعة، خامرني شعور بأنه يريد لنفسه العكس. عموماً، هو من الدكاترة القلة الطيبين، رغم أني لا أعرف عنه الكثير. هو من القصيم كذلك.
سعد الحوشان
قد تحسب أمورك أحياناً على ما يرام لفترة طويلة، حتى تكتشف فجئة أن الأمور سيئة تحت ناظريك منذ الأزل.
"تعرف؟..."
"ماذا؟"
"لم تكن الأمور لتنتهي على ما انتهت عليه، لو لم تسيء الفهم دائماً."
"أعرف..."
"إنك محظوظ إذاً"
"لا. ليس من البداية"
"العبرة بالخواتيم."
"ربما"
"لا زلت غير مقتنعاً؟"
"لا أدري، هل كان الأمر يستحق العناء؟"
هل سيستحق الأمر العناء، كيفما انتهى؟...
أياً كان الأمر؟
ماذا لو كان الأمر، هو حياتك برمتها، أو، مجرد نزوة. سيان، العبرة بالمعنى، ماذا تعني حياتك برمتها، وماذا قد تعني مجرد نزوة.
ذهبت اليوم إلى موعدي لدى طبيب الجلدية، الذي لطالما انتظرته. هو في المستشفى الجامعي، وعليه، يمكنكم تخيل كم انتظرت. كنت أرغب في الحجز في البداية لدى معالج أمي، د.الغامدي. رجل طيب، ومتمكن، في كل الأوجه، سواء في مهنته وحرفيته، أو في تعامله. لا يمكنك سوا أن تحبه، خصوصاً حينما ترى تقديره لأمك، وصبره على توترها في المستشفى، في حين قد لا تجد من الأطباء الحقيرين الآخرين سوا البرود، وأحياناً الإهانة أو ما يشبهها. ولكن لم يسمح لي بالحجز لديه، لأنه أخصائي ليزر أو شيء من هذا القبيل، هكذا قالوا لي، وافقت مضطراً للحجز لدى غيره، فحجزوا لي لدى آخر، غير عادي، ولكن بطريقة أخرى. لم يكن الرجل سيء، ولكن، لدي حساسية خاصة تجاه الأطباء السعوديين ومفاجئاتهم السخيفة. بالبداية، كلمتني تلميذته، وهي شابة مجتهدة على ما يبدو، ليست باردة، وهذا شيء نادر وممتاز بالنسبة لطلاب وطالبات الطب السخفاء على وجه العموم. ولكن، يعيبها كما يعيب كل العرب التحدث معاً بالانجليزية بخصوص المريض، وكل العاملين في المجال الطبي خصوصاً هكذا، متكلمين أحياناً بما لا يرضى المريض، أو ما حتى ما لا يرضى أن يفوته وهو أحق به منهم، وهم لا يفكرون بأن العديد من الناس يتحدثون هذه اللغة، وكأنها حصر عليهم. المهم أن الدكتور دخل، وهو طبيب سعودي شاب، ملتزم بلحية طويلة، ونظرة مغرورة باردة. سأل باختصار عن حالتي، ولوى رقبتي لأعلى لينظر إلى وجهي إلى حد آلمني، مستمعاً إلى ملاحظات تلميذته، التي تحسبني لا أفهم ما تقول، من الجيد أن مهن الناس لا تكتب على جباههم، حيث لفتّ انتباهها إلى غلطة بخصوصي. ثم استأذن ليرى مرضى آخرين، وخرج، وأنا جالس مع الممرضة، التي يفزعها جوالي كل دقيقه حينما أضغط أزراره (سامسونج إزعاج، ولكن ممتع). دخل كثيراً وخرج وهو يعتذر عن تأخيري، وأنا أقول: خذ وقتك. كنت أتأمل النافذه، الهواء القوي وهو يعبث بشجرة طويلة، المنظر البعيد، البعيد جداً، لمنزل مقابل للجامعة الضخمة، وأنا أفكر بساكنيه، وأنسج قصة تدور بالغرفة التي أنا فيها، والخارج، وأخرج الورق وأكتب ملاحظات... أخيراً جاء، وجلس أمامي وتكلمنا عن حالتي، وأعطيته ماضيها الذي يعود إلى ثلاث سنوات، أو أكثر قليلاً، وثلاثة أطباء ممتازون اطلعوا عليها، وأعطوني أدوية واقترحوا حلولاً. نظر الرجل، وأخرج عدسة متطورة في قطعة بلاستيكية، وتطلع إلى شنبي، وقال بأنه لا يرى مشكلة. قلت بأن الأطباء الآخرين رأوا المشكلة واقترحوا حلولاً، قال مبتسماً، وهو متضايق بوضوح: "أنا المتخصص، وأنا الأعرف بمجالي..." يعني كل الأطباء اللي رحت لهم أطباء دجاج؟! نظرت إليه صامتاً، وربما فضح وجهي بعض ازدرائي، حيث بدا انه انتبه لما قال، خصوصاً بحضور تلميذتين، فسارع لتغيير الموضوع، حيث بدا مغروراً ولا مجال لمحي الانطباع. بعد تعليقه السخيف، أصبح أكثر اهتماماً بحالتي، وهذه طبيعة الناس حينما يشعرون بالإحراج، حينما يحسبون أنفسهم بصمت الأفضل بالعالم، فتنفضح هذه الفكرة غير المنطقية. تكلم معي كثيراً بخصوص حالتي، وقال بأني ربما أنا المتسبب!! يا لسخافته. طلب مني أن أترك شعر وجهي لأسبوعين وآتيه لأعطيه إنطباعاتي، موحياً بأنه يثق بما يقول تماماً، رغم من سبقه من أطباء. طلب من الممرضة إحضار كاميرته الخاصة، وأحضرت حقيبة كبيرة، أخرج منها كاميرا ثمينة، ليصور شنبي ويريني وجهة نظره. هذا الاهتمام جيد، ولكني لم أستطع التخلص من الشعور بأنه يحب أن يري الناس كاميرته الجيدة لأنه سعيد بها، ولكن هذا لا يعدو سوء ظن مبالغ فيه فيما أحسب. سألته عن جانب آخر من الحالة، وهو شيء لا يبدو أنه لديه وجهة نظر حقيقية بخصوصة، وعاد مرة أخرى إلى القول بأني قد أكون المتسبب. أخبرته بأني لا ألمس شواربي. تكلم طويلاً، أكثر مما توقعت أن تأخذ حالتي، وشعرت بأنه يمنحني اهتمام غير مخطط له، بدافع تحسين نظرته لنفسه ربما. وقفنا، ففطن من تلقاء ذاته إلى شكواي الأخرى، حواجبي، مع أنه حسبها رموشي بالبداية. أخرج كاميرته مرة أخرى، وصور حواجبي وأراني إياها، بدت عيناي الناظرتان إلى أسفل مضحكتان، وقال: شف، ما أشوف الا تماثل جميل. أعلم بأن حواجبي متماثلة، ولكن هناك مشكلة، حتى لو كانت صغيرة أو خفيفة، ليست بالتماثل أو الشكل، ولكن بسبب فطريات أخبرني عنها طبيب آخر، يبدو أنها قد زالت الآن، ولكني أشعر بأن هناك علة بمكان معين من الحاجب. أريته جرح لم يزل منذ فترة طويلة أسفل ساقي، وصدقاً، سمعت عن جروح تتسرطن. ولكنه قال بأنه ملتهب، ويوجد فيه اكزيما على الأغلب، وشد كمه عن ذراعه ليريني أثر جرح لديه لتوه بدأ يزول منذ سنوات. طال اللقاء أكثر مما توقعت، رغم أني لم أكن عنيداً أو مخالفاً. فكرت بالعودة إلى موضوع أنه أفضل طبيب، ولكن، لم أشأ إحراجه أمام تلاميذه، خصوصاً أنه أحرج نفسه مسبقاً، كنت سأقول بأن الأطباء الذين عاينوني ربما درسوه بمرحلة ما. لا يعني هذا بطبيعة الحال أنهم أفضل منه، ولكن حدة غرور الشباب يجب أن تكسر. خرجت وهو يريد أن يراني بعد اسبوعين، فمنحوني موعد في نهاية السنة، ولم أكن واثقاً على أي حال أني سأعود. أريد أن أرى الغامدي، سأصدقه لو تماثل كلامه مع زميله هذا، الذي يبدو أنه الوحيد في العيادة حالياً. الغامدي، ربما هو الأفضل بالعالم، لا يقول هذا، أنا أقوله. من تواضع لله رفعه، والتواضع فضيلة لا يجزئ عنها الالتزام. والغامدي ملتزم أيضاً من مظهره على فكرة. كنت أراه أحياناً حينما كنت أعمل في الجامعة حينما أركن سيارتي أو أخرجها، ورغم أني لا أحب السلام على الدكاترة السعوديين، أطباء أو دكاترة خرابيط، لأنهم دائما يفهمون السلام كمحاولة للاستفادة، إلا أني أحرص على السلام عليه، لا أعتقد أنه يفهم بأني أريد أن أستفيد منه. يرد بتواضع واهتمام، وبصوت مسموع، حتى لو كنت أنا بالسيارة. أتمنى لو كان واحد على الأقل من الدكاترة الذين أراهم مثله.
إني أحب هذا المستشفى رغم كل عيوبه وسخافاته، رغم منظر طلاب الطب الذين يبدو عليهم الغباء المطبق، وطالبات الطب بتبرجهن المثير للشفقة، أحبه رغم وجود الكثير من التلاعب، الكثير من التسيب، الكثير من الأكاذيب وعدم الكفائه، أحبه فهو مثل الجامعة في كل هذا، رغم ذلك، أحبها بلا شروط. هذا فضلاً عن تعالج أمي فيه، فأنا لست مثل الكثير من الذين سمعوا أحدهم يقول بابتذال في رواية، أو ما شابه: تفوح من المستشفى رائحة الموت. فرددوا جميعاً القول، متناسين الآلام التي زالت، والأطفال الذين ولدوا وبدأوا حياتهم. أنا لا أنسى أن أمي المتعبة قد شفيت بعد الله من الكثير من عللها هنا، وتحسنت أحوالها هنا. وكذلك والدي. لا، إني أعشق هذا المستشفى، وأحمد الله على وجوده مهما بلغت علله من مبلغ، ومهما غضبت من مساوئه حد الرغبة بالصياح. أحب حتى الأشجار التي حوله وآلفها. كنت أقول لأمي مازحاً بأنهم سيتدبرون لنا غرفة أو شقة دائمة وسط المستشفى لكثرة ما نداوم فيه، ولكن الذهاب إليه لا يسوءني، لأنه يجعل أمي أفضل بعد الله، وأنا واقعي في خصوصها.
مع ذلك، كم أكره بعض الأشكال فيه، كم لا أرتاح لأخصائي الجراحة الأحمق، غير الحساس، ذلك الدكتور البغيض المغرور، و أسنانه الأرنبية. لقد قال ذات مرة لأمي وأختي بأن يذهبوا لمستشفيات خاصة طالما لديهن المال. حقير. وكأنما يدفع من ماله. وما يدريه عن مقدرتنا؟ هل يتخيل بأننا نستطيع أن ندفع ثمن عملية واحدة بلا ديون؟ هو يعلم هذا، ولكنه لا يحس. ذهبت إليه مع أمي كثيراً، وفي آخر مرة أطال النظر إلي بقدر ما تجنبته، فأنا حتى لا أطيق النظر في وجهه وابتسامته غير المريحة. حاول مجاملتي لسبب ما، لا أدري لماذا سوء الحظ هذا. رأيته في الخارج في يوم آخر أمام مسجد المستشفى، نظر بتركيز وسلم كذلك على غير العادة، وعلى نحو انتقائي وغريب، رددت السلام، ليتني قلت: وعليكم السلام يا مكروه. أتذكر ضحكه الغبي حين دخولنا بتأثر على أمي وهي تحت التخدير، لتوها خضعت لعملية خطيرة. إنه لا يحس.
الآن، أشعر بالخوف مما قد اواجهه في مسيرة نقلي. لقد أخافني أحد الزملاء، واحد من اثنين يعلمون عن موضوعي، مما قد يحدث كسيناريو محتمل حسب خبرته. ومما جعلني أشعر بأمكانية الأمر القوية، هو أني لست على علاقة طيبة مع شئون الموظفين لدينا، حتى مديرهم، أعتقد بأنه يجدني غير مريح، كما أجده، رغم أن أسبابي وجيهة.
وفعلها محمد أخيراً، ابن اختي العزيز ذو الرأس الذي يشبه المنقا، وأكل من أدويتي على حين غرة. لم يداهم الغرفة كما يحاول دائما، إنما دخلها بهدوء مع حشد من الأطفال الأكبر، الذين سمحت لهم باللعب قليلاً بالوي، جهاز ألعاب الكتروني في حجرتي. وبقي بصمت يتجرع حبوب الفيتامينات البرتقالية الصغيرة حتى اكتشفه ابن أخي وأخبرني بسرعة، بينما أجلس خارج الغرفة. فجعت، وحاولت التأكد من أنه ابتلعها. أنكر، حيث خاف، وهو عمره سنتين ونصف أو يزيد قليلاً، حققت معه، ولما لم أستطع الوصول إلى نتيجة، فتحت فمه بيدي ووضعت أنفي بالداخل وشممت، عرفت بما لا يدع مجال للشك أن الكثير من الحبوب قد وجدت طريقها إلى جوفه، وقد مضغ بعضها بالتأكيد مما يمكنني قوله من خلال الرائحة. وكأنما الرائحة لا تكفي، وجدت إلى جانبه نصف حبه. نزلت مسرعاً أحمله على كتفي إلى أمه. حققت معه بدورها لتتأكد أكثر. ولكنها سألته: أكلت حبوب حبيبي؟ حلوه الحبوب؟ أجاب: أيه أكلت!! أجاب أخيراً بصراحة لأنه ظن أنه شيء مفضل بسبب لهجة أمه، فعمره أصغر من أن يفهم الخدعة. سألته أختي سؤال أكبر من عمره، كم أكلت؟ أجاب: واحد اسنين! وهو يشير بأصابع قصيرة وصغيرة جداً. اتصلنا بالصيدلي، ونصحنا بإذابة حبوب الفحم وإشرابه إياها، لأنها تمنع الامتصاص أو شيء من هذا القبيل. ذهبت واشتريت، وكانت من النوع السائل وليس الجاف، مما وسخ ثوبي الجديد، أشك أنه سينظف، فقد حاولوا مغاسل الرهدن ولم يستطيعوا. شرب من الماء شبه مرغم. وعادوا إلى المنزل وأنا قلق بشدة. في الفجر، اكتشفت بأن حبوب بنادول نايت، الحبوب المساعدة على النوم، قد اختفت منها كبسولتين، الجرعة المحددة للبالغين. كدت أجن، كيف استطاع أن يبتلع هذه أيضاً؟ فهي كبيرة حتى على الكبار. اتصلت بوالدته، وقالت بأنها لاحظت بأنه نام جيداً، وبسرعة! طلبت منها ايقاظه، استيقظ على ما يرام، وبمعنويات عالية! ولكنه رفض أن يستيقظ طويلاً. لا زلت أتابع حالته. حيث أن لونه تغير، ولون بوله بطبيعة الحال، ولكن يقال بأنه بدأ يعود تدريجياً إلى حاله. الله يستر. أتمنى لو عصرته أحياناً...
قبل قليل، أظهر الدكتور الذي أعمل معه تذمراً مؤدباً من مواعيدي التي تكاثرت مؤخراً. كيف شعرت حينما تذمر مبتسماً وهو يتساءل عن سبب كثرتها؟ شعرت بالسعادة!! فهذا سيساعدني في موضوع الانتقال. يا رب، خذني من هنا. شرحت له بأني غداً سأذهب إلى الأحوال المدنية للحصول على بطاقتي، وبعده لدى أمي موعد في المستشفى. هذه هي ظروفي، وهي ظروف واقعة، لا تتغير، وهكذا تسير حياتي. لا تلائم الكثيرين، ولكن، ماذا عساي أن أفعل؟.
يوجد دكتور آخر جديد هنا، ذكرني تواجده بقدري الغريب، الذي تحدثت عنه هنا في وقت سابق، حيث ألحق بالآخرين بلا خيار، رغم أني سأبتعد إن كتب الله بعودتي للجامعة. المهم أن هذا الدكتور كان عميداً في جهة بالجامعة، وقبل أن أنتقل من الجامعة قبل 5 أشهر تقريباً، كنت أعمل على الانتقال داخل الجامعة إلى قسم آخر. والقسم الآخر هو عمادة هذا الدكتور، كنت سأعمل في إدارته. ولكن شاء الله أن يظهر اسمي في وظائف الديوان، وأترك الجامعة وآتي للوزارة. مؤخراً، علمت أن هذا الدكتور انتهت فترة عمادته، وسيأتي للوزارة على شكل مستشار، موضة الجهات الحكومية الحالية. لم يلفت الامر انتباهي سوا قبل أيام. يا الله، كنت سأعمل لدى الرجل ولكني غادرت، والآن، هو لحق بي. بالواقع كنت أحمل همه قبل أن أنتقل حينما كنت أحسب بأني سأعمل لديه، ولكنه يبدو ودوداً نوعاً ما الآن رغم أني لم أتعامل معه كثيراً. كل ما هنالك هو السلام. ولكنه يسدد نظرات، عادة تكون غير مريحة من الغير، ولكنه يشعر المرء بصفاء نيته لسبب ما. ما الغريب في أمره؟ القصة هي، أن الشخص الذي خرج من الجامعة إلى الوزارة في زمن سابق، ثم قدري قادني حينما خرجت من الجامعة وألحقني قربه بشكل ما، ينتمي لنفس عائلة هذا الدكتور الجديد، فهم أقارب، من بعيد أو قريب. تراهات، أعلم ذلك.
أجد نفسي اليوم سائم على نحو غير عادي، لدرجة أن حتى الدكتور الذي أعمل معه كل يوم، وبالعادة لا أجد مشكلة تجاهه، أجدني اليوم لا أطيق النظر إليه أو سماع صوته، وأجد لساني يتدلى حينما لا ينظر. أعتقد أن سبب هذا المزاج المتعكر هو أشياء مجتمعه، لم أتمكن اليوم من استلام بطاقة الهوية، وكذلك، ورقة نقلي لم تصل اليوم رغم أن الوعد كان أمس، وفوق هذا، الموظف البشوش أمس تغير تعامله اليوم، لا عجب، فذاك اللئيم يجلس إلى جواره في شئون الموظفين، حسبي الله ونعم الوكيل.
ما أبطأ الوقت...
ذهبت البارحة لاستلام جهاز ابن اختي، وبما أني كنت في الروضة، منطقة شرق الرياض، قررت أن أمر ببعض المحلات الأخرى هناك. كان محل برناردي للملابس لا وجود له، ولا أعلم منذ متى اختفى. ليس أني كنت أريد أن أشتري ملابس، ولكن قلت لعلي أجد حذاء جيد. توقفت عند العبيكان، اشتريت كتابين لم أخطط لهما، وشعرت بأني يجب أن أقلل من جرير، فهي لم تعد تأتي بما يلائمني. حصلت على خصم جيد كذلك بتعاون من الموظف. بعد ذلك، قررت أن آكل في فدركرز. حينما دخلت وجلست، بقيت لمدة دقائق أطالع لائحة الطعام، اقترب مني رجل بدين، عرفت فيه زميلي في الجامعة، بعينيه الغريبتين بلونهما العسلي. سلمنا وجاملنا بعضنا بالأسئلة، ثم استأذنني ليعود إلى طاولته. هذه هي المرة الثانية التي أراه فيها في مطعم منذ أن تخرجت، وفي المرة الأولى عاد إلى طاولته بنفس الطريقة، وانشغلت أنا بنفسي كذلك. تذكرت كيف كنا نجلس على طاولة واحدة مع بقية الزملاء في الجامعة، نتحادث، حيث غالباً ما كنت مستمعاً، هذا إذا جلست. الآن، نسلم فقط ونبتعد، والكل على طاولة منفردة في مكان ضيق من الجامعة، لا يوجد هم مشترك، ومن الجيد كذلك أنه سلم، فبعضهم يرمق بنظرات لا معنى لها، ثم يهرب، وبعضهم يتصنع بأنه لم يرك، ولا ألومهم بصراحة، فبعضهم لا أود أن أسلم عليه أو أراه، وهذا الأخير في فدركرز ليس منهم، فقد كان خلوقاً ومسالماً، وشديد الهدوء. ولا أتذكر بأني حادثته على مستوى عميق، أو عرفت عنه الكثير، سوا أنه يحب متابعة كرة القدم بشغف غير عادي، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الزملاء. رسب ذات مرة، لأن دكتور سوري حقود لدينا بالكلية، شديد القومية، يعلم بارتباط هذا الشاب بالكويت بشكل ما، وكانت تلك سنة غزو العراق. فحاول أن يوجه اهانات بشكل ما إلى الكويت حينما حضر الرجل إلى مكتبه لعمل ما، وحاول أن يستفزه، أفحمه الرجل. يا لصغر عقل هذا الشامي، ويا لقلة ذمة من احتفظوا به بالجامعة. رسب الطالب.
سوف يذهب الدكتور الذي أعمل معه ولن يعود قبل الاسبوع القادم. هذا سيجعلني أتفرغ جيداً لعمل الدكتور الآخر، وعمله الذي تركه لي. أرجو أن أتخلص من هذه الهموم سريعاً، فلست أحب حقاً ما أقوم به مهما بدى قليلاً ومتقطعاً.
وبذكر الدكتور الآخر، ترك العمل في يدي، وانقطعت اتصالاته لحسن الحظ، على أني أتوقع اتصاله غداً أو بعد غد. أتمنى أن لا يتصل، والله لا أدري لماذا لا أطيقه حتى حينما يكون ودودا.
لقد مررت بتجربة سيئة مع شركة الساعات اليابانية التي طلبت منها مرتين. إحدى الساعات التي طلبناها مؤخراً دخلها الماء بعد رشة بسيطة. رغم قولهم بأنها ضد الماء حتى عمق معين. يحدث هذا حتى مع شركات أخرى مثل سواتش، ولكن حينما يحدث تستبدل الساعة بلا جدال. حينما أبلغتهم ردوا بلهجة لم تعجبني، أن هذا لا يدخل في الضمان حسب سياستهم، رددت أن يروني أين كتبوا هذا؟ فأرسلوا لي الرابط. وبعد شد وجذب قالوا بوقاحة أن أرسل لهم الساعة، وسيفحصونها ويتأكدون من مزاعمي (!!) أنها رشة صغيرة وليس غوص أو سباحة. لو كانت رشة فسيصلحونها مجاناً، ويدفعون بعض مبلغ الشحن، وإن لم تكن رشة، فسأدفع ثمن الإصلاح. وأضافوا بتلميح أن أتواصل معهم عبر الايميل، حيث اتصلت فيهم من قبل عدة مرات. جن جنوني. فرددت بأني لا أستطيع أن أثق بهم. وأنهم لعلمهم برداءة ساعاتهم ابتكروا هذا الباب الخلفي للتنصل. وأن هذا غش. مع العلم أن الماء دخل في الساعة بعد يومين من وصولها. وقلت بأن شركات أخرى مثل سواتش تستبدل الساعة حينما يدخلها الماء بلا نقاش، وأضفت: ولكن هؤلاء سويسريون. قاصداً تسديد إهانة إلى عقلياتهم. وتساءلت بالرسالة طالما لا تستطيعون ضمان ساعاتكم لماذا تقولون أنها ضد الماء؟ أضفت بأني لو أردت التواصل لاستخدمت الطريقة التي تعجبني أنا. وختمت الرسالة بالقول بأني سأنصح الناس على الانترنت بعدم الشراء منكم.
لم أتوقع رداً، ووجهت أختي بأن ترسل ساعتها إلى أي مصلح. ولكن بعد عدة أيام وصلني رد من المدير الفني للشركة، واسمه غربي. يعتذر عما حصل ويبرر بأن البعض يسبحون بالساعة رغم التوجيه بعدم القيام بهذا. تكلم كثيراً في محاولة لاحتواء الوضع، وطلب مني أن أرسل الساعة لـ"تستبدل". لم أرسلها حتى الآن، لم أفرغ. ولكني سأفعل إن شاء الله.
اليوم الاربعاء. وقد كنت محبطاً بسبب موعد لأمي لم أستطع تسويته رغم استأذاني من العمل للمرة الثانية، والثالثة فعلياً إذا ما حسبنا محاولتي الحصول على بطاقة الهوية هذا الاسبوع. وصلت إلى العمل باكراً نسبياً، وبدأت العمل على أمر سخيف وممل للدكتور الذي لا يعجبني. لم يكن هناك في القسم غيري وآخر تقريباً. الدكتور المشرف مسافر، دكتوري الذي أعمل معه مسافر، الدكتور الآخر مسافر، زميلي الأقرب غير موجود. كان جو جيد لإنجاز بعض العمل، ولكن الصداع والضيق احتاج جهاداً للتغلب عليه. جاء زميل لطيف، وجلس معي يحادثني عن سفراته ضمن وفود الوزارة. كانت حكايات ممتعة، ولكن لم تشمل ما أريد أن أعرف عن البلدان لاختلاف الاهتمامات جذرياً. جاء الآخر، وهو مدير المكتب. رجل طيب جداً وودود وعملي، حادثني قليلاً، وهو يوعيني على بعض الأمور التي أقدرها، فيما يخص حقوقي وما يجب أن يكون نظير تعبي، ولكن كل ما أفكر فيه هو الخروج من المكان. كنت أشعر ببؤس لإخفاقي في تنسيق موعد أمي الضروري بسبب غياب الطبيب، رغم أنه قيل لي بأنه سيحضر، لقد أضاعوا علي من وقت العمل وصار الوضع أصعب للاستئذان لاحقاً من أجل الضرورات. في لحظة لم أستطع العمل بسبب الصداع، والصداع لا يصيبني إلا نادراً، فخرجت لأتنفس بعض الهواء الطلق بالخارج. جاءت صلاة الظهر سريعاً، وبعد الصلاة وأنا أبحث عن حذائي، رأيت وجه مألوف أمامي. مد يده وصافحني، وكل ما استطعت أن أتوصل إليه أني أعرف هذا الوجه من الجامعة. عرف عن نفسه قائلاً بأنه فلان الفلان، دكتور من الجامعة، له مظهر طالب، كنت قد حادثته حينما جاء يطلب تعريفاً في الجامعة، عن عائلته وأقاربه المشهورين. كان ودوداً، وتذكر أني المترجم هناك، تذكرني أكثر مما تذكرته. لم يفهم أني أعمل هنا الآن. ودعنا بعضنا، ولكن بعد قليل رأيته في مكتب آخر، وفهم أني أريد الانتقال من هنا إلى الجامعة، خامرني شعور بأنه يريد لنفسه العكس. عموماً، هو من الدكاترة القلة الطيبين، رغم أني لا أعرف عنه الكثير. هو من القصيم كذلك.
سعد الحوشان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ما رأيك بالقول؟