بسم الله الرحمن الرحيم
ما هو الحزن؟. لم أسأل نفسي من قبل هذا السؤال على ما اتذكر، لعلي نسيت؟، لكني تساءلت فجأة عن ماهيته، وليس تفكري المعتاد بالشعور به وتتبع اعراضه على نفسي. كان سؤال غريب على نحو ما، ذلك اني أعلم بأن الحزن هو الشعور الطاغي على حياتي، بدرجات مختلفة، والآن، أجد نفسي أتساءل وكأني لا أعرفه. لقد بت اسأل نفسي الكثير من الأسئلة في السنوات الاخيرة، أو، تداهمني هذه الأسئلة على الأصح، لسبب ما، ربما لأنه لا أحد يسأل، او يناقش أمور مهمة في حياتي.
لقد داهمني السؤال بعدما تذكرت جارتنا رحمها الله، أم عبدالرحمن، وداهمني شعور عاصر من الحزن، حتى فاضت عيناي بالدموع، بعد فترة طويلة من وفاتها. لم يذكرها لي أحد، والآن لا أدري ما أثار ذكراها، لكني لا أكف عن تذكرها اكثر من مرة، كل يوم، مع تذكري لوالدي رحمه الله، ذلك أنها مست حياتي وقلبي بكرمها وحنانها ولطف معشرها، وما قيمة المرء دون هذه السجايا؟.
لكل من الحادثين جانبه المأساوي في نفسي، وهي أسباب أشعر بأنه يصعب على غيري فهمها، فأنا لا أفضل شرحها، ربما لأني أخشى ألّا تعني الكثير لسواي في حال شرحتها، فمن النادر أن أجد من يبالي بما اشعر به، خصوصاً في السنوات الأخيرة. هذه هي الحياة، ولعل الجميع هكذا.
الحزن هو؛ في زعمي، شكل من أشكال الموت، لكنه بهيئة لمسة خاطفة، او مسّة يأس وتسليم بنهاية أمر ما، وتتفاوت قوة الدهمة، حتى تصبح عصرة، أو طعنة. والحزن لا يفتأ يذكرك بنفسه.
لقد بات الناس يموتون من حولي، قالها لي صديق قديم، جمعتني به اجمل واصدق علاقة صداقة. وجدت نفسي أقولها مؤخراً، ابكر في عمري بكثير مما كان عمره حينما سمعتها منه. لا أدري ما صنعت به الحياة، هل مات هو الآخر؟، اتمنى لو عرفت إن كان على ما يرام.
يفاجأ البعض باتخاذي المواقف الأحادية والحاسمة أخيراً، وذلك نظراً لتصرفي لزمن طويل بحذر وتميزي بالنفس الطويل والصبر، لكني وجدت ان هذه السجايا ليست اكثر من مضيعة للوقت والعمر والانتباه إذا ما صُرفت على الشخص الخطأ، ومعظم من عاملتهم بهذه الدبلوماسية كانوا الأشخاص الخطأ.
اتذكر صديق قديم كانت له ردات فعل حادة وقوية تذهلني دائماً، وتصدمني، وتضحكني في أحيان كثيرة في وقت لاحق، ولم اكن اوافقه عليها، بالطبع لا زلت لا أوافق على هذا الأسلوب العنيف معنوياً، مع ذلك، اعتقد اني تعلمت أخيراً بأن قطع الامر من قاصره كما نقول هو أمر مهم بقدر اهمية الدبلوماسية والسياسة، إن اختصار القصة الطويلة والتردد لدى الطرف الآخر أو الاستغلال هو امر يجب ان يكون خياراً حاضراً ويخضع للتقييم جنباً إلى جنب مع الدبلوماسية وطول النَفَس، حتى لا يضيع الوقت والجهد والمنح بلا طائل ولا عائد، وحتى تتضح الأمور. فقد يصبح الأمر مُستنزفاً، وتجد بالنهاية بأنك تعاملت مع طفيلي بكل ما في الكلمة من معنى، كلٌ حسب طبيعته، طفيلي المادة، وطفيلي المصلحة، وطفيلي العاطفة والمعنويات، هم من يريد أن يأخذ ولا يمنح. يمكنك أن تعطي لسنوات طويلة، مال أو جهد أو محبة، أو جميعها، لنفس الشخص، ولن يشبع، أبداً، إن الناس يعانون من جوع شديد تجاه الاهتمام الصادق، ولكنهم لا يردونه، لا يتساءلون أبداً إن كنت أنت بحاجة شيء، كل ما يدركونه هو الحفاظ على هذا الامتياز، هذا الغبي الكريم الجواد بما يحتاجون إليه، وإن أردت أن تكف، يلوحون لك بما يتوقعون انك تريده، مجرد تلويح، لجرجرتك واستعادة اهتمامك، وإضاعة سنوات من عمرك، وقد يفاجأون هم بالنهاية، حينما تصل إلى عقدة هذه القصة، أنهم فعلاً اضاعوا من عمرك الكثير، لكن لا بأس، غير مهم، إنك أنت اخترت تصديقهم، وهم لم يكونوا صرحاء، وحياتهم على ما يرام.
هذه نصيحتي. لقد وصلت إلى عمر صرت اسدي فيه النصائح، إذ يلجأ إلي الكثير من المعارف، لكن لا يبدو أن احد يستوعب بأن هذه النصائح إنما هي أخطاء حدثت، فادحة غالباً، وليست ألمعية مجردة.
جروح على شكل نصائح وحكم، لن تندمل.
إبحث عن الخط الأحمر في نهاية القصة في حال لم ترغب بقراءتها:
اعتصره الاخطبوط أخيراً، وقد خُيل إليه بأن أضلعه تلاقت واختلطت، وجحظت عيناه من محاجرها، بينما على نحو غريب لم تكف دموعه عن الانهمار. كان الاخطبوط العملاق يحتويه باكمله، جاثماً فوقه، ويتحسسه بأذرعه، ولم تكن مثل اذرع الاخطبوط المعروف، إذ كان من الواضح انها لا تقل عن العشرين ذراعاً، سرعان ما وجدت إحداها طريقها خلال كم ثوبه، وبدأت تجس ذراعه، فمرفقه، ثم بحثت الاذرع الأخرى، واحدة تلي اختها، عن منافذ إلى جسد الرجل الصحيح، وكانت اول الأذرعة قد أنشبت حليماتها في ذراعه، وغرزت فيها ما يشبه الإبر الصغيرة المحيطة بالحليمات، وكانت كل حليمة تختلج وكأنما تحاول ان تنزع ما تحتها، لكنها بدأت تركد، الواحدة تلو الأخرى، وتبين له انها تشرب دمه. كانت قد نفذت من أسفل ثوبه، وياقته، وذراعه الأخرى، وكانت كل حليمة قد استقرت في مكانها اخيراً على جلده، ثابتة لا تتزحزح، سوى من بعض اختلاج بين حين وآخر، كما تصنع الحملان وهي ترضع. لم تكن الاذرع قد مست وجهه بمجساتها، إنما مسته بظهرها الزلق بجلده الأملس الزيتي، لا تمسه من خد إلا ومست الآخر بذات الوقت، وكأن الاخطبوط يدرك الازدواجية والتناظر الماثل أمامه، ويتأمل، ثم تفرغ ذراع واحدة للمس وجهه وهي تستدير في محلها تارة، وتارة وهي تدور حول الوجه برفق، وكأنما تؤطره، بينما انسحبت الذراع الاخرى تجس ما بقي من جسمه. كان يفقد القدرة على التنفس للحظات ويظن بأنه استوفى انفاسه، ثم يرتخي الاخطبوط فيسرق انفاس سريعة وصغيرة كفأر يحتضر.
شعر بميل ضاغط على صدره، فهمهم مذعوراً وهو يزفر وانفاسه تغادره، لم يكن له أي حكم على جسمه، لكن الاخطبوط كان ينزلق برفق مائلاً من فوقه، ليرى الوجه الذي لا زال يمسّده، بينما مجساته لا تغير مكانها سوى لتبحث عن تدفق اكبر للدم. حينما أطل الاخطبوط بوجهه، رآه عن قرب لأول مرة، وهاله حجم رأسه الرخو العملاق، وهو يتأمله بعينين حالكتي السواد عصية على إدراكه، فلا يدري أهما جاحظتان مثل عينيه الآن، أم هما صبغتان على رأس الأخطبوط لا يدرك أبعادها، كانت بهذا السواد العصي على إدراك العقل البشري، إذ لم تعكس اي ضوء، وكأنما كانت عيناه تتغذيان على الضوء، ينفذ عبرهما ولا يخرج بإنعكاس. كان الاخطبوط يزحف تجاه وجه الرجل بكتلته، حتى وصل وتأمل وجهه عن قرب، بينما قلب الرجل يكاد أن يتوقف ذعراً، حتى رفع الاخطبوط رأسه، ثم ارتفع ببطئ على قوائمه وهي تنسحب بتناغم من حوالي ومن فوق جسد الرجل، بعضها باستقامة، وبعضها كالعقد واللفائف التي تنحل من تلقاء نفسها منسحبة، حتى بان فم الاخطبوط، وخرج منه طرف منقاره، فرأى الرجل الموت، وبرد جسده فجأة، واختفى الألم الذي كاد أن يقتله قبل قليل، وهدأت أنفاسه بينما كان يصارع ليشهق ما يكفيه من نسم. لكن الاخطبوط تصلب فجأة، واسترخى قليلاً وبدأ بالتداعي، والتهاوي على جسد الرجل، إلا أنه في آخر لحظة وقع جانباً ورأسه الممتلئ كالفقاعة الطويلة يرتج على الأرض. بعد ثوانٍ من السكون، انتفض جسد الرجل وتسارعت انفاسه، وقد استعاد الأمل بالعيش. سحب نفسه وهو يستدير على جانبه، بالكاد يسيطر على جسده وهو يرتجف، وقام تاركاً بعض أذرع الاخطبوط تنساب من فوقه، وهي تحرك أطرافها على نحو يسير وناعم. مشى تجاه الباب في ذلك المنزل المهجور، حيث كان قد اهتدى إليه بعدما توهم أن هناك من يناديه، بصوت هادئ، لكنه كان يصل إليه وحده، وكان قد قرر أخيراً الذهاب إلى مصدر الصوت، بعدما عجز عن المقاومة والتظاهر بأنه كغيره لا يسمع. كان يعود إلى منزله مصلياً العصر، حينما دخل بتردد. أما الآن وهو يخرج، مرتجفاً ويهذي، فقد نسي الصوت، ولم يعد يسمعه أصلاً، وما عاد يفكر بشيء سوى النجاة والعودة إلى المنزل. رغم ذلك، ولشكه في نفسه رغم كل ما مر به، حاول التظاهر بالطبيعية، وحاول أن يكتم هذيانه، وأن يسيطر على نفّاضه، وتفادى أن ينظر خلفه. سوى أن ثلة من الرجال تصادف وجودها في الشارع قد لاحظته، وصمت الجميع مذهولون من سوء حاله، ومن خروجه من ذاك المنزل المهجور الذي لا يدخله إلا قلة من الصبية المغامرين. لم يقو على الصبر، والخوف يأكل قلبه، فالتفت إلى المنزل خلفه، فرأى مجسات الاخطبوط تتمايل في الخارج، وقد تضخمت وتعملقت أكثر مما كانت عليه من ضخامة، فـقـفز جارياً وهو يصيح بأعلى صوته، مجفلاً مراقبيه المذهولين أصلاً. جرى نحو المنزل لا يلوي على شيء، وهو يهذي ولا يكاد يرى من غزارة دمعه، فقد تأكد اليوم من أن ما كان يتوهمه حقيقة، والآن هاهو يلحق به وقد تجرأ، بينما كان يلمحه فقط مروراً من بين الأزقة، ومن خلف الأبواب قبل ان تغلق تماماً، أو من بعيد يزحف على أذرعه بلا هدى على الشاطئ القريب، وكأنه لم يلحظه بعد حتى يأتي إليه، فيهرب هو قبل ذلك، دون أن يلحظ أحد بأنه يهرب من شيء ما، معتذراً من رفقة، أم مغيراً اتجاهه ببساطة حينما يكون لوحده. لطالما كان الاخطبوط حاضراً، مذكراً بنفسه في حال نسيه. لطالما جفل وهو مع الآخرين، يأكل، يشرب، يسمر، إذ يسمع زعقات حادة متداخلة، يفز منها جسده تكاد تسبقه روحه، فيوقف شؤونه، ويعتذر بأي شيء ليكف ويغادر، حتى كاد ان ينقطع عن كل أسباب الحياة؛ لا يكاد يشرب ولا يأكل دون ان ينتظر ويتحفز لصيحات النذير، يسابقها في المأكل والمشرب ليفر منها، ولا ينام بلا زيارة من الاخطبوط توقظه مفزوعاً. سوى انه لم يقربه قط، لطالما حام حوله، لا يدري إن كان يبحث عنه أو إن كان حتى واعٍ بوجوده، بقدر ما يشك هو بما لا يراه ولا يسمعه سواه.
وصل إلى منزله ودفر الباب الحديدي فأدوى، مفزعاً زوجته وعياله، إذ جاءت تجري لتلتقيه في الفناء، أمام الأطفال الذين كانوا قبل لحظة يتجادلون كما اعتادوا. وقد جاءت زوجته بسكينها، إذ كانت قد بدأت بإعداد وليمة لتلك الأمسية، حيث سيتجمع الخلق في بيتهم الضيق، إكراماً لابن عم له قد تزوج أخيراً. امسكت ذراعه بيدها الحرة وهي تسمي، وتسأله عما جرى، وهو يهذي يردد الاخطبوط الاخطبوط. رغم حبه لزوجته، إلا أنه لم يخبرها أبداً ولم يخبر أحد قبلاً بأمر ما يرى ويسمع، فقد كان يعلم يقيناً بأنه سيدمر صورته وصورة ابناءه إذا تحدث بالأمر، فهو ذاته لا يدري إن كان يصدق نفسه، حتى تأكد اليوم. وكان يلتفت خلفه وفي كل اتجاه، بينما وجهه المصفر ينم عن ذعر قاتل، جرى عائداً فجأة تجاه الباب وصفقه مُغلقاً، إذ تركه مفتوحاً خطأً، ولما التفت كانت زوجته قد لحقته تحث السير، ولكنه لم ير زوجته التي كانت تكلمه قبل لحظة؛ كانت أذرع دقيقة تتمايل خارجة من أكمامها، وذراعها البيضاء ذاتها قد رصعتها حليمات ماصّة تختلج، أما وجهها فقد استحال رمادياً، بأعين لا حدود واضحة لها ولا سبر لغور سوادها، وفم لا يكاد يلحظ، وكأنه شطب حاد، صاح بأعلا صوته وسحب سكينها من يدها وجرها من يدها الأخرى وطعنها. كان صياحها كصفير غير آدمي يكاد أن يشق اذنيه، بينما تقافز أطفاله تجاه الباب يتصادمون كلن يحاول أن يفتح، حتى خرجوا بعضهم لا يدري إلى أين يهرب. كان وجه زوجته قد رقد على كتفه، وسمع منه حشرجة تشبه الغرغرة، فسحب سكينه إلى أعلى تجاه صدرها، وتوقف وهو يشعر بقلبها ينبض على جانب السكين، وظل ممسكاً إياها بصمت، حتى كف الصوت، وكف النبض فأفلت السكين وابتعد موقعاً إياها، ورآها ترتج على الارض، وكأنما خلت من العظام وباتت بلا قوام. وقف يتأمل الكائن الماثل أمامه، ولم يتساءل أين زوجته، وقد كفت الأذرع والمجسات عن حركاتها الخفيفة تماماً. لكن شق بطنها حيث بَقَرَها اختلج، وانبثق بثبات منه ما يشبه الجذع اللحمي مستقيماً، سرعان ما بانت أذرعه العديدة تحته، ثم ارتخى ووقع جانباً رفقة صيحة مدوية من الرجل، الذي سرعان ما فقد القدرة على التفكير والاستيعاب لسماعه بذات الوقت، صوت طنان مجلجل يصم الآذان، ما بين صياح آدمية ونهيم فيل، وكان هذا نذيراً يقترب من منزله. فركض خارجاً من المنزل، وقد خرج الناس من بيوتهم باضطراب شديد، ولم يملك أحد حتى هداية القبض على الرجل وتهدئته، إذ جرى يهذي ويصيح كالحيوان المُروع، دموعه تمطر ولعابه يقطر ويتصبصب. جرى الآن بين البيوت وفي الشوارع الضيقة يريد أمه، إذ لم يعد يتذكر سواها. لقد أعاد الخوف الشديد فكره إلى أبسط حالاته؛ لن ينقذه سوى امه، لا أحد يريد سلامته سوى أمه. تشتت انتباهه وهو يرى بعض الدكاكين والأبواب التي لم تتغير منذ طفولته المبكرة، فضحك ببساطة من بين دموعه، واختفى الهذيان ثم جفت الدموع، على أن لعابه ظل يتطاير حوالي ابتسامته الواسعة وهو يجري. تذكر لحاقه بإخوته وأخواته الأكبر سناً منه إلى هذه الدكاكين، بسرواله القصير، ورداءه الشامر الذي يكشف عن نصف بطنه المستدير بروزاً، بينما كان قد أغلق الباب خلفه حتى لا يخرج الصغيرين خلفه، كان في الخامسة، وكان اخوه واخته الأصغر لم يتحدثا بعد، لكن كانا يبكيان في كل مرة يخرج لوحده من المنزل، ويغلق الباب دونهما. تذكر اتجاهه الفطري بلا تفكير إلى هذه الدكاكين حيث يجتمع العديد من أطفال الحي، يلعبون في الساحة الصغيرة مقابلها، وكان كثيراً ما يتجه إلى أخته الكبرى في البداية، ثم يعود إلى اخوه الأكبر ليسمع ما يقول هو ورفاقه. كان يشعر بانتباههما له، حتى اخويه اللذان يصغرانهما كانا يوليانه اهتماماً. كان هذا ارث التربية والتشكيل على يدي والدتهما خصوصاً. لم يتغير الأمر كثيراً حتى كبر هو، ورغم ان اموره سارت على ما يرام مبدأياً رغم ضعفه الفكري بالمقارنة، إلا أنه فقد الإهتمام الذي تمتع به حالما اشتد عوده، فظل هشاً، قصير النظر، متأخراً قاصر النباهة، فكان بالكاد يستفيد إذا ما أصاب رزقاً، إذ ظل يدفع ثمن سوء تدبير إخوته، ذوو الطموح وحب الحياة، حيث توجب عليه هو الاهتمام بهم في أحيان كثيرة، حتى ضعف حاله واستُنزف، فلم يكن يقوى على رفض طلب، ولم تقو زوجته الصالحة على تقويمه، وبهذا إلى جانب هشاشته الفكرية عانى هشاشة مادية.
تذكر شجار اخوه واخته الكبرى ذات مرة أمام الدكان، وقد علا صوتهما، وخرج صاحب الدكان المسن يحاول ان يهدئ الحال، ويسأل الفتاة ان تعود إلى المنزل، ليُبقي على الصبي لديه، لكن فوجئ الجميع بشقيقه الأكبر يقبض على شعر أخته ويشده تجاه الأرض، تعالت صيحات الفتيات الحاضرات، وتقافز الصبية الكبار ليوقفوا هذا العنف، بينما وقف أخويه ينظران بذهول وخوف. صاحت اخته صيحة قصيرة وهي تقاوم، وكانت شياطين شقيقه الكبير قد استولت على إرادته، فلم يكف. فوجئ الجميع بصيحة حادة فبكاء مُروع، كان هو قد فقد القدره على تحمل ما يرى واستيعابه، فأفلت اخوه اخته، وجرت هي تجاهه واحتضنته بأمومة غريزية.
كان جريه تجاه منزلهم قد استحال هرولة، وكان يشعر بثقل وحرارة وكأن هناك ما يسحبه للخلف بخفة، بدأت ملابسه تضايقه، وقد شعر بأنها واسعة مُعيقة، وما عاد الحر يُحتمل، رغم كونه الخريف بهواءه العليل، لكن لم يكن للجو ولا المحيط ولا الحضور ولا البيئة تأثير عليه في تلك اللحظة، فتخلص من ملابسه دون ان يتوقف إلا لهنيهات، حتى تعرى كما ولدته أمه، وشعر بأنه بحال أفضل، وأنه بات أسرع جرياً حتى، وقهقه كطفل بالخامسة وهو يسابق الهواء. إلا انه وجد نفسه في مكان لم يألفه، أو لم يتذكره، وكان في نظره غشاوة، وأخافوه القوم الذين خاطبوه ولا يدري ما يقولون، وبدأ بالتعبر، لا يريد أن يبكي، وبات يسير باحثاً عن بابهم القديم. كان بنفس المكان، لكن لاضطرابه تأخر بملاحظته حتى سمع صياح قادم منه والباب مفتوح، فجرى فرحاً، ولاقته امه رافعة يديها تبكي وتصيح، امسكته وجلسا أرضاً، وسرعان ما استلقى على الأرض متوسداً فخذها، وهو مبتسم فرح، وكأنما لتوه عاد من اللعب وهاهو يتذكر ما فعل والأطفال. بينما أنّت والدته وانتحبت، إذ كان أحفادها قد وصلوا قبله. جاء والده لا يكاد يقف، يبكي هو الآخر، وجلس خلفه ووضع يده على خصره العاري. كان الجميع يبكي، حتى أخته الصغرى التي وقفت تحرس الاطفال على باب الغرفة، كانت تنوح كالثكلى. لم يدرك هو اصطباغ بعض جسده بدم زوجته، ما نفذ من ثيابه. كان أشبه بالحلم الجميل، أجمل ما عرف في حياته؛ حضن والدته الآمن. لكن عاد فجأة ذلك الصوت المروع، وكان أعظم وأشد ترويعاً وشؤماً، وكأنه إرعاد معادن ترتطم بالأرض وتصطك مع نهيم الفيل الذي سمع قبلاً، فارتعدت فرائصه وانتفض من رأسه إلى اخمص قدميه بعنف وقد استقعد فجأة ليرى القادم، فرأى أذرع عملاقة بعضها يتلاطم وبعضها يجر ما خلفه عبر المدخل الصّاد، فصاح بيأس مرة، ومرة أخرى وهو يقذف برأسه في حضن والدته التي تصيح لصياحه، وصاح صيحة ثالثة يائسة، مغمض العينين، مستميتاً، ولجة إخوته وهم يتدافعون عبر المدخل مدفونة بذلك الإرعاد والنهيم.
تمت
_____________________________________________
إني انا كبرت بكل تأكيد، وتغيرت كثيراً، لقد بت كهلاً. وفيما يتعلق بالجوهر على الاقل، أرجو اني بت أفضل مما كنت عليه، إذ أراقب نفسي، ولا علاقة لهذا بالسعادة، فلست سعيداً، إنما أرجو أن يكون له علاقة بالرضا والقناعة مع الوقت. ما لم يتغير هو الحظ، والحمد لله أولاً وآخراً.
بقايا صبا…
معلقة بأهداب الكهولة…
شيء من أناقة الحضور…
تفلت من قبضة اللامبالاة…
أحياناً، اشعر بالقهر من بعض الغبيات في المستشفيات، سواء طبيبات أم فنيات، حينما أذهب مع والدتي لموعد او لفحص. لا ادري إن كان موقف نسوي، أم أمر آخر، لكن لا يردنني ان اتحدث وأجيب، في حين أن والدتي مسنة وسمعها ضعيف بحيث تحتاج إلى سماعة، ولكن ترفض لبسها، وإن سمعت لم تستوعب اللهجات التي إما تكون بيضاء أو غير أصلية من جهة الحجاز. مضيعة وقت، وتفاهة.
بعضها يتمطط…
لا يكاد ينتهي…
وبعضها يتسفط…
كبراشيم امتحان نهائي…
تلخص بعضها الذي تمطط!…
إنما هي أيامي تتشابه فقط…
اعبرها بغياب وعي…
كل يوم كالذي فَرَط…
سوى ان بعضها لا ينقضي…
وبعضها سهواً سقط!...
وكأنها عجينة في يد خباز…
سأم الحياة وقنط…
عقله إلى أحلام اليقظة انحاز…
وقضى حياته يجمع ثم يمط!…
افطن أحياناً…
فأجري نهباً كالقط!…
أسابق أيامي إنجازاً…
أتجاوز الصفحات إذ أنط…
والصفحات تتقلب تكراراً…
تزل قدمي وأنا اهبط…
فارتد بذهول المصدوم مرتطماً…
اتدحرج عبر الصفحات إذ أسقط…
فاستحيل ماء زلال…
انساب متطايراً ناثراً النقط…
تمتصني الأيام حد الاضمحلال…
حتى انتهي أثر لدمع على الورق سقط…
مرة أخرى، كتب بي نسيبي قصيدة. لم أعتقد أني استحققت الأولى حتى. إنه لأمر نادر أن يشعر المرء بالتقدير على هذا النحو. لا أعتقد بأني وردت بقصائد والدتي العزيزة سوى مرة واحدة، وكانت القصيدة بالواقع عن أختي، كنتُ أداة بلاغية فيها.
إن نسيبي هذا يحتفظ بحب خاص لي، كما احتفظ له، وهو يحرص على أن أرافقه إلى الاستراحة والمزرعة في كل مرة نزور القصيم، ويحرص على الاستماع لما أحب أن أتكلم عنه حتى لو لم يكن ضمن اهتماماته، وهو أمر نادر جداً. لقد وقف معي وانتبه لي يوم توفي والدي رحمه الله كما لم يفعل أحد ممن حولي، وفي العزاء بعده.
بالواقع، أجد من أنسابي ما لا أجده من إخواني. لكن ربما لوثيق علاقتي بشقيقاتي دور في هذا، معرفتي على نحو لا يهتم به اشقائي.
إني لا أوفيك حقك يا صديقي العزيز، كل ما أرجوه هو أن استحق هذه المحبة والتقدير، وأن أكون عند حسن ظنك بي يا كبير القلب.
أمر عجيب، الصديق اليوناني الذي غادر إلى بلده ولن يعود، عاد فجأة للتواصل معي، رغم الانقطاع الطويل من طرفه. لقد سعدت ايما سعادة حينما سمعت صوته. تصلني أهم اخباره عن طريق الاصدقاء اليونانيين الذي لا زالوا لدينا، وأفرح لأخباره السعيدة، لكن لم أحاول التواصل لتهنئته على شيء. إن تجربتي في التواصل بعد انقطاع ليس من طرفي، هي تجربة سيئة، لم أعد مبادراً إلا في حالات استثنائية آمن فيها على نفسي، أو أعتقد بأني سأقابل بالتقدير على الأقل. أخبرني بأنه لم ينسني لكنه مر بظروف غاية بالصعوبة لفترة طويلة، وأنه وأسرته يتذكرونني كثيراً، إذ تحثه زوجته دوماً على الاتصال بي. كان قد أتى لي ولوالدتي ببطاقتي دعوة إلى زواجه في اليونان قبل سنوات. لا تحضر والدتي المناسبات هنا إلا في القليل النادر، ناهيك عن الذهاب إلى اليونان، لكن كم تمنيت لو حضرنا. أخبرني بولادة ابنة له أخيراً، وكنت قد علمت بهذا من الاصدقاء هنا، لكني تصرفت وكأنما لم أعلم، والفرحة صدقاً متساوية؛ فلطالما أراد الإنجاب. حينما أخبرت والدتي، سألَت إن كان البريد يصل إلى اليونان، حتى ترسل إليهم الهدايا للطفلة والأم.
ومن جهة أخرى، سمعت من صديقي الصيني الذي حسبت بأنه كف عن ارسال الرسائل، وكنت أخشى بأني اخطأت بأمر ما، عدى اني لم أجد ما يمكن ان يكون خطأ من طرفي، ربما كان مشغولاً، تزدحم لديه الاولويات. هو استاذ الآن بالجامعة، وعكس اساتذتنا، يعمل بحق، ولا يمكن للاستاذ الجامعي ان يستمر هناك ما لم يعمل بجد وأمانة، عكس ما لدينا هنا. فوجئت لاحقاً برسالة، يبشرني فيها بميلاد صبي له، وتحتها رسالة طويلة كان يريد إرسالها لي ولكنه ارسلها لنفسه بالخطأ، قبل اشهر، وكان هذا واضحاً، وقد سعدت بها، وقد أجلَت همومي ووساوسي بالإثقال عليه. وسرعان ما اكتشف هو من طرفه هذا الخطأ وأرسل إلي معتذراً، وكان هو الآخر يتعجب من عدم ردي على الرسالة التي لم تصلني.
هذه اخبار سعيدة نادرة.
أنقش بالفضاء احلامي...
بقلم مداده الحرير…
انسج به الحكايا والأماني…
ازخرف بها جدران خيالي…
تراني ارسم بالهواء هواي…
ادور وارسم الدوائر من حولي…
فتستحيل وجهٌ حسنٌ مستدير...
لطالما راود مناماتي…
يتابعني الجميع مذهولاً…
ما بين موافق ومُنكر الكل مأخوذاً…
وأنا ارسم بالفضاء بحرير يطير…
من اللوتس الكمبودي مسحوباً…
يكفهر الوجه فجأة…
فتضيق الدوائر علي مغدوراً…
ويستحيل حلمي الحريري مِخنقي…
وكفني…
وغيابي…
يمكن للمرء ان يحرص قدر ما يشاء، تظل الزلات واردة وقريبة اكثر مما يتصور، ولا يجب ان يَعجب او يفاجأ إذا ما ارتكب خطأ، سوى أن يدعو الله فقط أن يجنبه الاخطاء الكبيرة التي لا عودة منها ولا تصحيح لها.
أيقنت بهذا بعد أن كثرت اخطائي مؤخراً، إما بسبب الغفلة أو بسبب النسيان.
يعرف المرء انه بات يضعف حينما يرى ذلك في عيون الآخرين. تبدأ الاحضان تزداد صدقاً، وكفايتك تصبح هماً وشاغلاً في أحيان كثيرة، فقط من اصدق المحبين.
لكن، جل ما تخشاه هو استنزاف الآخرين كما استُنزِفت انت. تأخَّر الاهتمام، ولا تدري إن كان له جدوى، إن كان سينقذك. تبات تخشى أن كل حضن وكل كلمة طيبة إنما تنقص من رصيد محدود لم تكن تعلم بوجوده، وأن كل كفاية مجهود هي نفاد من صبر لا تدري حجمه، تخشى من هذا التطوع أن ينضب، لأنك لم تعتد عليه، وتخشى ان تعتاد عليه، فتتحول الخشية إلى ذعر، وتضعف أكثر فأكثر، بفعل الخوف والشك، وعدم الوثوق بثبات البشر.
حلقات مفرغة...
بعد عقود، تكتشف ارتكابك أخطاء قديمة في حق آخرين، إما انك كنت قد نسيتها تماماً، أو انك لم تدرك مدى شناعتها سوى الآن. ماذا فعلت؟! تتساءل مصدوماً، ولماذا؟! بعدما تدرك أنه حدث فعلاً بكل أبعاده. ستعذبك هذه الاسئلة، ولن تجد إجابات مقنعة، وربما كلما تساءلت أكثر، كلما ازددت جهلاً بالسبب. سيؤسفك حد الإنهاك معرفة انك بالواقع خالفت ما توقعته من نفسك طوال حياتك، ولن تجدي معرفة السبب شيئاً. قد لا تفهم أبداً لحظة الخطأ، أو تتقبلها وتجد لها مبرراً، وستبدأ بالتساؤل إن كانت مثل هذه اللحظات في حياة المرء هي ذات المعنى، هي ما يحدد ما يكون المرء، فهو لا يمكنه ان ينكر أنه ارتكب تلك الأخطاء أمام نفسه. تتمنى لو كنت قد اخطأت في حق نفسك فقط.
لماذا بعد هذا العمر؟، بعد هذه العقود؟، لماذا الآن بالتحديد؟. لا أملك الإجابة، ولا أدري لماذا على وجه الدقة داهمتني هذه الذكريات، اللحيظات التي أشعرتني بالصغر الآن، بينما كنت أعيش على ما يرام إلى حد بعيد، في نظرتي إلى نفسي عموماً؛ أضلع، لكن اسير. هل من الكذب أن يقول المرء لنفسه بأنه لا يفهم تلك الدوافع والقرارات، لأنه شخص مختلف الآن؟، مثل انتقال الناس ولحظات الانقلاب في حياتهم، كحينما يقبلون بالإيمان بدين جديد؟. هل أخذ الانقلاب مني عمراً كاملاً، حتى أصبح شخص آخر الآن، مختلف تماماً، لا يفهم ما كان عليه سابقاً ولا يستطيع استيعابه؟ يصعب علي قول هذا، إني لا أشعر بأني انقلبت على مبدأ، إذ لطالما كانت لدي نفس المبادئ، لذا، لا يمكنني فهم الأمر على نحو حاسم، فهم تلك الأخطاء. مع ذلك، لا يمكنني القول بأني لم اتغير، تعاطيي مع تلك المبادئ، وفهمي للحياة؛ لقد كان يشوب أيامي ومواقفي سوء الفهم في أحيان كثيرة، رغم حسن النوايا، ومع زوال أسباب سوء الفهم من تسرع وأمل زائد وتوقعات في غير مكانها أو أكبر من مكانها، يمكنني اعتبار هذا تغير تام، انقلاب إن شئت، في نفسي وشخصيتي، يمكنني القول بأني لم أعد ذلك الشخص قبل عقود، لقد وعيت الشوائب منذ زمن الآن، وتعلمت من اخطائي، فتغيرت تلقاءاً. لا يعني هذا أنني لا أخطئ ولا اتسرع ابداً، يحدث، لكن ارجو ألّا يكون طبعي، ولا تجاه ما يهمني.
ورغم ان هناك تلك الأخطاء التي أندم عليها في حق غيري، التي لم ترتكب عن حسن نوايا، مهما كانت المبررات، سواء ردود فعل أم مبادرات، هل يمكنني ان أقول: عفى الله عما سلف؟، هل الأمر بهذه البساطة؟. لا يمكنني سوى ان أتساءل في ضباب الندم، الذي هبط علي من حيث لم احتسب، وغطاني وأخفى دربي، اتنفسه وهو يأكلني من الداخل ويكاد ان يهلكني، وكأنه سم.
تستمر الحياة…
أجلت حزني أيام الصبا…
حبسته في قلبي قدر المستطاع…
صبرت كثيرا عن البكا…
حتى نسح الدمع من قلبي…
وروى جذور حزني في الحشا…
مررت مؤخراً بأحد أسوأ ظروف حياتي، وقد نال الأمر من صحتي ما نال، ولم أكن بخير أساساً حينما وقع المصاب. تعرضت والدتي لحادث بالمنزل، لا أعاد الله الشر، والأسوأ أنني كنت في الوضع الطبيعي لن ألاحظ إلا بعد ساعات طويلة. سبحان الله، كان ذلك اليوم هو بداية إعطائي لوالدتي مضادات حيوية كل بضع ساعات، بتوصية من طبيبة. كففت منذ فترة طويلة عن إعطاء والدتي أدوية في الفجر، ذلك اني نسقت الجرعات على نحو مختلف. لكن كان من الضروري تلك الليلة أن أذهب إليها قبل الفجر لأعطيها المضاد، لأول مرة منذ زمن. طرقت باب الجناح ولم تجبني، لكني حينما حاولت أن أصغي سمعت أنين طويل مستمر. اتصلت بالجوال فأجابتني بجهد لتخبرني بأنها وقعت ولا تستطيع الوقوف، ولا يمكنها أن تطول مقبض الباب. جريت مذعوراً إلى أخي، بعدما حاولت كسر الباب بلا جدوى، أخبره بالأمر ليعاونني على فتح الباب. هو أفضل تدبيراً مني حينما يتعلق الأمر بهذه الأمور بكثير. جاء بعتلة وصنع فرجة بين الباب وإطاره، وبضربة بسيطة مني انكسر الباب ودخلنا. وجدت والدتي قد زحفت إلى غرفتها زحفاً. كانت قد خرجت لتتوضأ لصلاة الفجر، فزلت قدمها ووقعت. خشيت بشدة ان يكون الحوض قد انكسر. اتصلت بالطوارئ، وأخبروني بألّا أحركها من مكانها.
لم أكن أدري كم من الوقت أمضت قبل أن اكتشفها، لكن ما راعني وأمرضني فوق مرضي لفترة طويلة قبل هذا؛ هو اني لو لم اكن لأعطيها الحبة لأول مرة فجراً، لربما ظلت في مكانها، وذهبتُ حتى للعمل في الصباح، ولا أدري متى ستكتشفها الخادمة، وهي في برد الغرفة المكيفة تتألم مكسورة ومبللة بعد الوضوء، ولا ادري كيف ستهتدي الخادمة إلى فتح الباب، وكم من الوقت سأستغرق للعودة إلى المنزل حينما أعلم. لا أدري لماذا لم تهتد والدتي للاتصال بي مباشرة. قالت لي بأنها لم تقع قبل وقت طويل من اكتشافي لها، لكن تقديرها للوقت غير دقيق غالباً. غطيتها بالبطانيات لألا تبرد، وجفف أخي مدخل الجناح، بينما ننتظر الإسعاف. حملناها إلى السيارة برفق وحذر، وقد رفعوها ببطانية على المحفة، أعتقد للحفاظ على وضعها نفسه دون حركة مفاجئة او قوية. سألوني إن كان لديها ملف في المستشفى الجامعي، نحن نراجع هناك. لكني أعلم بأن المستشفى على غير وفاق مع وزارة الصحة والهلال الأحمر منذ زمن بعيد، ولا يتعاون معهم دائماً في الطوارئ. وقبل سنوات طويلة، قيل لي بأنه لا يستقبل كبار السن في الطوارئ ابداً. قالوا بأنهم سيتواصلون مع المستشفى، وإن لم يستقبلنا فسنذهب إلى مستشفىً آخر. يبدو انه أجابهم بالموافقة، إذ حينما وصلنا كان بإنتظارنا طبيبة وكانت تعلم من تكون والدتي، إذ يبدو انهم زودوهم برقم الملف. كان اداؤهم سريع في الإسعاف، ولم يكن مزحوماً عموماً لحسن الحظ، لكن كان اهتمامهم ورفقهم بمعاملة والدتي أمر لم اتوقعه، كانت الطبيبات مهتمات ومتفهمات ومهذبات، وكن الممرضات غاية بالحنان والاهتمام. أُخذت اشعة مبدئية، وكان الأمر مطمئناً، ثم أُخذت أشعة أخرى لاحقاً، فتبين بأن الكسر بالواقع في قمة الفخذ، داخل الحوض، لكن الحوض لم يصب بأذى، والحمد لله أولاً وآخراً. جاءت أختي من القصيم مباشرة لترافق والدتي في المستشفى، حيث تقرر إجراء عملية في اليوم التالي، إذ كانت شقيقتاي الأخرتين لتوهن شفين من كورونا، وكانت الفحوص الطبية للمرض تأتي إيجابية، فلم يكونوا ليسمحوا لهن بالمرافقة. في آخر الليل، فوجئت بأختي تتصل، إذ أنهم فحصوها ليتأكدوا من خلوها من كورونا، وتبين أنها مصابة دون أن تدري، فأخرجوها من المستشفى مباشرة. كانت والدتي في جناح عزل، ليس لأنها مصابة بكورونا، لكن خشية ان تصاب، خصوصاً قبل العملية. ولديهم نظام غبي، ولعله في كل مستشفياتنا؛ يجب أن يرافق المريضة امرأة مثلها، ولا مجال للنقاش، رغم أن والدتي في غرفة مستقلة لأنه جناح عزل، ولم يكن جناح للنساء فقط كذلك، ففي كل غرفة إما رجل وإما امرأة، وليس كالأجنحة العادية.
ذهبت في اليوم التالي وقضيت وقتي في المستشفى، استجديهم ليتركوني أطل على والدتي من الباب فقط، أريد ان اطمئنها بأني موجود وكان صوتها قد بدأ بالاختفاء لكثرة الصياح والمناداة، وكانت تعتقد أني السبب بتركها لوحدها، وأني في كل مرة أذهب واتركها بلا اهتمام. بينما يتم إخباري بمغادرة الجناح بسرعة في كل مرة. انتظر بالخارج، حتى يفتح أحد الباب فأعود مجدداً استجدي. أُسقط في يدي، ولم أعرف ما أفعل. تقرر ان اسأل الخادمة إن كانت لا تمانع مرافقة والدتي، وافَقَت بلا تردد، وهو معروف منها لن أنساه ما حييت. في صباح اليوم التالي ذهبنا، وكانت الإجراءات شديدة الصعوبة، إذ صار من المطلوب وجود ملف للمرافق في المستشفى، وهذا يحتاج إلى موافقة، والموافقة تحتاج إلى تقرير يفيد بحاجة المريضة للمرافقة، والتقرير يحتاج إلى موافقات، ثم القيام بفحوص كورونا، ثم انتظار النتيجة، قبل السماح لها بالدخول للمرافقة. وجدت نفسي لوحدي بالأزمة، ولا يمكنني التواجد بمكانين بذات الوقت، ولم يهتم أحد للقدوم والمساعدة، فيما لم يسمح حارس الأمن اللعين بدخول الخادمة، فضلاً عن الاتصال بي والنهيق بالهاتف غاضباً من تركها بالمدخل، قاتله الله وابتلاه في نفسه. بعد القيام بكل المتطلبات، أخبروني بأن انتظر نتيجة الفحص، وأن أعود إلى المنزل. تبرعت بالبقاء مع والدتي زوجة خالي العزيزة، وزوجة أحد إخواني وهي دوماً سبّاقة رغم ظروفها الصعبة، لكن الإجراء لمرافقة الخادمة كان قد بدأ، ومن المضيعة البدء بإجراء جديد. في الليل، علمت ان الخادمة لائقة صحياً للمرافقة، فأخذتها إلى والدتي، وبصعوبة أدخلونا، وهم يضعون على مدخل الزوار رجال لا يبالون بظروف الناس، قلوبهم قاسية عن عمد، لؤماء ولا يفهمون. كانت أمي قد خضعت للعملية بالفعل، وقد بلغ بها الإحباط مبلغه لما بقيت بالغرفة لوحدها طوال هذا الوقت. لا يمكن تخيل طمأنينتي النسبية حينما بقيت الخادمة مع والدتي، فجزاها الله عنا خير الجزاء. والدتي لم تتخل عن فكرة تركي لها هناك عمداً، رغم أني أقضي ما استطيع من يومي أمام جناحها، لأدخل كلما استطعت لألقي عليها نظرة من الباب لأطمئنها، وأخبرتني الخادمة بأنها تصيح بأعلى صوتها منادية بإسمي لأخرجها من المستشفى طوال الوقت حينما أعود إلى المنزل ساعة المغرب.
كان طاقم التمريض غير متعاون معي تماماً. وعند الاتصال بهم لتسليم شيء، كدواء لوالدتي احضرته من المنزل ليراه الطبيب، يخبرونني بأنهم سيفتحون باب الجناح، لكن يتجاهلونني ببساطة بعد انتهاء المكالمة. لم يفهموا ابداً وضعي ووضع والدتي، وما كنت أحاول أن أقوم به. كان هناك برود عجيب ولا مبالاة وعدم تفهم أشعرني بوجود علة نفسية وإنسانية لدى الطاقم هناك. مع ذلك، استمريت بشكرهم دائماً، فلم أرد أن استفز احد قد يتهاون بعد ذلك في أمر والدتي، رغم رغبتي بالبصق في وجوه بعضهم وبعضهن، مع وجود ممرضة واحدة عاقلة ومتفهمة، هندية كبيرة بالسن، ولكنها لم تتواجد دائماً. كما كان الطبيب الذي رآنى بالطوارئ يأتي إلى القسم، وقد اتصل علي بعد العملية ليطمئنني بنجاحها، إلا انه لم ينظر برسائلي عندما أردت أن أخبره بوجود دواء مهم غير مذكور في ملف والدتي، وكنت قد أخبرته عنه في الطوارئ، حيث بتنا نراجع طبيب في مستشفىً خاص لهذا الشأن حينما ضيقوا علي ومنعوني من الدخول مع والدتي في عيادة النساء العامة. لم يجب على المكالمات حتى. تبين بأنهم لم يعطوها الدواء لسبب ما، شعرت بالقهر، لا أحد منهم يتواصل معي رغم تركي لرقمي، ولا مبالاة لدى الممرضات رغم اتصالي الدائم وحضوري حتى المغرب. أخيراً استجابوا لسؤالي ونقلوه للطبيب الآخر، وأحضرت لهم علبة منه ليعطوها، لكنهم أعطوها من عندهم على ما يبدو. أما الطبيب السعودي الذي رفض التعاون، فقد رأيته لاحقاً يأتي إلى القسم بإستمرار، ويتميلح أمام الممرضات ويقول بلكنة سخيفة من طرف خشته الواسعة المطاطة الغريبة: مام، يريد أن يقول سيدتي، والممرضات التافهات سعيدات بالاهتمام، الذي لم يكن اهتمام موجه للمرضى للأسف.
وفي اليوم الأخير، دخلت لحسن الحظ حينما فُتح الباب المقفل الكترونياً، ووقفت أمام غرفة والدتي، وكانت في غاية الغضب، وقد أصبحت في ذلك الحين توبخني كلما رأتني، فيما كنت أهدئها، فسمعت من خلفي من يقول باللغة الانقليزية هذا ابنها هذا ابنها!، فناداني طبيب مسن ومعه طبيبة شابة، وأخبروني بأنهم أرادوا التواصل مع أحد من ذوي والدتي. سبحان الله على الغباء أو اللا مبالاة، تركت رقمي مع الممرضات، فضلاً عن ربطه بملف والدتي، فضلاً عن وجود الخادمة التي كان يمكنهم اخبارها لتتصل بي. ولو لم أدخل وبقيت في الممر بالخارج كما أضطر معظم الوقت لما عرفوا اني معني بالأمر. كان الطبيب المسن هو طبيب والدتي الرئيسي حينما كنت في الجامعة، وقد روعني ذات مرة حينما أخبرني في الموعد بأنها مصابة بالسرطان، ولن تعيش كثيراً، وقد بكيت ذلك اليوم حتى تعبت، وذهبت إلى الجامعة بوجه راع من انتبه، وقد أحالنا إلى طبيب والدتي الحالي، الذي طأمننا، وعالجها بنجاح ولله الحمد والمنة، وبعده له الشكر. تبين أنهم يريدون سؤالي عن بعض التفاصيل، وأخبروني بأنها ستخرج اليوم. كما أخبروني بأن طبيب والدتي الوحيد الذي نراجعه بالمستشفى قد فوجئ بدخولها إلى المستشفى، وأنه حاول الاتصال بي (يعني كان يمكنهم أخذ رقمي منه). سرعان ما وصلني اتصال من طبيب والدتي الطيب، وقد كان مصدوماً من الخبر. أخبرني بأنه سيأتي ليطمئن عليها حالاً. لم يطل الانتظار، ولما جاء حياني وتحمد الله على سلامة أمي، لم تكن استجابتي واضحة، ذلك أني لم أكن على حالي المعروف قبل الحادثة أساساً، ناهيك عن حالي بعد الحادثة وقد تدهور أكثر. وحينما دخلنا الجناح طلب ردائين معقمين لي وله، فقالت الممرضة بأنه يمنع علي الدخول، فرد بأني يجب أن أدخل لأترجم (لأن والدتي لا تسمع جيداً وقد لا تفهم لهجته، وربما هو لا يفهم لهجتها). سلم على والدتي وكان صوتها بحوح مكتوم يكاد لا يُسمع لكثرة الصياح الأيام الفائتة، ردت سلامه وسألها عن حالها، اوصلت لها ما قال، فقالت بأنها بخير وأن عليه ان لا يخرج قبل أن يكتب خروجها، فوعدها بذلك، لعلمه بأن طبيبها قد وافق على خروجها بالفعل. أعطاني توصياته فيما يخص الأدوية التي يعطينا، وأدوية اضافية مؤقتة.
جاء طبيب شاب من فريق طبيب والدتي، وكان لطيفاً، وشرح لي بعض الأمور، وسألته عن بعضها فقال بأنه سيسأل ويخبرني. سألته إن كان هناك رقم مساعد أو مساعدة يمكنني الاتصال به في حالة أردت ان أسأل، اعطاني رقمه بتردد، ووعدته بأني لن أزعجه. لكن كسرت الوعد بعد عدة ساعات حينما لم يتم كتابة الخروج بالنظام وتأخر الوقت كثيراً وخشيت أن يغادروا المستشفى قبل كتابته. وعدني بأنه سينظر بالأمر، وفوجئت به يأتي قبل نهاية دوامه ليخبرني بأن الطبيب سيكتب الخروج، و قد جاء ليصحح لي معلومات ويجيب عن اسئلتي. جزاه الله خير الجزاء.
حينما خرجنا، قالت والدتي بالسيارة بأنه لا فرق بين الخروج والمكوث بالمستشفى، وأنه كان من الأجدى لو بقيَت. انفجرت الخادمة ضحكاً.
أمي، حبي لك لا يكاد يُحتمل، لا يكاد يُحتوى، إنه يُبقي قلبي على حافة السكوت، ويُبقيه ينبض بنفس الوقت، ويُبقي الحياة ضرورة.
لم يكن حب والدتي هو الحب الوحيد الذي عرفته في حياتي وإن يكن الأكبر والأعظم بطبيعتي، وليس بطبيعة الحال. لكن ما عرفت سواه إلا حب يُذبل القلب، وحب يحطمه، كلها بلا طائل، وغير متبادلة، وأنانية مليئة بالأكاذيب.
إني محظوظ بالتعبير أكثر من كثير سواي؛ ها أنا أقول وقلت قديماً ما يعطي فكرة عما أشعر به.
حتى عن حبي للآخرين، لقد عبرت عنه على مر السنوات، منذ أيام الشباب، بحيث أثق الآن بأنهم لديهم فكرة عنه، ربما مداه عصي على خيالهم فلم أحب يوماً شخصاً ذكياً، إلا أنهم لديهم فكرة، ولديهم فكرة عن إقامتهم الطويلة في قلبي، ليس لمزية فيهم، إنما لصدفة أنه لم يأت أحد ليزيحهم، فحياتي محدودة، وحظهم بغبائي كبير، فمثلهم لا يُحب.
لكن من يدري، لم يأت غيرهم ليزيحهم، لكنهم فقدوا أهميتهم كثيراً مع ذلك.
أحاول أن اذكر نفسي دائماً أني أسعد حظاً من كثيرين، كان من الممكن للكثير من الأمور أن تكون أسوأ، وأذكر نفسي بأنه قلما يعتقد الإنسان باستحقاق إنسان آخر للسعادة أكثر منه، وهذه نزعة يجب أن أعيها جيداً، كما أقول لنفسي، خلال فترة تحسني، وقبلها، إنما زاد تذكيري لنفسي بها مؤخراً، فمع تحسني عدت أتذكر ما تمنيت سابقاً أكثر من سواه. إنه الشعور بالعافية والاطمئنان، هو السبب، إذ حينما يبدأ هذا الشعور بالعودة نبدأ نحن بالعودة إلى عاداتنا، من التذكر والتمني، والأسى على الأخطاء وما كان يمكن أن يكون. لا يمكن لمثلي أن يسعد. لكن هل يمكنني أن أرضى؟.
والدتي بحال أفضل الحمد لله، وأنا كذلك، أمورنا تتحسن.
باستثناء خيبتي بمن كان يلزمه الوقوف معي ولم يقف، لم آسف على عدم وقوف أحد آخر معي، لأنه لم يعد يوجد أحد.
أسفت على والدتي، إنها مجرد عذر للآخرين للالتقاء بالآخرين فقط.
أفلتُّ شعرة معاوية…
هكذا…
انتهى الأمر…
أمضي الآن حراً…
من وحشة الآمال الخاوية…
يساورني شعور غريب منذ فترة طويلة الآن، أتمنى أن يزول يوماً ما لسبب جيد. لقد بت لا أتوقع من أحد شيء، وبذات الوقت أتوقع من الجميع أي شيء. لم أعد أتوقع السؤال، والاهتمام، ورد المعروف ورد المحبة والتقدير، لم أعد أتوقع الحُسنى. وبنفس الوقت، صرت منفتح الذهن، لا أفاجأ بأي جرح، ولا بأي إساءة، ولا لؤم وقسوة، ولا خداع وتلاعب. أعتقد اني شبعت من القهر والخداع، ولم أعد أعبأ.
لأنك بخير…
تتخيل اني استطيع…
تقول لا تفكر…
لا تشغل ذهنك بالقديم…
ولا تقلق على حظ تأخر…
لكني لا استطيع…
إذ تتوقى شمس الهموم حين تشاء…
وتنعم بالراحة في ظل الشجر…
عالمي قاحل لا ظل ولا مستقر…
وشمسه القوية لا تغيب…
وكفوفي لا تنفع في هذا السَقَر…
لو كنتُ بخير…
لما رأيتني حزين…
لما راعتك دموعي…
ولاسترحتُ من إرهاقي…
فعقلي ليس بيدي…
لا يكف عن التفكير…
في اليقظة وفي الأحلام…
يتعب لكن يستمر…
مبحراً بلُجّة الأحزان…
يبحث عن مرسىً غير موجود…
لو يرتاح ليوم واحد…
لرأيتني راضياً…
لأريتك أخيراً دموع الارتياح…
لعرفتُ أخيراً…
معنى أن اكون بخير…
لعرفت عما كنتم تتحدثون…
أهذا ما كنتم مني دوماً تطلبون؟…
لكن لأنك بخير…
لن تفهمني يوماً…
ولن أفهمك أنا…
سأظل في وحشتي…
وحيداً…
لا فاهماً ولا مفهوماً…
تائهاً في أفكاري…
أفكر بمشاعري…
المهدرة كأيامي…
وعمري الذي مضى بلا جدوى…
قلبي الكبير الخاوي…
قلبي الصغير المُتعب…
كيف لم يمتلئ يوماً…
كيف لم يَسَع يوماً…
وآمالي تتجدد وتتبخر…
تنبثق كالزهور كل الربيع…
ثم تحترق بالصيف القريب…
لو كنتُ بخير…
لفهمتُ لِما هانت مشاعري…
لِما تقسو القلوب…
لماذا يكذب البشر…
لماذا كثيراً ما خُدعت…
لربما حتى من الكذب تمكنت…
ولعل وعسى نَسيت…
ولم أكرر غلطاتي…
ولم أدفن دموعي في مخدتي…
لكن تأخر الوقت على الفهم…
ولأنك لست إلا بخير…
لن تفهم معاناتي…
وستقول لِما الحزن على القديم…
ولِمَ القلق على ما تأخر…
للأسف، اضطررت إلى بيع سيارتي أخيراً، وهو أمر أشعر بأني لم أستوعبه بعد، رغم مرور أشهر. حينما كنت في أسوأ ظروفي، خصوصاً مع وضع أمي الصحي الأخير، وجدت أني لن أستطيع تحمل هم شيء آخر، خصوصاً مع حالتي المادية الصعبة في حينها، وقد بدأت السيارة بالتعطل أكثر فأكثر لسبب ما. لقد اكملت اكثر من 7 سنوات، وربما مع بعض الاستثمار كانت ستكمل سنتين أو ثلاث أكثر. كانت تحتاج إلى مصاريف، وجهد لا أملكه؛ خصوصاً بعدم توفر القطع إلا بمكان يبعد حوالي ساعتين عن المنزل، لا أملك الوقت، ولا الجهد، والميزانية ليست على ما يرام منذ فترة طويلة الآن. في السابق، كنت فقط أهرع إلى مركز الصيانة بعد أخذ موعد، وأصلح المطلوب، لم أبخل على سيارتي التي أحب كثيراً.
لم يكن بوسعي في حالتي تلك مقاومة اقتراح البيع، وشراء سيارة مستعملة بنفس القيمة، لكن بقطع أرخص وأكثر توفراً. لم أعد املك رفاهية مقاييسي السابقة؛ لم يعد يمكنني تحديد ميزانية والبحث عما يسر عيناي رؤيته من أشكال سيارات ومزايا وألوان، لا أملك رفاهية التعبير عن ذوقي، أردت فقط أن أرتاح. وفي ظروفي تلك؛ كنت أريد ان أزيح من الهموم ما يمكنني إزاحته، لم أرد حتى أن اختار، أردت فقط أن أحصل على شيء يكفيني، بسعر يمكنني دفعه بعد بيع السيارة الحبيبة.
في تلك الظروف، لم يقف معي أحد بقدر ما وقف معي ابن أختي الغالي. لقد وقف معي كل من همه أمري، أي اخواتي وابناؤهن على وجه الدقة، لكن لم يكن باستطاعة أحد مساعدتي، ولم يدر أحد كيف يساعدني. اتخذ ابن أختي هذا زمام المبادرة لما تطلب الأمر، وفعل كل ما بوسعه ليكفيني الهموم التي لم يعد يمكنني أن أضيفها إلى همومي. لقد أسقط سيارتي القديمة التي بات همها يأكل ويشرب معي من اسمي في المرور، وباع سيارتي العزيزة، واشترى لي بثمنها سيارة أخرى مستعملة لكن ذات جودة معروفة، اشترى لي صني، وقام بإصلاحات بها لأجلي. هي سيارة جيدة، ذات استجابة لم اتوقعها، وتماسك، وتكييف ممتاز. مع ذلك ورغم قضائي معها أشهر، إلا اني اركبها في كل مرة مستغرباً، وكأنها ليست سيارتي، أشعر دائماً بأني أركب سيارة مستأجرة، سوى أني لا أدفع الإيجار، إني حتى لا اتعرف عليها في المواقف بسهولة أحياناً. حينما أنسى وأنظر داخلها باحثاً عن شيء اعتدت عليه في سيارتي القديمة، يتوجع قلبي، وأُصدم؛ لقد بعتها، هكذا، قبل أوانها، ليس لخلل كبير فيها، لكن لهمومي الداخلية ومتاعبي، لم استطع ان أضيف إصلاحها إلى تلك الهموم، لم استطع ان أبذل المجهود الذي أبذله بالعادة، ولم أعد أملك الوقت ولا الجَهَد ولا الفائض من المال. كذلك خوفي من تطلبها أكثر فأكثر، لم أعد استطيع الانتباه للمزيد من الأمور، أردت أن أبسط كل شيء. في البداية، ولفترة طويلة، شعرت بالارتياح، من سجل السيارة القديمة وتخلصي من المشاكل المستجدة التي جاءت بالوقت الخطأ في الرينو الحبيبة. لم أرد ان أفكر بها، كنت فقط أحاول ان أصرف انتباهي عن ذكراها، وكان لدي ما يشغلني؛ صحتي وصحة والدتي.
أما وقد تحسنت الأمور الآن الحمد لله، بدأت شيئاً فشيئاً أشعر بالحزن أكثر فأكثر. حينما أرى سيارة تشبهها في الشارع، أطيل النظر، وحينما أرى سيارة تشابهها بالألوان، الأزرق باستثناء السقف الأبيض، يخالجني شعور بالحنين والحزن، لشيء ذهب ببساطة، بإختياري، وبلا تفكير مطول أو تردد، في ظروف خاصة. مع ذلك، لا أندم على بيعها، كنت حقاً لا استطيع الاستمرار بإصلاحها، ولا أعتقد بأني عدت حتى الآن لجَلَدي السابق؛ لا زلت لا أملك الطاقة، وما أصنع بما أصيب من طاقة لا زلت أريد أن أركزه على والدتي وشقيقي فقط، والضروري لنفسي.
شعرت في ذلك الحين، وأشعر حتى الآن، بأني لم أعد أريد شيء مميز لنفسي، لم أعد اريد ان أختار ما يعجبني، يكفيني الكفاف.
ربما مع الزمن أعود إلى سابق عهدي، تلك الرغبة بالتفكير والاختيار والتجريب، ربما، وربما لا.
لا زلت أحلم بها في مناماتي مع ذلك.
اخاف ان افرح...
فما طال بي الأمل قبلاً...
قبل ان أترح...
أخاف ان أرجو...
إذ تترصدني الخيبة...
حتى على صدري تجثو...
أخاف ان اتطلع...
فيغضب الواقع إذ نسيته...
فيظل يلطمني حتى اتوجع…
مللت الصبر…
وضاق الصدر…
إذ اكتفيت من العِبر…
ويئست من سماع خبر…
بل لم أعد انتظر…
فما انكسر فاته الجبر…
كفى…
دعني بسلام واختصر…
إذ لعشرين سنة أحتضر…
أموت وأحيا…
إذ بيداي انعش قلبي…
كل مرة بلا مبالاة يداس…
فيتحطم وينكسر…
ولا أتعلم…
سعد الحوشان