بسم الله الرحمن الرحيم
كثير ما كتبته منذ رمضان الفائت في تدوينة فقدتها قبل قليل بغباء مطلق. كنت أستعد للنشر الآن. أليس هذا مضحك؟ أن تفقد ما عملت عليه فقط حينما تنهيه. أفكر الآن، ضمن كل ما كتبت، ما هو أهم ما كتبت؟ أشعر بأن كل ما كتبت كان يهمني أن يقرأه أحد آخر، كله على الإطلاق.
قررت الآن أن لا أكتب سوا في مستندات قوقل، فهي أكثر اعتمادية. لكن، لا يمكنني سوا بالتفكير بكل الوقت الذي ضاع بالكتابة. ربما كان هذا للأفضل، الله أعلم.
في أيام العيد، أرادت أرامكو، شركة النفط الشهير لدينا، أن تنظم حفلاً موسيقياَ من نوع خاص، امتداداً لأنشطتها الثقافية الغريبة منذ الصيف، والتي لم تشعر الكثير من الناس بالراحة.
كان المشروع بالواقع قفزة غير متوقعة، وجريئة بالنظر إلى طبيعة الناس هنا. كانت النية هي إقامة محاورة موسيقية بين الشرق والغرب، وذلك بإحضار العازف العراقي الشهير نصير شمه، وعازف اسباني شهير اسمه بينانا. لكن لم تتم الأمور كما خطط لها، حيث أن نصير لم يمنح التأشيرة ليأتي. بدا الأمر غامضاً، وعلق نصير في البداية بأن حصوله على التأشيرة قد تأخر لهذا لم يتمكن من المحضور. ويبدو أن هذا أثار الكثير من اللغط لدى العرب الأجانب، لأن نصير طلب لاحقاً عدم الإساءة إلى السعودية والسعوديين أو حتى المتشددين، الذين قال أخيراً بأنهم هم من تسبب بمنعه. ورغم أنه طلب عدم الإساءة لأحد، إلا أنه خالف نفسه وتوجه بالتجريح إلى من يسميهم المتشددين، مما خيب ظني، حيث أن الإنحدار في التعاطي الذي نهى عنه إنما وقع به بسهولة، فذم من يسمون بالمتشددين من أي أحد صار أمر عادي وحق للجميع، وصار يسهل ضم الناس تحت لواء التشدد حينما يختلفون في وجهات النظر عن الآخرين أو حينما يكون لديهم تحفظات. يوصف نصير شمة دائما بأنه مثقف راقٍ وذو شخصية جذابة وفكر عميق، وأسلوب محافظ، لكن أسلوبه في التعاطي مع الأمر لم يشهد في صالحه، لقد هبط بمستواه عن سمعته، وعن ما نصح الناس به مع الأسف.
بغض النظر عن ما يراه الجميع في الخارج، ما يجب أن يفهموه هو أن رؤيتهم غير مهمه فيما يخص أسلوب حياتنا وما يجري بيننا. فالأمر خاص بنا، ويمكننا النقاش حوله في الداخل، لكن وجهة نظرهم غير مطلوبة طالما الأمر لا يمسهم. حتى نصير شمه، لا يجب أن يتخيل بأن وعده من قبل شركة بأن يأتي ويؤدي هو وعد قاطع، فهذه السعودية وليست أرامكو، الشركة التي تحتاج إلى إعادة نظر في رأيي. وبكل الأحوال، الحصول على تأشيرة والقدوم إلى هنا ليس حق للجميع لأي سبب كما يتخيلون، إنه أمر خاص وامتياز انتقائي. ولا أدري لماذا الهوس بكل ما يتعلق بالسعودية، وما تفعل أو لا تفعل، والهوس بالإساءة إلى أهلها، أو خنقهم بعناق من يزعم التعاطف وهو لا يقصده.
إني أحب الموسيقى، وأتصور بأن ما يعزفه نصير شمه، وبينانا، هو مما قد يعجبني سماعه، فأنا أحب الموسيقى التقليدية. لكني لا أريد أن يقحم في الأمر رسالة تسطيحية حول ما نعيشه ونشعر به. هل يريد الناس هنا فعلاً الحوار على أي مستوى تطاله أيديهم مع الغرب؟ وهل قضيتنا معهم ناعمة ورقيقة إلى هذه الدرجة، حتى تعامل بهذا التبسيط والرومانسية؟. لا خلاف لدي بأن أسمع لكل منهما يعزف، لكن بدون هذه المسحة الدرامية التي لا تلائم حقيقة الأمور، لا أريد أن أراهما يعزفان معاَ هنا، لأني لا أريد أن تعرض قضيتنا وفكرتنا عن الأمور على هذا النحو السطحي والنفاقي البعيد عن الواقع والشعور، بهذا الاصطناع والاستغفال.
أما أرامكو، فهي تبدو كالواثق بحماقة بقبوله الشعبي. إني لم أكن أبداً من المرتاحين إلى استثناء أرامكو من القيود التي تحكم الحياة هنا. ولكن يبدو أن أرامكو قد دفعت على نحو غبي للتأثير على الناس، الذين يتطلعون إجمالاً إلى كفائتها بعين الإعجاب على مستوى العمل. لكن دخولها المفاجئ للمستويات الشعبية في المهرجانات التي قامت بها مؤخراً جعل الناس يستغربون، فقد رمت بثقلها فجأة، ونظمت الأمور بنفسها، رغم أنها ليست جهة ثقافية، ولم تنظم الأنشطة لموظفيها فقط كذلك. هل هي نموذج يراد له أن يعمم على البلد؟ أو أن يقود البلد إلى نقطة معينة؟. هذا يشعرني بأن هناك من يستعجل الأمور، ويريد القفز بالناس إلى مناطق غير مألوفة، بغض النظر عن رأيهم، ولما كان لا يستطيع القيام بهذا بنفسه، أوعز لأرامكو أن تطلع الناس على نموذجها وتقودهم. كثيرون هم البعيدون عن الواقع، وأرامكو ليست أقرب هؤلاء إليه، بل هي الأبعد. إن وضعها غريب وشاذ، ففي حين كان يجب أن تخضع هي لرؤى وأولويات الناس، أو المطبقة على الناس، نجد بأنها مستقلة فيما تقوم به، وتحاول الآن إتاحة أولوياتها المختلفة والمتغربة للجميع. لا يكفي أن هناك سينما والنساء يقدن السيارات دوناً عن أي مكان في البلد بلا مبرر، لكن الآن تريد أرامكو أن تري الناس كيف يجب أن يعيشوا وينظروا للأمور، بأساليبها المتأمركة الناتجة عن إرث عملي أقدر فاعليته كأسلوب عمل، لكن يجب أن يدعو ثقافتنا وشأنها، ويجب أن نناقش نحن ثقافتها الآن، فكما قلت؛ هذه السعودية وليست أرامكو. ولست أقول بأن السينما وقيادة النساء للسيارة أخطاء، لكني أرى بأن العدالة خير من إتاحة بعض المتع أو حتى الضروريات للبعض وحرمان الآخرين منها، سواء كانت تلك الأمور جيدة أم سيئة، فالجميع يجب أن يتساوون.
إني مستغرب من هذا الغباء المطبق الذي دفع أرامكو على وجهها بهذه الثقة العمياء، ولا أدري على أي ضمانات كانت تستند، لكني أثق بغباء من دبر لهذه الأمور فيها مهما كانت نواياه، لأنه يحسب أن أولويات جميع الناس هي أولوياته.
لكان الأمر أهون لو كان من قام بهذه الخطوة هي جهة ثقافية أو حكومية، لكان الأمر قابل للنقاش والأخذ والرد. لكن إقحام شركة ذات إرث غير منسجم، وأولويات وأساليب مختلفة عن بقية الشعب كان خيار غبي.
ربما كنت سأهتم لو قامت جهة أخرى بعرض موسيقى راقية هنا، وربما كنت سأحضر لأستمع أيضاً، بدون حكاية الحوار مع الغرب هذه، لكن هل يريد الناس بمجملهم مثل هذا النشاط بنطاقه الواسع أن يحدث لديهم، حتى لو لم يحضروه؟. على نطاق ضيق غير مؤذي؛ يمكن تقبل الأمر ربما، وربما لن يخالفوا كثيراً لو تم الأمر بطريقة أكثر تحفظ وتماهي مع رؤى الناس للأمور هنا. لكن حينما يتسع النطاق، ويصل إلى حد تبجح أرامكو، يصبح الأمر يتعلق بأناس خائفون على ثقافتهم، ولا يمكن لومهم في رأيي على قلقهم. لأن الثقافة موروث يملكه الجميع، وهو يتم العبث به الآن بالفعل على نحو عشوائي ومقلق، بينما يجب الانتباه للتأثير والتركيز على الانتقاء الذي يتراوح بين المرونة والصرامة بحسب الموقف.
على سبيل المثال، كان هناك معرض قبل سنوات عن الثقافة اليابانية، وقرع عازفون تقليديون الطبول وأسمعوا الناس موسيقى يابانية تقليدية، وصفق الجميع، ولم يعترض أحد، أو يسبب مشكلة.
كان يمكن لأرامكو أن تعطي المال لجهة تفهم الناس ونفسياتهم هنا، كمركز ثقافي مثلاً، دون أن تتدخل، لكن، ليس هذا ما تريد بالطبع. كان يجب إقحام مسألة الحوار هذه، واستقدام شخص مشهور والدعاية بمبالغة والإقدام على الإعداد للأمر بجرأة.
تناقشت أنا والدكتور الألماني حول الأمر، وقد كان مهماً بالنسبة لي أن يعرف لأن نصير شمه أحد معارفه حينما كان في مصر، وهو يقول بأنهم كانوا أصدقاء حتى. أعتقد بأني صدمت الدكتور برأيي. نعم أحب الموسيقى، لكن لا أريدها أن تكون ذريعة لشيء أو تمييع لقضية، أو تزييف لشعور، ولن تتوقف الدنيا لأنها لا تعزف هنا.
قال بأني لم أسمع مثل هذه الأنشطة، ولو سمعتها لأعجبتني، وحكى عن مثال حضره، دمج موسيقي مماثل بين فنانين مصريين وهنود. قلت بأني لا خلاف لدي على الحوار الموسيقي مع الهنود والصينيون أو أي أحد، لكن ليس مع الغرب، ليس وقضيتنا معهم هكذا. قال بأني ضد الغرب إذا، قال هذا وهو مبتسم. قلت بأني لست ضد أحد، لكني ضد ما يقومون به هنا وبالعالم. وضد أنشطة أرامكو الأخيرة، بثقافتها المتأمركة وأولوياتها المختلفة، وعدم عدالة وضعها، وضد تدخل الأجانب وتعيير الناس وإلقاء اللوم على المتشددين، حيث أصبح كل من له رأي مختلف وواضح متشدداً في نظرهم. وقلت بأنها صارت مشكلة، وصم الناس بالمتشددين دائما هكذا، وتشويه سمعتهم وتصويرهم على نحو سيء، لاختلافهم بالرأي وأسلوب الحياة. قال بأنها مشكلة بالفعل.
أضفت بأني لا أعتقد بأن من كانوا خلف إيقاف الحفل قد أوقفوه للأسباب التي أراها صائبة، لقد أوقفوها لأسباب أخرى بالتأكيد، فالأمر كثير عليهم أن تعزف الموسيقى بهذا الشكل، ويستقدمون الأجانب كذلك لعزفها بدعاية ضخمة للأمر كحدث مستقل. لكن لحسن الحظ وافق الأمر رؤيتي ولم يتم الأمر. لكن في المرات القادمة، لا أتوقع أن توافق الأمور رؤيتي، ولن يكون الحظ حسناً دائما.
مررت بتجربة فريدة هذا العيد؛ لقد حضرت المناسبة!. لم يكن أمر مخطط له، وكنت في الليلة السابقة، ككل ليلة تسبق العيد، قد ذهبت إلى السوق واشتريت ما أحب من الشكولاتات والمشروبات، وتأكدت من وجود شيء لأقرأه أو أراه، لأني لا أنزل لمقابلة الزوار بالعادة في هذه المناسبة. لكن في الصباح الباكر سألتني أمي أن أذهب بها إلى صلاة العيد، فذهبنا. لما عدنا، كان بعض الناس قد بدأوا بالتوافد، فشعرت بأن الوقت تأخر على الصعود، وشعرت بأني أود أن أقبل الأطفال وأتفرج على ملابسهم حينما يأتون.
كان الأمر مفاجئاً لبعض الأقارب. وقد علق أكبر أبناء عمومتي بأنهم لم يروني منذ خمس سنوات، وهذه مبالغة،لكنه أبدى اهتماماً برؤيتي واحتفاء، وهو بالواقع الأطيب بين الجميع، سواء إخوتي أو أبناء عمومتي، فهو رجل يحاول أن يكون أخ كبير للجميع، ويهتم بتبيان اهتمامه دائماً. أصر علي لأدخل لأتناول العيد، وهي الوجبة الأساسية في اليوم، ولكني رفضت؛ لم يكن هناك من سيقدم القهوة لمن عادوا من تناوله، لأن جميع إخواني ذهبوا في الفرصة الثانية لتناول الوجبة، وكنت قد أرسلت ابن اختي ليرتاح في غرفتي لأنه كان مريضاً. لكن ابن عمي أصر، فاضطررت لترك شقيقه بينما كان يسألني عن حياتي، بطريقة أشعرتني بأني قريب جديد ظهر فجأة.
العيد لدينا عبارة عن أطباق متنوعة، من كل بيت طبق، وهي أكلات شعبية. ما يأتي من بيت آل فلان فهو عيد آل فلان، وما يأتي من بيتنا فهو عيدنا، والفكرة هي تذوق أعياد الكل. وجدت إلى جواري ابن لأحد أبناء العمومة، فجاملته سائلاً عن عيد والدته ( أي الذي أعدته)، وكان هذا لحسن الحظ، فقد كان لذيذاً جداً. لكن الأفضل كالعادة كان ما قدمته خالتي المصرية، وهي زوجة ثانية لأحد أعمامي، مشهورة بالطبخ، خصوصاً ما يجدنه المصريات بشكل عام من محاشي وخلافه. لكنها في العيد تماشياً مع العادة جائت بجريش، ورغم أني لا أحب الأكلة بالأصل كثيراً، لكنها من يديها تصبح شيء آخر. كان أنعم وأطعم و جريش تذوقته وأكثرها تعقيداً من حيث النكهة، وهكذا الجريش الذي تأتي به دائما. لا زلت أتذكرها، كانت من ألطف النساء، كانت تقول حينما تراني، وحتى لو رأتني أكثر من مرة في المناسبة: إزيك يا سعد؟. بابتسامة من ألطف وأكثر الابتسامات عطفاً في العالم.
خرجت قليلاً مع ابن ابن عمي، ليريني سيارته الجديدة، وهي هيونداي شكلت صدمة بالنسبة لي، فهي ما شاء الله جميلة وأنيقة ومتطورة جداً، مليئة بالمزايا التي تجعل المرء لا يصدق سعرها. لكن كان يعيبها شيء واحد؛ إن الراكب يشعر بكل ما في الطريق من تحته، وربما لو داس حجر صغير لعلم بتفاصيله. بخلاف هذا؛ ما شاء الله، شيء غير معقول.
كان الشيطان لا يزال مكبلاً حتى ذلك الوقت على ما يبدو، أو أنه كان لا يزال قادماً من مكان بعيد؛ حيث أن أحد ابناء العم، وهو ذو نوايا سيئة حقاً، لم ينظر تجاهي حتى.
فكرت أن أنام حينما خرج الناس، وأن أغير برنامجي في الليل حتى؛ أن أرى الأقارب من طرف أمي الذين يخصص المساء لهم. لم أكن انزل في السنوات السابقة حتى في المساء، وحتى حينما كنت أنزل في الصباح. لكني غطيت بنوم عميق ولم أصحو. كان هذا للأفضل، فلا تسلم الجرة مرتين.
إني لست مقرب عموماً من الأقارب. نأيت بنفسي قبل فترة طويلة، وربما ببعض التدريج. لدي أسباب، فضلاً عن طبيعتي الانتقائية فيما أحسب.
كنت في السابق أضطر لحضور بعض المناسبات مجاملة لقريب معين، لكن بعد انتفاء الأسباب لم أعد مضطراً لمثل هذه المجاملات.
حدث إشكال كبير قبل فترة بين اثنين من الزملاء. احدهما يهمل العمل كثيراً، مما يوقع الكثير من الضغط على الآخر ذو الطبيعة الانفجارية. الآخر الانفجاري هو شخص تكلمت عنه بضع مرات في المدونة منذ زمن طويل، فهو رجل ملتزم، وكان يعاملني بحذر وفضول يجعلني أشعر بأنه كان يخاف مني. تغيرت الأمور كثيراً، وبات يتحدث معي على نحو طبيعي، يمزح، ويأتي ليتكلم ويناقش في الأمور دائماً، أو أنا آتيه.
بعد الاصطدام الذي وقع بينه وبين الشخص المهمل، كان ثائراً إلى حد بعيد، وقد أكثر من التوبيخ والوعيد، مما ضايقني بصراحة، ففقدانه لأعصابه يذهب إلى أبعد مدى في بعض الأحيان.
كان بعد ذلك مباشرة ينظر إلي بطريقة غريبة؛ كان من الواضح أنه ينتظر رأيي، لكني لم أكن لأعطيه إياه وهو في ذلك الحال. جاء لاحقاً، وتحدث في الأمر. أخبرته برأيي؛ إنه بالغ، لقد غضب أكثر من اللازم، وقال ما لا حاجة لقوله. قال معترفاً بأن لديه مشكلة مع الغضب، ولكن للناس مشاكل يحلونها، وتذهب، وأنه يعمل على مشكلته هذه ليتحسن. فوجئت وأعجبت كثيراً بشفافيته النادرة. فلم أتوقع أن يعترف بالأمر؛ بهذه الصفة، وأنه يأخذ أمرها على محمل الجد، ويريد التخلص منها. لكن لم يكن يسعني أن أكذب، فلدي شق شخصي أقلبه في ذهني في مثل هذه المواقف التي تحدث بينه وبين الآخرين حينما يفقد أعصابه، أخبرته بصدق بما أشعر به، قلت له بأني أخاف منه، إني أخاف دائماً أن يحدث سوء فهم بينه وبيني ويفقد أعصابه ويسيء إلى معرفتنا. قال بأنه لا يمكن أن يقوم بمثل هذا الأمر معي. قلت بأنه قد يفقد أعصابه، لكنه أكد بأنه لن يقوم بمثل هذا معي أبداً. ثقته هذه جعلتني أفكر بأنه قلب الأمر في ذهنه مسبقاً، وعلى ارتياحي لطمئنته، إلا أني شعرت بغرابة فكرتي عن الأمر؛ أنه فكر بسيناريو لما قد يفعل لو حدث بيني وبينه سوء فهم.
في يوم لاحق، حدث موقف ما كان يجب أن يحدث. تجادلنا قليلاً، وأنبت زميلي. جاء إلي لاحقاً يعرض مساعدته بعدما سمعني أناقش أختي على الهاتف في أمر مدرسة ابنتها الجديدة. سألته إن كان غاضب مني؟ قال مبتسماً بأنه لو كان غاضب لما جاء ليكلمني. فهمت بأنه لا يريد لعلاقتنا أن تتأثر، وقد قدرت هذا كثيراً.
هو كريم، وهذه صفة أقدرها كثيراً، وهي أندر مما يتصور البعض. هو من القلة الذين يتكبدون عناء إحضار شيء لإبهاج الناس في القسم.
وكان قد دعانا قبل فترة إلى منزله لتناول العشاء. كانت الدعوة بلا مناسبة. جلسنا في البداية في خيمة حديثة أمام المسجد، حيث يعمل مؤذناً هناك، وكنت قد أحضرت معي لابنته دمية، أو دميتين متصلتين على الأصح، على شكل قنفذ صغير وإلى جانبه أمه الكبيرة (وقد أفزعت أمي حينما أطلت بالكيس الذي تركته قبل ذهابي، ووصفتها بأنها دمية قبيحة، للأسف هذا ذوقي).
هناك، كان قد دعا أيضاً بعض أصدقائه، وهم ملتزمين كذلك. إلا أن واحد منهم بدا غير مرتاح إلي إطلاقاً، ولم يستطع التفريق بين ما أقوله قاصداً، وما أقوله مازحاً فيضحك عليه البقية بينما يأخذه هو بحساسية.
كان يوماً ممتعاً.
قبل أيام، حدث موقف آلمني كثيراً، وأفسد نفسيتي لأيام. شعرت بضعف الحيلة، مهما فعلت وأجهدت. كتبت قصة قصيرة مباشرة بعد هذا الموقف. نقحتها لاحقاً بالطبع. قد لا تكون جيدة، لكنها صادقة، يمكنني قول هذا. أسميتها: نفاذ القدر إلى الأمل المبتذل. لغير المهتمين بقراءة القصة، يمكنهم النزول والبحث عن الخط الأحمر، فهي تنتهي قبله، ومن هناك يواصلون.
نفاذ القدر إلى الأمل المبتذل
كنت مستلقياً في مكان غير مألوف، مسترخياً أمام بحر، وتحت الشمس التي أهرب منها في العادة. بيد أن الشمس كانت ألطف هناك، والهواء عليل. كنت في أقصى حالات الراحة، وقد أمنت على ظهري نظافة الرمال تحتي، بينما ستر جزئي الأسفل سروال فضفاض ولا يغطي ركبتي. تصلني موسيقى محلية من خلفي، من وسط ما يبدو أنه جزيرة خضراء صغيرة. أحياناً، يتحرك شيء في الأجمة خلفي، سرعان ما أكتشف أنه حيوان صغير. وتتساقط ثمار جوز الهند كل لحظة وأخرى، وفي ذلك الحين ألتفت باحثاً عنها وأنا في مكاني، حتى أستمتع بشكل السرطان الجميل والضخم، الذي قصها من أمها، وهو ينزل.
بين كل لحظة وأخرى، أملأ رئتاي بنفس عميق، حينما أفطن إلى جودة الهواء التي لم آلفها، وأشعر بأني أعيش تلك اللحظات لأجل نفسي فقط.
لم ألبث كثيراً حتى سمعت وقع خطوات هادئة، وبدا أنها قادمة في اتجاهي. لكني لم أجفل، ولم أحفل بالجلوس أو التهيؤ لاستقبال أحد؛ بدا فقط أن الترحاب يكفي على خلاف العادة، ببساطة رائقة. حينما أقبل صاحب الخطى، التفت إليه، وأجفلت في اللحظة الأولى. كان رجل ضخم الجثة، ذو لون توقف في درجة بنية غير جميلة، له وجه هو الأكثر دمامة مما رأيت في حياتي. كانت لحيته موزعة كقطيعات حول وجهه، شعره كان يشبه صوفاً رديئاً بلون يراوح بين السواد والرماديه، وهو قد رد إلى الخلف بكفاح واضح رغم طوله الذي قد يمس الكتفين لو كان شعراً منسدلاً. بينما حاجباه الكبيرين كانا عريضين وطويلي الشعر، يعلوان عينين تكادان أن تلتصقاً لشدة تقارب موضعيهما. أنفه كذلك غريب، صغير وبارز وغير متناسب الأبعاد، ويكاد أن ينتمي إلى جبهته. وله أسنان شديدة الصفرة، ورغم تفرقها غير الطبيعي جمعها شكل من التكلس على نحو غريب. رغم كل صفاته، كان تحديد عرقه أمر مستحيل، كان شكله ينتمي إلى الدمامة فقط. ستر أسفل جسمه بقماش نظيف ومزخرف. وبخلاف دمامة وجهه المخيفة، إلا أنه بدا عليه السكون والمسالمة. ابتسمت مرحباً، في تحامل على نفوري، قاصراً عن نطق شيء، لأن الحدث جاء على خلاف ما تخيلت. لكنه نطق مرحباً، بلغة كلغتي. هالني الأمر، فالتفت مبتسماً إليه. قلت: أهلاً وسهلاً، هل أنت أجنبي أيضاً؟
هو: لا، ليس وأنت معي هنا.
ضحكت، فكرت بأنه يقصد بأننا نستأنس ببعضنا.
أنا: من أي مكان أنت؟.
قال: كل ما تطأه رجلاي.
لم تكن إجابة ملائمة. مع ذلك، ظللت على ابتسامتي وكأن الأمر مقنع.
سألني لماذا أنا هنا؟.
قلت بأني هارب.
ممن؟.
أجبت: من حياتي، لكن لبعض الوقت فقط.
نظر إلي بتأمل، ولما ساد الصمت ولم يعلق، التفتُ تجاه البحر، وكنت لا أزال مستلقياً.
هبت نسمة عليلة، فسحبت نفساً جاء كتنهيدة.
قاطع سكينتي قائلاً: قابلتها قبل قليل.
أنا: من؟
هو: حياتك.
ضحكت، فكرت بأنه مجنون. لكني سرعان ما قلقت؛ إذ خطر في بالي أنه قد يكون مجنوناً تقطعت به السبل هنا. وإلى قلقي أضفت قلقاً؛ لماذا قلقت؟. شعرت بضيق شديد، وبدا أن وجودي هناك صار بلا معنى. أعقب الضيق سريعاً شعور بالبؤس والاكتئاب.
سألت لأتأكد أكثر: وكيف كانت؟.
قال: كما تعرفها، لم تتغير.
ضحكت لسخرية الأمر، رغم انقباضي لسوء الفأل. لكنه لم يضحك. وحينما نظرت إليه، كان تأمله لي قد ازداد غموضاً، لكن هذا لم يقلقني، شعرت بأني معتاد على هذا.
قال متلفتاً حوله: هل أنت سعيد هنا يا سعد؟.
كدت أن أجيب، لكني أجفلت. قلت باستغراب: كيف عرفت اسمي؟.
لم يجب. فكرت بأن المحليين ربما أخبروه عني، لهذا أتى إلي، لكني لا أتذكر أني قابلت محليين أصلاً؟!. ظللت مستلقياً، فقط لأقاوم قلقي، وأتظاهر بأني لا زلت مسترخياً.
قلت: وما اسمك؟.
أجاب: لا اسم لي. ماذا تحب أن تدعوني؟.
استفزني هذا، ومنذ متى أعرفه حتى يقترح أن أسميه؟ ناهيك عن شعوري بأنه ليس مجنوناً، ولكنه شخص يهزأ بي.
سألت بأسلوب عدائي: من أنت؟.
صَمَت.
أنا: تكلم!.
هو: أنا قدرك.
التفت إليه في تلك اللحظة، وقد اكتشفت بأني كنت قد وضعت يديَّ بلا شعور على عيناي منذ فترة؛ أجفلتني هذه الحقيقة. أما كونه يدعي بأنه قدري، فهو أمر صدقته حالما التفت إليه. صدقته، لم يحتج إلى أن يحلف، ولم أصدقه لأنه بالغ الدمامة والبؤس، لكن لأن الموقف بدا أقرب إلى واقع آمالي البائسة بابتذاله، بكل ما في الموقف من ابتذال وسخرية؛ وجودي في تلك الظروف غير المنطقية، استرخائي المبتذل بلا سترة لجزئي العلوي، الموسيقى المبتذلة، الهواء المبتذل، كل هذا الكمال المبتذل والنفاقي المتآمر. ثم بعد ذلك، جاء واقع لا يقل ابتذالاً ليذكرني بنفسه؛ حضور قدري الدرامي المبتذل، الحوار المبتذل معه، وبعد التأمل؛ لماذا يرتدي هذا القبح ذلك القماش اللؤلؤي الجميل؟ هل لينفذ بسهولة إلى آمالي؟ كيف لم ألاحظ منذ البداية؟، أمر لا يصدق، فعدم ملاحظتي هذه، هو أمر مبتذل أيضاً.
بعدما وعيت حضوره أكثر وانتهيت من أفكاري الداخلية، تأملته أكثر، لم أتمكن من التوقف، كان يزداد بشاعة وأنا أنظر وأستكشف وجهه. وكان ينظر إلي بنفس الطريقة منذ البداية، لكني فهمت الآن؛ كان قدري، لفرط دمامته هو، مشفقاً علي أنا.
عند هذا الفتح، اكتشافي لتعاطفه المذهل والمثير للشفقة من حيث المبدأ، اتكأت على ذراعاي ودفعت بجذعي ببطئ إلى الأعلى. متكئاً على مرفقاي؛ نظرت إلى قدري بذهول، وفزع.
كانت السماء قد اكفهرت، وريح غير محسوسة صارت تمحو كل شيء خلفي، والبحر بدأ ينسحب ويزول، بينما صار قدري يقترب بهدوء، وبطريقة مدروسة؛ فهو قدر في النهاية. رغم أن الأسف لم يغب عن وجهه.
لم أذهب بعيداً بما يكفي، عرفت هذا، لا يوجد مكان بعيد بما يكفي.
لا فوق قمم الخيال، ولا في وديان الأحلام.
ولا على شواطئ الأمل.
تمت
___________________________________
ذهبنا أنا وأمي إلى طبيب طيب في أحد مراجعاتنا الأخيرة. لكنه كثير الحكي، ويحاول أن يبدو متواضعاً على نحو مصطنع، ليس أنه في الحقيقة غير متواضع، لا أدري ربما كان كذلك، لكنه يفتعل التواضع ليثبته بالتأكيد. هو سعودي، وكبير بالسن. وفي كل مرة نزوره، يجب أن أحكي له قصة حياتي، فهو في كل مرة يسألني عن كل شيء لسبب ما. أحياناً أكون قد نسيت بطاقة الجامعة معلقة على جيبي، فيسحبها ويقرأها ويسأل عن كل التفاصيل، وهي نفس التفاصيل في كل مرة. في المرة الأخيرة تذكر لأول مرة أنه رآني من قبل، لكن هذا لم يعفني من التعارف من جديد. سألني إن كنت عضو هيئة تدريس. فقلت: لا لا، أنا موظف. فقال بطريقة مسرحية: طيب وش فيه الموظف؟ الموظف أحسن من الدكتور!!. توجه بكلامه هذا إلي وإلى طلابه. رددت بأنه لا يحتاج إلى أني خبرني، فأنا موقن بهذا. شد هذا انتباهه، وقلت بأن السعودي لا يصلح أن يكون دكتوراً، وربما كان هو استثناء، لكني أتحدث بشكل عام. كان لا بد من التأدب. كتم طلابه ضحكاتهم. وسألني عن رأيي وسببه، فقلت بأن المجتمع يفسدهم، ويغدون متكبرين وبلا فائدة. وتكلمنا كثيراً في الأمر، وهو يحاول أن يستوضح أكثر، بينما أمي تقبع على كرسي الفحص تنظر من خلال البرقع، وكأنها حمامة. لم أكن أريد للنقاش أن يطول، لكنه كان يشعبه، ويخرج عنه، فجأة يسأل من أين نحن، وفجأة يسأل أين درست. قال بأني مثير للاهتمام (!!). طلب مني أن يتحدث باسم جميع الدكاترة السعوديين، فرجوته أن لا يفعل، وأن يتحدث عن نفسه فقط، فأنا أعرفهم جيداً، بينما هو لا يمثلهم إذ أنه متواضع. قلت بأني أعرفهم لأني أراهم بالعمل، وقد درست على أيديهم، ولي أقارب منهم. تسائل وهو يتلفت إلى طلابه، وهو يفعل هذا حينما يشعر بأن ما يقوله هو أمر بالغ الدهاء؛ ماذا لو أصبحت أنت دكتوراً؟ هل ستقول نفس الكلام عن نفسك؟ فقلت: إن شاء الله أني لن أكون. فتح عينيه مندهشاً، وبهذا هدم كل تواضع حاول أن يوحي به، رغم أني بالواقع لم أكن مصدقاً تمام التصديق أنه متواضع إلى ذلك الحد، لكن كلهم يتخيلون بأنهم بلغوا نهاية طموح كل إنسان حينما حازوا شهادة دكتوراه. تسائل لماذا؟ يقصد لماذا لا أريد أن أصبح واحد منهم، ولكنه لم يتركني لأجيب، فقد علق بتمعن بأن هيئتي تبدو مثل هيئة عضو هيئة تدريس!. وسأل طلابه، فوافقوه. كان خبراً سيئاً. أسوأ من حينما أبلغني صديقي الهندي سيد بأني أذكره بالممثل شاه رو خان. سأل طلابه ماذا أصلح أن أكون؟ هل أصلح أن أكون طبيباً؟ فقال أحدهم بأني أصلح أن أكون طبيباً نفسياً. ربما كانت سخرية، وأنا أغلب هذا.
قال بأن التحادث معي مثير للاهتمام، لهذا يريد أن يراني مرة أخرى، ولكن ليس في موعد، إنما في لقاء تعارف، ليغير وجهة نظري عن الدكاترة السعوديين (طَموح). كان يجامل.
أذهلتهم أمي بمعرفتها باستخدامات الدواء وما يتعلق به من أمور. وهي كثيراً ما تذهلهم. حينما كنت صغيراً، نومت في المستشفى وكانت أمي معي. إلى جوارنا كانت امرأة معها رضيع، في يده انبوب متصل بزجاجة المغذي. حاولت المرأة حمل ابنها إلى الحمام على ما يبدو، وجر زجاجة المغذي من الماسورة التي علقت بها، وكانت ذات إطارات. لكن حينما حملت الطفل ومضت بضع خطوات، بدأ دم الصبي يصعد عبر الانبوب إلى الزجاجة، فصرخت بحدة وعادت مسرعة ووضعت ابنها على السرير، ولكن لم يصلح هذا الأمر، إذ استمر الدم بالصعود في الأنبوب. ولكن أمي كانت قد وقفت واتجهت إليهم بالفعل منذ أن صرخت المرأة، طمأنتها أمي وقامت بشيء تجاه الصمامات تحت الزجاجة، فبدأ الدم بالعودة مع السائل. كن الممرضات يستعن بأمي في الأمر معي. كنت فخوراً جداً في ذلك اليوم، ولا زلت.
قبل أيام، رأيت أساتذة غربيون يخرجون من المصعد، بينما كنت أنتظر أنا أن أدخل. كان معهم سعودي، خرج قبلهم، ثم خرجن بعده ثلاث نساء، ثم بقي رجلين كبيرين بالسن. أحدهما توقف ينظر لمن خارج المصعد، وبدا أنه يفكر بقول شيء، حتى خرج وقال لمن ينتظرون الدخول: تفللوا!. كان يريد أن يقول تفضلوا. كنت العربي الوحيد، وأشك بأن الآخرين، وهم هنود، قد فهموا ما يريد أن يقول. شعرت برغبة بالضحك، خصوصاً أنه توجه إليهم بهذه المجاملة. حينما أخبرت الدكتور الألماني ضحك هو الآخر. ثم سألني عن مسألة تفضل، لماذا لم يقل تفضل، وقال تفضلوا؟ شرحت له مسألة الجمع. ثم سأل ليتأكد: إذا لو كان أمامي شخص واحد، أقول له: "إتفضل"؟ ضحكت. عاش الدكتور لفترة طويلة في مصر، وما يعرفه من اللغة العربية دائماً ما يكون بلهجة مصرية. شرحت له أن هذه اللهجة المصرية، وأنه من الأفصح أن يقول مثلنا: تفضل.
في الأسبوع التالي، رأيت مجموعة كبيرة من الأساتذة الغربيون والغربيات، وهم يمشون خلف سعودي. عرفت من جريدة الجامعة أنهم وفد للاعتماد الأكاديمي. رأيت الرجل صاحب: تفللوا. نظر إلي وابتسم، وأشار بحاجبيه، لسبب ما. هو بالواقع لم ينظر إلي أمام المصعد في ذلك اليوم، ولم يرني، كان ينظر حصراً إلى مجموعة الهنود العاملين في الجامعة. وظل يبتسم، ويلتفت، حتى بعدما ابتعدوا. شعرت برغبة عارمة بالضحك، وتمنيت لو أمكنني السلام عليه مجاملة وتقديراً.
كان يبدو على المجموعة عموماً الشعور بالإثارة.
لست من عشاق البيتزا من خارج المنزل، إذ لطالما وجدت أن بيتزا أهلي أطعم وأصح. حتى أني لا أشارك في العادة حينما يكون العشاء بيتزا من خارج المنزل. وإن شاركت، فقطعة واحدة كثيرة علي، وتجعلني أعاف اليوم.
ذهبت إليه في يوم اجتمع فيه الكثير من الأهل، ودخلت لأطلب. كنت أتسائل إن كان المطعم من السويد فعلاً، أم أن أحد القرويين أعجبه الاسم ووجد به الغموض والجاذبية المطلوبة. لكنه بالفعل من هناك، عرفت هذا حينما قرأت قصة المطعم، هو مطعم سويدي افتتح في السبعينات، افتتحه إيطالي حاول أن يراعي الذوق السويدي في الأكل، وأضاف المكونات السويدية المألوفة إلى البيتزا. طمأنني هذا؛ لدى المطعم فرصة ليكون مختلفاً عن الأسلوب الأمريكي المصطنع والمكرر حتى مللته.
كانت المفاجئة الثانية في الأحجام والأسعار. إنها نفس أسعار المطاعم الأخرى، لكن لديهم في هذا المطعم مفهوم مختلف عن الأحجام، فهم يطعمون عمالقة في السويد على ما يبدو، أو أن الناس هناك يأكلون الكثير. فالحجم المتوسط لديهم يكلف مثل المتوسط في المطاعم الأخرى تقريباً، في حدود 45 ريال إلى خمسين ونيف. لكن حجمه يماثل الحجم الكبير في المطاعم الأخرى تماماً، أي أنه أرخص بالواقع بكثير. أما الحجم الكبير، فهو كبير إلى درجة أنه يمكنك أن تأكل منه ثم تمهد طفل بعمر سنة ونصف بالباقي، أو يمكنك أن تقدمه على تبسي مفاطيح (الصحون الكبيرة التي تحوي ذبائح كاملة أو نصفها)، وربما لن ينتقدك كبار السن. وهو بسعر البيتزا الكبيرة لدى المطاعم الأمريكية، لكني لا أتخيل بأني قد أشتري شيء مماثل، لأن هذا جنون، إلا إذا نويت تقديمه في حفل كبير، في مناسبة مقامة في استراحة مثلاً.
يد موظف المطعم ممسكة بالحجم الوسط، بينما تمثل الدائرة الكبيرة حجم البيتزا الكبيرة حسب مقاييس المطعم
كل هذه معلومات حسنة ومشجعة، لكن الأهم هو أن ما اشتريته منهم كان أطعم وألذ بيتزا تذوقتها في حياتي من خارج المنزل. وهي خفيفة ولذيذة إلى درجة أني أكلت أكثر من قطعتين. لها طعم خاص ومميز، بهارات غير معتادة، وصلصة صفراء لذيذة تأتي مع نوع المارقريتا الثالث.
إني من عشاقها الآن.
تجدونها على طريق الملك عبد الله، بعد تقاطعه مع طريق التخصصي وأنتهم متجهون غرباً إلى جامعة الملك سعود، في الزاوية إلى اليمين على القاطع يوجد مطعم كودو، بعده بقليل وقبل برقر كنق يوجد المطعم.
قرأت قبل فترة مقولة غريبة منسوبة للشيخ بكر ابو زيد. والله أعلم إن كان قد قال هذا بالفعل أم قيل على لسانه، لكن لا يبدو على أي حال أن الناس يلاحظون العلة. هذه هي المقولة.
( هذه اللفظة باللغة الإنجليزية بمعنى { الأخت } وقد انتشر النداء بها في المستشفيات للممرضات ، وبخاصة الكافرات .وما أقبح لمسلم ذي لحية يقول لممرضة كافرة أو سافرة { يا سستر } أي : يا أختي ! وأما الأعراب فلفرط جهلهم ، يقولها الواحد منهم مدللاً على تحضره ! نعم ، على بَغَضِهِ وكثافة جهله .) انتهت.
لا خلاف لدي على رؤيته بخصوص تسمية الممرضة الكافرة سستر، لكني أستغرب من تخصيصه للمسلم ذي اللحية بالانتقاد، كأنما يُتوقع من كل ذي لحية الكمال، أو وكأنما كل حليق لا يرجى به الخير. عموماً هذا إشكال تعودنا عليه، ولا يبدو أن الناس يدركون أن اللحية هي شأن المرء مع ربه، فما أكثر المنحرفين ذوو اللحى، وما أكثر العكس، اللحية ليست دليل قاطع، وهي سنة يتقرب بها المسلم من ربه، لكنها ليست أمارة على شيء بالضرورة.
أما الإشكال الآخر في رأيي، فهو قوله الكافرة ثم قوله تخييراً: "أو سافرة". هل تتساوى المؤمنة السافرة بالكافرة؟ لا أقول أبداً بأن السفور هو أمر طيب، كما لا أقول بأن حلق اللحى هو أفضل خيار، لكن من المستحيل أن أساوي بين من تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم عليه، وبين كافرة من حيث المبدأ. إنها مؤمنة، لماذا يُحط من منزلتها وقدرها إلى هذه الدرجة، وذكرها على نحو مشبوه بدلاً من الدعاء لها بالهداية؟. لا أجزم بأن كل الأخوات البوسنيات كن محجبات حينما كانوا يشهدون حرباً هناك، لكن لم يساويهن أحد بالكافرات، وذهب العديد من الناس للجهاد والدفاع عن الأعراض هناك.
أما الثالثة، والأكثر غرابة، فهو ما يقوله عن الأعراب. إنه يتهم البدو أنفسهم بالجهل المفرط والبغض بينما يرى بأن قيام سواهم بنفس الخطأ هو ما يوصف بالقبح، وليسوا هم أنفسهم بالضرورة قبيحون وبغضاء.
إنه شيخ معاصر وحيّ، ويعلم الجميع أن البداوة المقترنة بالجهل لم تعد موجودة، فالكل متعلم الآن، وحينما يجهل المرء شيء لا يكون مرده إلى أصله. كما أن الجهل ليس عيباً، إن الجاهل يُعلم، ولا يحتقر أو يهان، ومِن مَن؟ ممن يفترض به توعية الناس بالحسنى. إن من يخطئ يبحث له عن عذر، ولم يكن الجهل عيباً من قبل، ولكن لطالما كان التفريق هو العيب. الجاهل يستحق التعاطف والأخذ باليد، والشيخ، إن كان بالفعل هو القائل، يعرف كيف يمثل الأسلوب هذا بالقول للرجل الملتحي على نحو مقبول. لا أدري سبب مراكمة الكراهية والحقد في التوكيد على الأوصاف، والأسلوب المليء بالازدراء.
هذا أسلوب ملئ بالكراهية والعنصرية في رأيي. فبغض النظر عن الشيخ نفسه، إني أتحدث عما قيل، سواء هو من قاله أو سواه.
حينما حاولت لفت انتباه زميلي الملتزم العصبي تجاه الأمر، لم يرى في الأمر إشكالاً. وبعد تداول قصير، وضع ثقته بالشيخ، بأنه يعرف ما يقول. احتد اسلوبه قليلاً، لأن وصفي لما قاله الشيخ بالصفاقة استفزه. لكنه عاد لاحقاً، ووضع أمامي قطعة حلوى، وطلب مني أن لا أغضب منه.
يصعب صنع مشروب كوكاو جيد في المنزل، وحتى في المقاهي غالباً ما يصنعونه على نحو سيء، فهو لا أهمية كبيرة له في ثقافتنا، بالتالي؛ لا يهم كثيراً أن يكون جيداً بالفعل، فمن يشربه لا يلاحظ الفرق عموماً. في المنزل، العملية معقدة إلى حد ما، ويصعب إتقان صنعه من بودرة الكوكاو الخام، رغم أنه حينما ينجح يكون رائعاً بالفعل. أما المنتجات سهلة الإعداد فهي ملائمة للاطفال أكثر، بامتلائها بالسكر والمكونات الأخرى.
لكن يوجد حل مقبول جداً. اشتريه منذ فترة طويلة الآن. إنه منتج يستورد من أمريكا، اسمه سويسميس Swissmiss. يأتي على شكل مظاريف مليئة بالبودرة الموزونة على نحو مقنع مع السكر، فلا يحتاج إلى زيادة. إنه أفضل المتوفر، رغم أنه ليس أفضل ما تذوقت أو ما أطمح إليه، لكن كونه من الأفضل هو أمر كاف جداً. يوجد نوعين، نوع بالحليب ونوع غني بالكوكاو، الثاني هو الأفضل، وبفارق كبير.
وهو رخيص كذلك، إذ يباع بحوال ١٤ أو ١٥ للعلبة المليئة بالمظاريف. على أن التميمي زاد السعر قبل فترة إلى الضعف أو أكثر، بدافع الطمع أو بالخطأ، الله أعلم، وامتنعت في ذلك الحين عن شراء المنتج حتى رخص.
وهو رخيص كذلك، إذ يباع بحوال ١٤ أو ١٥ للعلبة المليئة بالمظاريف. على أن التميمي زاد السعر قبل فترة إلى الضعف أو أكثر، بدافع الطمع أو بالخطأ، الله أعلم، وامتنعت في ذلك الحين عن شراء المنتج حتى رخص.
ولكن، الكوكاو يكمله غالباً الكوب الجيد. أي كوب يصلح بالطبع، لكن الأكواب الجميلة والمميزة تساهم في جو المشروب. أحب شراء الأكواب بصراحة والكؤوس، وقد خُصص لي دولاب في المطبخ، يفقد هيبته للأسف أمام بعض العناصر غير المتحضرة والتي يصعب التفاهم معها أو إخافتها، كما أن سيتي، خادمتنا المسنة الطيبة، تفقد الإرادة للدفاع عن أشيائي في حضور هذه العناصر، ولا ألومها. إن أحد أكوابي، الذي كان مثار حسد لزجاجه الشفاف المضبب، قد أصبح غير قابل للاستعمال بعدما انطبع على حافته "برطم" ضخم بصبغة لا تزول من الشاي.
عموماً، اشتريت كوب جديد، وهو جميل جداً بشكله البدائي وزجاجه شديد الشفافية، وغير متوازن الأبعاد من الداخل، تزخرفه على نحو متقشف شمس بدائية من الخارج. اشتريته من إبو Epo، وهو محل ياباني جديد على نمط دايسو، لكنه ليس جيداً بنفس القدر، ربما يعجب النساء أكثر لأنه مليء بالأشياء النسائية وسخافات أخرى.
الغريب أنه رغم أن المحل ياباني مثل دايسو، إلا أن الكوب صناعة اسبانية. إن أكثر ما يوجد في المحلين هو صناعة صينية لصالح المحلين، وليست أشياء صينية عادية، لكن وجود صناعة اسبانية عادية جعلني أفكر بأن إبو ليس وجهة ثقافية بقدر دايسو.
عاد الصديق الألماني الأصغر من ألمانيا بعد العيد بخبر سعيد؛ لقد اعتنق الإسلام. وأنا هنا لا أتحدث عن صديقي العزيز الدكتور الألماني الأكبر، الذي أسأل الله أن يهديه إلى الإسلام. لم يكن الأمر مفاجئة كبيرة، كان قد أطلعني على أنه يفكر بالأمر، ومنذ أن جاء إلى السعودية كان يبدي حماساً، وقد أخبرني بأنه يشعر بأنه مسلم بالأساس. لكن هذا لم يمنع بعض "الارتطامات" من أن تحدث بيننا، إذ كنت قد كتبت في وقت قديم عن احتكاك خلف بعض المشاعر السيئة لبعض الوقت، جرى بيننا عبر البريد الالكتروني، وكاد أن ينهي علاقتنا كأصدقاء.
زار مكتبنا، ولم يطلبني للسلام، إنما سأل عن إجراءات تصحيح وضعه كمسلم جديد. أخبرني زميلي لاحقاً، وهو على ما يبدو لا يدري بأننا أصدقاء. فرحت بالخبر، لكني خمنت بسرعة أنه لم يخبرني في البداية حتى يبين بأن الأمر ليس مهماً جداً. لكني زرته بمكتبه، واتفقت معه على تناول العشاء معاً في تلك الليلة، بعدما سلمني بعض الهدايا اللذيذة؛ خبز ألماني، وحلوى شعبية من هناك لم أتذوق مثلها من قبل.
في تلك الليلة، التقينا في مطعم برقرايزر، الذي كان يسمى برقر هاوس. تحدثنا حول إسلامه، وحاول أن يوضح بأنه ليس بأمر ذا بال، فهو لا يشعر بتغير كبير لكونه كان دائماً يشعر بأنه مسلم بالأساس. لم تتغير وجهات نظره كذلك، وهو له طبيعة غير عادية من حيث حب صدم الناس بآرائه واستمتاعه بالأمر، لكن أراهن على أنه لم يستمتع كثيراً معي، لأنه يصعب صدمي بالآراء، ويصعب شعوري بالإهانة تجاه بعض آراءه الغريبة، حيث أني كنت منفتحاً على النقاش. قال، وهو يريد أن يتأكد، بأنه يعرف بأني أشعر بصدمة من رأي معين قاله، لكني ضحكت وقلت بأني غير مصدوم، فأنا أعتقد بأنه لا أحد يمكنه إهانة الإسلام. أعتقد بأن كل هذا مقدمة لآخذ أمر إسلامه ببساطة، لكني لا آخذ إسلام أحد كأمر كبير جداً أصلاً، لأني أعتقد أن إسلام الإنسان هو معروف تجاه نفسه قبل أن يكون تجاه الآخرين.
بعد فترة في المطعم، وبينما أنا أحمل صينية الطعام، صادفت شخص كان صديق لي في وقت غابر. سلم علي، وقال بأنه سيأتي إلى طاولتي، تاركاً إياي أذهب، وقد ذهب هو ليغسل بعد وجبته على ما يبدو.
انتظرت بشيء من الوجوم حضوره، جاء إلينا ووقف الصديق الألماني وتصافحا، قال له بالانجليزية، بنفس الأسلوب الذي استمر منذ أيام الطفولة، بأن اسمه كذا وكذا، بتأتأة مشوبة بثقة ولا مبالاة على نحو غريب. ولما رد الألماني معرفاً عن نفسه طلب منه أن يستمتع بوجبته والتفت إلي. حينما طلب ذلك، كان يقول كلمات مهذبة، لكن بأسلوبه، كانت طريقة واضحة ومباشرة لأمر الرجل بالجلوس حتى يلتفت إلي بكل انتباهه، وبهذا كان الأمر سلطوياً ولا مبالياً بالواقع، رغم حسن النوايا. لم يكن هذا صادماً، كانت هذه طبيعته الصميمة منذ أن كنا أطفالاً، وحتى بداية سنوات الجامعة.
تحدثنا قليلاً جداً، وجاملنا بعضنا بالأسئلة، ثم طلب رقم هاتفي لنتحدث ونرى بعضنا لاحقاً، ومضى.
لم أكن في حيرة من أمري، ولم يكن شعوري متناقضاً؛ لقد كنت أتمنى لو أني لم أرى هذا الشخص.
وهذا ليس أني أتمنى له السوء، إني أتمنى له التوفيق كما كنت دائماً، لكني أتمنى أن يتوفق بعيداً، حتى عن التفكير. إن صداقته كانت من أغبى الأمور التي تشعرني بالمرارة حينما أتذكرها، لم يكن لها أي قيمة إيجابية، كانت مضيعة للوقت وللفرص الجيدة، وللثقة بالنفس.
لن أنكر أبداً بأنه ظل هو الأكثر تواصلاً في نهاية صداقتنا، ولكنها لم تنتهي لقلة التواصل؛ لقد انتهت لأني أردتها أن تنتهي، وقد طال التواصل أكثر مما أردت. بالواقع، لطالما كان اتصاله وزياراته أمور استنزافية بمعنى الكلمة، للشكوى من معاناة، لإسقاط أراء عن الآخرين، وأمور مشابهة. وهذا يذكرني بآخر صداقة حميمة كانت لي مع شخص من سني، كانت صداقة استنزافية هي الأخرى.
لقد كنت دائماً أرجو أن لا يحصل على رقم هاتفي، أو يصادفني، فلن يكون لدي له غير الترحاب، ولكني لم أرد بالمقام الأول رؤيته. شخصيته لم تلائمني حالما ازداد وعيي بالقدر الذي يمكنني من الإلتفات إلى الوراء وتقييم نفسي وصداقاتي، وهذا كان في الثانوية. وحالما دخلت الجامعة أردت للأمور أن تموت من تلقاء ذاتها، وهذا ما كان. لم أحب أبداً شخصيته التي تفرض إرادتها، وتعطي لنفسها الامتيازات، المحسنة الظن بالنفس إلى أقصى حد رغم كل العيوب، المتمحورة حول الذات، التي تذهب إلى أبعد مدى حال الحقد. لم أحب رغبته بقيادة أي مجموعة، انتقاداته التي لا تنتهي، استغبائه للكل، رؤيته المفرطة بالإشفاق على ذاته وظروفه وبالتالي استنزاف الآخرين.
الأمر الذي قد يثير السخرية، هو أني لطالما حاولت تجاهل ذكراه أو التفكير بحاله، ولطالما بنفس الوقت تسائلت عن حال والدته، وما يجري معها؛ إذ كانت امرأة طيبة بقدر ما كلمتها، وكان هذا كثيراً حينما كنا نتواصل عبر الهاتف، وكانت مريضة دائماً، وذات حظ تعيس. لطالما ذكرتني بوالدتي رغم اختلاف الطباع.
قد يقول البعض بأني جبان، أو ضعيف لا يتحمل، أو حتى قاسي القلب.
لكن لا أعتقد أن الهدف من الصداقة السوية هو اختبار الشجاعة.
ولا تجريب القدرة على التحمل.
ولا أعتقد أننا يجب أن نترك أنفسنا نهباً للآخرين مهما سلمت نواياهم.
فأنا أعلم بأنه على الأقل في آخر سنوات صداقتنا كان يخلو من النوايا السيئة تجاهي، لكن طبيعته كانت سيئة بالنسبة لي، وكان هذا كافياً.
كان الصديق الألماني الأصغر قد أحضر معه هدية من ألمانيا، خبز ألماني مغلف، وحلوى تقليدية. لم تعجب الحلوى أي من أهلي، لكني وجدتها رائعة جداً بمذاقها الغريب اللاذع، حيث أنها مصنوعة ببهارات لا يتوقعها المرء من تلك الجهات من العالم. قال لي بأن تلك الحلوى تؤكل في المواسم الباردة لتشعر الناس بالدفئ.
كنا نتكلم أنا والدكتور الألماني مؤخراً عن شخصية عامة. قلت بأنها شخصية صارمة، وهذه ميزة على الأقل، أفضل ممن ليس له أي ميزة. ابتسم وقال شخصية صارمة مثلك. ربما يعتقد بأني صارم لأني ضد المحاولات السخيفة لإحراجنا أمام العالم التي يقمن بها نساء من وقت إلى آخر حينما يقدن السيارة. إني مع الكلام والنقاش حول الأمر، ولست أرى بأن قيادة المرأة للسيارة هي أمر محرم بحد ذاته، ولا أعارضه حتى، لكني أعتقد بأننا يجب أن نصلح البيئة التي سيقدن النساء السيارة بها، والقوانين. كما أني انتقد الشباب المتغرب أمام الدكتور، وكذلك الشباب التافه، وقد قلت في لحظة عصبية في اليوم الوطني بأني أكره الشباب، مما أضحكه. لكن ربما كل هذا جعله يعتقد بأني صارم.
أخبرته بأني لست إنسان صارم كما يتخيل، إني أعتقد بأني مرن، وقابل للنقاش. وافقني سريعاً، لكني أضفت بأني أغير رأيي حتى بلا مشكلة حينما لا يكون جيداً، لكن ما يراه بي ليس صرامة، إنما التزام. طلب مني التحدث أكثر حول الأمر، فأوضحت بأنه التزام بما يعتقد المرء بأنه صحيح، وأسهبت في الأمر وفصلت قليلاً. اقنعه هذا في النهاية.
قضينا وقت طويل جداً في السيارة في اليوم الوطني، بسبب المرضى الذين يوقفون سياراتهم فجأة فيسدون الشارع، ثم ينزلون ليرقصون وهو يتمايلون ويهزون أردافهم. كان أمر مقرف، لكن لحسن الحظ أنه كان معي، فقد تكلمنا كثيراً وقطعنا الوقت.
سألته إن كان يعتقد بأن الطبيب الألماني، الذي قضينا معه بعض الوقت قبل فترة وكتبت عن الأمر، يصلح أن يكون سياسياً؟. ذهل وقال لا، إنه أبعد ما يكون عن السياسة، إنه ساذج، لكني أجبت بأن هذا بالضبط ما يجعله مؤهلاً للأمر. ضحك الدكتور بقوة، ويبدو أنه حسبني أمزح، لكني كنت جاداً، فعلق قائلاً وهو يضحك: ما هذا؟ فلسفة جديدة من فلسفات سعد الغريبة؟. شرحت له بأن الأكثر سذاجة وبعداً عن عمق التفكير هم من ينجحون بالعمل السياسي، وعلى الأقل الطبيب الذي نعرف رجل طيب وذو نوايا سليمة، ولديه الكاريزما كما يعتقد الدكتور أيضاً، وأضفت: أما أنت، فلعمق تفكيرك وبعد نظرك، لن تصبح سياسياً. وافقني على أن من يتميزون بالحكمة والعمق لا يصبحون سياسيين.
رأينا في وقت لاحق سيارة أعشقها، ويعشقها الدكتور أيضاً. لنا نفس الذوق في السيارات إلى حد بعيد، فهو يتفهم حبي للسيارات الفرنسية والإيطالية، ويشاركني إياه. السيارة التي رأينا لا تباع هنا، فلا وكالة لها، وهي إيطالية صغيرة من نوع فيات، وكانت ذات سقف مكشوف، وأتصور بأنها مصنوعة في أمريكا، حيث بدأت الشركة الإيطالية بالتصنيع هناك لأجل سوقهم، وبدأت التسويق على نحو مبتكر (يوجد من السيارة تصميم بالتشارك مع ماركة أزياء).
أحيي هذا الشاب على ذوقه. لكن من أين أتى بالسيارة؟ ما شاء الله.
في وقت لاحق، رأيت العجب من المحتفلين باليوم الوطني. لطالما ظننت بأننا شعب جميل بعمومه، واعتدت أن أرى الوجوه الوسيمة في كل مكان، لكني في ذلك اليوم شككت بأننا أقبح شعوب الأرض، إذ رأيت ما جعلني أحتار إن كنت قد اكتسبت فجأة القدرة على رؤية الثقل الثاني.
رأيت شاب يشبه السنجاب القديم في فيلم آيس ايج، يلتفت إلي من وقت إلى آخر وهو جالس على نافذة سيارة، ورأيت شيء آخر شككت بأنه اسطوانة غاز مسروقة أو هاربة، حتى التفت فخيل إلي بأني أرى دابة آخر الزمان. وكان يسير بين السيارات مع حفنة من الشباب، وقد ضرب شخص في سيارته مفتوحة النافذة بعصا معه ثم تظاهر بأنه يمزح.
كان الناس يوقفون سياراتهم في منتصف الشارع، فيتوقف الجميع، لينزلون ويرقصون رقص سامج متخنث، ويتقابلون بالرقصات البطيئة والقبيحة وهم يتخيلون بأنهم يؤدون إنجازاً، ويشدون نظرات الإعجاب. لا أقول بأن هوياتهم الجنسية غير واضحة بالنسبة إليهم، لأني لا أعتقد بأنهم كانوا يحاولون إغراء أحد، فحتى ذبابة لن تشعر بالإغراء لتحط عليهم.
كان من الواضح أيضاً بأنهم جائوا من أماكن بعيدة عن المنطقة ليحتفلون، فمنطقة العليا ملازمة للإحتفالات السخيفة والأشكال المشبوهة مع الأسف، فأقصى طموح البعض هو أن يستعرض تفاهته في العليا ويلفت الأنظار.
أتمنى لو كان اليوم الوطني يوم للتذكير بالمكتسبات، لا لتشويه المناظر والتعدي على الأنظمة. لقد رأيت شباب يسدون معظم طريق الملك عبدالله بسيارتين في المسارين، ثم ينزلون ليرقصون دون أن يقول لهم أحد شيئاً.
ولماذا لا يكون هناك أيام أخرى تذكر بأمور مهمة؛ كالأحداث الجسيمة من قبيل الحروب والمآسي مثل مذبحة تنومة، حتى لا ينسى الناس هذه الأمور، ويقرأوا التاريخ جيداً ويعرفوا أعدائهم، ويشكروا الله على النعمة.
أخبرت الدكتور قبل فترة بإسلام الألماني الآخر، وقد فوجئ بالأمر. ثم قال بأن همام (صديقي الصيني، عسى الله أن يشفيه من مرضه) أسلم والآن فلان (يقصد الألماني الآخر)، وكان مبتسماً وهو يقول هذا. قال لي هذا لأنك دعوتهم. كان يريد أن يريني بأني مؤثر، لكن لم يكن هذا واقعاً؛ فقلت: لا، أنا لم أدعو أحداً. وأوضحت له بأننا تناقشنا حول الدين حينما أرادوا هم ذلك، وتكلمنا حول الأمور وفق سياق النقاش، لكني لم أحاول إقناعهم باعتناق الدين.
إني لا أحاول إقناع بالكلام أحد لأني أعتقد بأن هذا قد ينفر الناس، خصوصاً حينما لا يشكون عدم اقتناعهم بدينهم. إن ما أحاول القيام به، لأجل نفسي بالمقام الأول بكل صراحة، هو أن أريهم مثالاً عن جودة الإسلام كأسلوب حياة بقدر ما أستطيع.
قد يعتقد البعض بأني يجب أن أبذل مجهوداً أكبر طالما أحظى بصداقات وقبول عدد من غير المسلمين، لكني لا أعتقد بأن هذا مجهود صائب لأبذله، في حالتي وطبيعة شخصيتي. إني أرى بأن تكون الدعوة عملية، بالمثال الحسن والواقعي، بالعفوية وبدون قصد؛ إنك يجب أن تمثل المسلم الجيد بقدر ما تستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ودون نفاق، إنك يجب أن تتصرف فقط على طبيعتك، وإن كانت طبيعتك سيئة، فحسنها. إني أفرح لأصدقائي حينما يعتنقون الإسلام، لأني أرى فيه أملهم بالجنة، لكني لا أرهق نفسي بالألم حينما أفكر بأنهم قد لا يسلمون أبداً، يكفي أنهم من خيرة الأصدقاء عموماً، خصوصاً همام وذلك الدكتور الصيني الذي رحل، وبطبيعة الحال، وفيما لا يحتاج إلى قول وتحديد؛ الدكتور الألماني. كما قلت سالفاً، إن إسلام المرء معروف تجاه نفسه بالمقام الأول، وزاد من قناعتي هذه رؤيتي لابتزاز بعض الأجانب لمشاعر المسلمين بدخولهم الإسلام ثم توقع الكثير.
وبالواقع، أنا لم أؤثر في قرار الاثنين للدخول في الإسلام. الألماني كان يفكر بالأمر منذ الأزل، أما همام فقال بأن نموذجي كان له تأثير جزئي. كان الدكتور الصيني معجب بطريقتي مع الأمور؛ لكنه لم يسلم رغم مشاعره الروحانية، وأسأل الله أن يهديه للإسلام... هل سأراه مرة أخرى؟ أسأل الله أن يكون لقاءاً ساراً في يوم ما.
سألني الدكتور عن ما أقرأ حالياً؟ إني أقرأ أكثر من العادة مؤخراً، لكن للأسف الشديد قرائتي غير مركزة، إنها مشتتة بين الكثير من المصادر، الموسوعة الحرة وكتابين ومجلة وأشياء متباينة.
لكننا تكلمنا حول الإنكا، حيث أني أحاول أن أقرأ الكتاب الممتع الذي لدي عن هذه الحضارة بأقصى تركيز، لكن ربما يجب أن أحاول بطريقة أخرى.
سألني إن كنت أعتقد بأن الإنكا هي أرقى حضارة مرت على البشرية؟ من شأن إجابة ساذجة على هذا السؤال أن تكشف عن مرض عقلي، أو ، وهو الأسوأ، سذاجة لا عذر لوجودها. قلت بأن المقارنة بين الحضارات أمر ليس سهل، إنه قياسي، يجب النظر فيه باعتبار الظروف. طلب مني أن أوضح. شرحت بأن الإنكا أنجزوا الكثير من التقدم رغم احتكاكهم المحدود إلى حد بعيد بحضارات أخرى راقية، على عكس الحضارة الأوروبية التي وصلت إليهم بتقدم تقني أعلى (البنادق على وجه الخصوص)، وذلك لأن الحضارة الأوروبية استفادت كثيراً من كل حضارات العالم التي حولها في ذلك الوقت، وراكمت علومهم وإنجازاتهم، وليس انجازاتها وحدها فقط. هب الدكتور، وبدا عليه الاستغراب، قائلاً: ولكني أعتقد بأن الاستفادة من إنجازات الآخرين وعلومهم هو أمر طيب. قلت بأني لا خلاف لدي على هذا؛ لكني لست أتكلم عن المسلك الأفضل للتحضر والرقي، إنما أحكي عن الظروف والفرص. وأضفت بإعجاب: وعلى هذا، انظر إلى الإنكا، ما حققوه وما وصلوا إليه من تلقاء ذاتهم، أمور حتى لم يصل إليها الآخرين رغم تراكم علومهم (كانوا متفوقين بالفلك والرياضيات، والبناء، حيث أن قلعة لديهم وصفت بأنه لم يرى مثل بهائها وهيبتها من حيث الضخامة في أوروبا، قبل أن يتسلط عليها الهمجيون الأسبان، الذين وصفوها بذلك الوصف). وسألته أن يتخيل لو تركوا ليتقدمون بطريقة طبيعية، إما بمعزل عن بقية العالم أو بالاستفادة منه، كيف كان سيصبح حالهم. وحكيت له عن نظامهم الاجتماعي الفريد، وسياساتهم السابقة لوقتها من حيث التعامل مع الانشقاقات والاحتجاجات.
هز الدكتور رأسه موافقاً، وهو يتأمل نظاراً إلى اتجاه آخر، كعادته حينما يستغرق بالتفكر بما يقال. وافقني، وسألني إذا ما كنت أتمنى لو وصلت إلى الإنكا قبل الأسبان. قلت بأني أتمنى ذلك، حتى أحذرهم. لقد أخذت تلك الأمم عموماً على حين غرة، وكانت لديها فرصة للدفاع عن نفسها لولا سوء فهم للأمور بالنسبة لبعضها، وتكالب ظروف وسوء حكمة لآخرين. منذ أن كنت مراهقاً، كنت أتسائل، ماذا لو وصل المسلمين إلى اؤلائك الناس قبل غيرهم.
ثم سألني باسماً؛ هل لدي اهتمام بالفراعنة؟. قلت لا. ضحك، وقال بأنه توقع هذا، وسألني لماذا؟ قلت بأني سمعت عنهم أكثر من اللازم، فحينما يحيط بك مصريون منذ طفولتك يتحدثون عن الفراعنة يصبح الأمر مملاً جداً. وقلت بأني أعتقد بأن الاهتمام الذي يطالهم يجعل الناس يتجاهلون بضارات أخرى جديرة بالاهتمام لا يعرف الناس عنها الكثير، وهذا أمر مؤسف أحاول أن أتفاداه. وافقني على ذلك. يسهل تجاهل أمور كثيرة جيدة حينما يركز جميع الناس بقيادة مجموعة صغيرة على مجال ضيق.
إني أقرأ أحياناً عن الفراعنة، لكن صدقاً لا أشعر باهتمام كبير تجاههم.
كان يوم أمس يوم مضن في نصفه الأول، وجيد في نصفه الثاني. في نصفه الأول، فسد جوالي للمرة التي لا أدري كم، إذ اضطررت إلى إعادة تهيئته، أو تمهيده كما يقول الدليل، ويبدو أن هذه أقوى عمليات التهيئة، حوالي 3 أو 4 مرات. صار مؤخراً يقرر في بعض الأيام "اعتزال الفن" , ويتحجب، صابغاً شاشته بالسواد (حنبلي)، فيتوقف عن العمل حتى بأبسط الصور، أو ينكد علي أي شيء أحاول القيام به من خلاله. الغريب أنه في اليومين الذين سبقا كان قد تحسن قليلاً، مما أغراني بتأجيل شراء جوال جديد، مع أني أخرج كل يوم لأشعر بالحيرة تجاه جوال محدد. ثم ضرب ضربته في أسوأ ظرف، حينما كنت أنتظر اتصالاً مهماً من المنزل، حيث أصبحت ولادة أختي متوقعة. كان يقهرني بإطفاء نفسه حينما أحاول القيام بشيء، أو يعرض علي اتصالاً ويتركني أحاول أن أرد دون جدوى، ثم يغفو. اتخذت التدابير الضرورية، رقم زميلي الملتزم الطيب والعصبي أعطيته لأمي (والحمد لله أني كنت أستخدم أندرويد، حيث يخزن هذا النظام كافة أرقام ووسائل الاتصال في البريد الالكتروني على نحو متزامن). وأجريت اتصالاً بمن اتصل بي، وهو الدكتور الذي عملت تحت إدارته في الوزارة حيث عملت قبل زمن، وكان طيباً معي. كان يريدني أن أتابع له أمر ما، إني أشعر بالسعادة حينما أجد بأنه لا زال يحب أن يعتمد علي ويثق بي.
جاء الاتصال الموعود، وعدت إلى المنزل، وأخذت أختي، وفي المستشفى الجامعي الفاشل حيث تتابع حملها ويفترض أن تضع، قيل لنا بأنهم لن يستقبلونا لامتلاء الحضانة. كان هناك الكثير من النساء، وكانت إحداهن تبكي على كرسي متحرك، مما فطر قلبي. أجريت اتصالاً بأخي الذي يعمل بالجامعة أيضاً، وحاول المساعدة، لكني قمت بجهودي التي أثمرت، لأن الممرضة في الحضانة قالت بأن لي معاملة خاصة طالما كنت أعمل في الجامعة، ورغم أنها أختي وليست زوجتي، إلا أنها تعاطفت واتصلت بالطبيب المسئول، الذي أمر بإدخال أختي. كن الطبيبات مشدودات الأعصاب في الأسفل، وقيل لي لماذا لم أقل بأني موظف في الجامعة؟ كانت بطاقتي معلقة على جيبي، وكانت الممرضة المسئولة تراها.
قررت شراء جوال اندرويد بلا تأجيل، فلم يعد هناك جدوى من الانتظار وجوالي فسد، وأمالي في الأساس قد تحطمت في نظم التشغيل الأخرى بالوقت الحالي.
كنت أذهب كل يوم لأشاهد جوال معين، وأعود إلى المنزل لأقرأ عنه أكثر، وأمر محلات مختلفة لأتعلم أكثر عنه. إنه يعجبني جداً، لكني كنت خائفاً من الندم لاحقاً رغم أني لم أجد به عيباً، وقد كان يلائم ذوقي من كل الجهات فلا أرى به نقيصة. ربما لأني لأول مرة أشتري جهاز من سوني اريكسون، وربما لأن الأندرويد هو نظام جهازي الذي فسد، رغم اختلاف الإصدار. قرأت أربعة تقارير تشيد بالجهاز من مواقع ومجلات عالمية. وربما لفساد جوالي زال التردد، لأني علمت بأني مضطر ولذلك لن أندم كثيراً في حال ندمت، لأنه لا يوجد خيارات أكثر ملائمة. لكني الآن سعيد جداً لأني اشتريته، وأرى بأنه ما كنت أحلم به كجهاز إلى حد بعيد. أتمنى أن يستمر جيداً، وأن لا يخيب ظني نظام أندرويد مرة أخرى. اسم الجوال اكسبيريا ميني برو.
حجمه الصغير جداً وذو التفاصيل الغريبة يلائم ذوقي كثيراً. مميزاته رائعة بالنسبة إلى سعره، والأهم هو وجود لوحة أزرار منزلقة بالعرض، جيدة للكتابة، وبحروف عربية، وتبدو رائعة المظهر تحت الشاشة الصغيرة. وهذه تسهل علي الكتابة، إذ أنه لحسن الحظ بإصدار يدعم تحرير مستندات قوقل، وهكذا سأجد ما أقوم به في أوقات الانتظار في المستشفى بخلاف القراءة. كما أنه جيد كمصدر للانترنت اللاسلكي للأجهزة الأخرى، وقد جربته اليوم، حيث اتصلت بالانترنت على جوال أختي من خلال جوالي كنقطة واي فاي، وكان الأمر سلساً جداً، وحملت لها برنامج بلا مشكلة.
والإنجاز الآخر لنفس اليوم، والذي كان إنجازاً حلواً ومراً، كان إيجادي أخيراً لطريقة لتشغيل شريحة الجوال على جهازي بنظام تشغيل كروم الذي حصلت عليه قبل فترة الآن في إطار برنامج التجريب المجاني من قوقل، وكتبت عنه هنا.
كانت الطريقة بسيطة، ورغم بحثي حينما اقتنيت الجهاز ومحاولاتي إلا أني لم أهتدي للطريقة المناسبة. ولا أدري هل العلة أنها لم تكن مكتوبة في الدعم الرسمي للجهاز في ذلك الوقت أم أني لم أبحث جيداً. المهم أن الطريقة بسيطة، وتشبه إلغاء قفل أجهزة الجوال القادمة من أمريكا لتعمل على شبكاتنا المحلية. لكني كنت أظن بعدما لم أجد إجابة في السابق بأنه ربما يجب الاتصال بقوقل لتقوم بذلك عن بعد، مثلما يفعل أخي حينما يأتي من أمريكا مع جواله الخاص. لكن تبين أن الطريقة بسيطة، سطر برمجي من الدعم الفني الرسمي للجهاز ويُلغَى القفل. حالما وضعت الشريحة عملت، وقد أذهلني هذا، لأنها لم تحتج إلى إعدادات كما يحدث مع الكونيكت، كان الأمر فائق السلاسة على نحو غير معتاد.
كنت قد عانيت إلى حد ما في الفترة التي سبقت هذا الإنجاز، ليس بسبب الجهاز، لكن بسبب الراوتر اللاسلكي الذي كنت أحمله معه، فتنتهي بطاريته أحيانا فأضطر للتوقف عن العمل، أو أحتاج إلى توصيله طوال الوقت بالحاسب ليشحن ويستنزف البطارية، أو أشحنه في السيارة وهذا أمر أنسى أحياناً القيام به مثلما أنسى شحنه بالمنزل، ولكونه ليس بالسرعة التي توقعتها رغم كونه معقولاً، لكني لم أفهم أبداً لماذا تزول إشارة الجيل الثالث حالما أتصل به. أما بوجود الشريحة الآن داخل الجهاز، فقد أذهلتني سرعة الانترنت، حتى في الأماكن التي لا يستقبل بها جيداً داخل المطعم ذلك الراوتر (في نفس المطعم تختلف الكفاءة من جهة إلى أخرى على نحو غريب)
الآن لا أدري ماذا سأصنع بالراوتر، الذي أقدر خدماته. فحينما فكرت بإعطائه اختي انتبهت بأنها يمكنها استخدام الكونيكت مباشرة، فلا فائدة منه. والمقرف أكثر في الوضع أن الجوال الجديد كان سيؤدي الغرض مثل الراوتر، فكنت سأوفر ثمنه لو كان لدي جوال أحدث.
لا أدري إن كنت سأبيعه، لا أتوقع بأن هناك من يحتاجه عموماً.
بعد شراء الجوال، علقت كما توقعت بدون إعدادات جيدة للانترنت أو رسائل الوسائط المتعددة. موبايلي لا ترسل الإعدادات الصحيحة إن أرسلت. بعد محاولات مضنية معهم، وإرسال إعدادات مختلفة عن بعضها على نحو مريب في أكثر من مرة، فكرت أن أفعل الأمر يدوياً كما كنت أفعل مع جهازي الأخير، وعن طريق موقع سامسونق، حيث اعتقدت بأن الاعدادات ستكون واحدة طالما كانت الأجهزة بنفس النظام. اخترت القالاكسي اس2، لأن اصداره من نظام أندرويد مثل اصدار جهازي (رغم أن سعره عموماً حوالي الألفين وأحياناً أكثر وسعر جهازي 1300 ريال). وفوجئت بخدمة جديدة، إنهم يرسلون الإعدادات إلى جوالك مباشرة، ولا حاجة للإدخال يدوياً، وهذا أمر رائع، رغم أني اضطررت للتعديل على أحد الإدخالات، فنجح الأمر. وجدت متصفح الجوال يحول مباشرة إلى موقع سامسونق، لأنهم أرسلوا لي الإعدادات، شيء مثير للسخرية.
وضعت أختي المولود، بعدما حقدتُ (أنا) عليه كثيراً بسبب المتاعب التي سببها. اتصلت أمي بي وأنا في العمل، في اليوم التالي، وكنت على وشك الخروج لانتهاء الدوام. أطلعتني على الخبر، وأمرتني بأن أذهب إلى المستشفى حالاً وأكافئ نيابة عنها الممرضة التي اتصلت بها (عادة البشارة لدينا)، وأطمئن على أختي والمولود إن استطعت، الذي لا زلنا نجهل جنسه بسبب التكتم المفروض في المستشفيات حالياً. تسترن الممرضات على من اتصلت، وقيل لي بأنه لم يتصل أحد ولا يوجد أحد بذلك الاسم. كدت أن أصدق، لكن علمت لاحقاً بأن الممرضة موجودة، لكنهن يخفن من الإخبار لأن الاتصال ممنوع بتلك الطريقة. كل هذا رغم شرحي بأن كل ما في الأمر هو هدية من أمي. قدرت الممرضة التي تكلمت معها هذا الشيء، لكن لم تخبرني بالحقيقة مع ذلك. طلبت مني أن أنتظر لنصف ساعة حتى يخرج اللئيم من غرفة الولادة، لأراه. ثم نادتني، ورأيته، وسألتني الممرضة التي معه بضع أسئلة لتتأكد من قرابتي، ثم سمحت لي بتصويره، وكان ولداً جميلاً جداً ما شاء الله، حالما رأيته شعرت بالبهجة تملأ قلبي، وتصالحنا. فتح عينيه في اتجاهي، كان رائعاً ما شاء الله. سيعاني من قبلاتي لسنوات مقبلة، إن أحياني الله.
أريد أن أربيه عندي.
لحظة خروجه من غرفة الولادة |
إذا، دخل المحمدين الروضة لهذه السنة، وتخلى أحدهم عنها مبكراً. أشعر بالحماس مع ذلك لأجل الآخر، رغم أنه متكتم على أسرار المدرسة والاصدقاء، ويرفض التحدث كثيراً. هذا ذو الشعر الخويتمات. أما الآخر فقد أحزنتني المصاعب التي واجهته وصغر عقل معلمته. هذا بالمناسبة مصر على أن لون شعر وجهي أخضر، ودائماً يتسائل باستنكار لماذا أصبغ شعر وجهي باللون الأخضر؟ أخبره بأني لا أصبغ لحيتي القصيرة، وأنها بالواقع سوداء، لكنه يوضح لي أن اللحية السوداء هي لحية والده، وليست لحيتي. أعتقد أن كون لون بشرتي أفتح يجعل اللون مخادعاً لعينيه، ويتعب نفسيته!!. إنه يستهجنني بوضوح لاختيار هذا اللون، الأخضر، وهذا أمر مضحك.
عاد همام، الصديق الصيني، من بلاده أخيراً. أرسل إلي رسالة يخبرني، وفي اليوم التالي جاء إلى المكتب لينهي إجراء صغير. صدمت حينما رأيته، كان مفتقر للحيوية، وكان يبدو عليه الضعف والانطفاء. شعرت بالألم للأمر. خمنت بأنه يريد أن ينهي ما جاء لأجله وينصرف، لأن التشتت كان باد عليه، لهذا قصرت سلامي من خلف حاجز الاستقبال، ولم أكثر الكلام، وصدق تخميني. ساعدته سريعاً بعمله، وقال بأنه يريد أن يراني قريباً، قلت بالتأكيد. اتفقنا أن نلتقي في الليل.
كان حاله أفضل قليلاً، لكن كان لا يزال غير مركز أو متزن تماماً، ويبدو عليه التعب عموماً. لم يشفى من المرض، واضطر للعودة إلى هنا حتى لا تنتهي تأشيرته. احضرت له حبوب، مكمل غذائي، استعملته في الفترة الأخيرة وشعرت بأن حالي أفضل بكثير. أتمنى أن يفيده. شعرت بالعجز عن المساعدة، وكان هو خجل من اهتمامي واقتراحاتي. رفض إكمال العلاج هنا، لأنه يريد أن يعالج على الطريقة التقليدية في الصين. كنت قد أخبرت والدتي بأنه جاء من بلاده، حيث كانت تدعو له ليشفى، وأخبرتها بأنه لم يشفى، وأنه بدى عليه الضعف الشديد. اقترحت أمي أن ترسل إليه ماء وزيت مقروء فيه القرآن. وافق على الاقتراح. أتمنى أن يشفيه الله إنه على ذلك قدير.
رغم كل شيء، لم ينسى المجيء بهدايا، مما أثر بي كثيراً. أحضر إشاربات من الحرير الأصلي لوالدتي وأخواتي. لم أرى قماشاً أجمل منها، إذ لم أرى في حياتي قماش يلمع على هذا النحو البديع، بدا سائلاً أكثر منه قماشاً. كان من الواضح بأنها غالية، بوجود علامة معلقة وتغليف جيد. تمنيت لو لم يتكلف هكذا. كانت والدته قد ساعدته بالاختيار كما خمنت، وعلقت بأنها لهذا تبدو جميلة.
تناولنا العشاء، وأراني صور ابنة اخته التي أحضرها كما وعدني، كانت طفلة جميلة جداً ما شاء الله، ذات خدود كبيرة وفم فائق الصغر. وهي ليست ابنة اخته تماماً لأنهم في الصين لا ينجبون بشكل عام أكثر من طفل واحد، لكنها ابنة ابنة خالته، وهي كأخته.
اجتمعنا أنا والدكتور الألماني في الأسبوع الفائت لنشاهد فيلماً،Spirited Away، الذي أعتقد أن أسلم ترجمة لاسمه هي اختفاء أو تلاشي. وهو فيلم صنعه فناني المفضل هياو ميازاكي، أفضل فنان أعرفه على ما أعتقد، فهو أيضاً الذي صنع فيلم الأميرة مونونوكي Princess Mononoke. اختار الدكتور أن يراه لأنه مهتم بهذا الفنان أيضاً، فقد أحضرت خيار آخر.
كنت قد توقعت منذ البداية أن يعجبه أكثر من مونونوكي، فهو بالأساس، وبغض النظر عن تفضيلي لمونونوكي عليه، أعتبره من أروع ما قد يراه المرء؛ إنه فن خالص. أخبرت الدكتور عن تخميني، وسألني لماذا اعتقدت هذا؟ قلت بأن الناس إجمالاً لهم نفس الرؤية، وهي لها ما يبررها، هذا الفيلم مبهر أكثر ربما، وهو ليس سيء، بل إنه ثاني أفضل فيلم رأيته في حياتي بعد مونونوكي، ويقبع قريباً جداً من مونونوكي من حيث الجودة والروعة في رأيي. إنه لا يوصف. مع ذلك؛ يحتل مونونوكي مكان خاص في قلبي، لأنه ينطوي على فلسفة تعجبني، بينما هذا ينطوي على إنسانية محضة وخيال مجرد بمواضيع متعددة لا تركز على فلسفة؛ إنه أشبه بقصيدة بمقاطع مختلفة، كل مقطع مختلف ومؤثر، خصوصاً مشهد القطار والمسافرون عليه، والمحطات التي يمر بها، اؤلائك الناس المصنوعون من الظلال، بأشكالهم البائسة، وانتظارهم الذي لا ينتهي، كان هذا المشهد قصيدة. ابتسم الدكتور، وقال بأن هذا مشهد رائع جداً، وأنه يعتقد بأنه أعجبني هكذا لأنه يشبه حياتي. يرى الدكتور حياتي هكذا. ربما كان محقاً، لأني منذ أن رأيت هذا المشهد قبل زمن طويل، رأيت حياتي فيه.
أكملت بأن هذا الفيلم عبارة عن رؤية إنسانية، أو خيرية، أما مونونوكي فهو ينطوي على فلسفة، وهو أعمق. قلت بأن الناس بالعادة لا يتمكنون من الوصول إلى هذه الخلاصة مع مونونوكي، ووضع أيديهم على ما يريد صانعه أن يقول من خلاله. قال الدكتور بأنه يريد أن يراه مرة أخرى إذاً، ليفهمه على نحو أفضل.
تكتب امرأة في جريدة الرياض عن الابتعاث منذ فترة، والجدل الدائر حوله. اسمها حسناء القنيعير، وهي هجومية تجاه من لديه وجهة نظر سلبية عن الابتعاث أو بعض جوانب البرنامج، وتتحدث عن أصحاب وجهات النظر هذه بطريقة صفيقة وعلى جانب من الشراسة. شعرت بالحزن وأنا أقرأ بعض مقاطع مقالاتها. لماذا لا يمكن احترام وجهات نظر الناس وشعورهم. ألا يمكن التفكير بأن لهؤلاء الناس دوافعهم للإنتقاد والتخوف، إنهم لديهم ثقافة هم ملتزمين بها، وخائفون عليهم، سواء ظن المرء أن خوفهم في محله أم لا. لكن هذه المرأة، مثل الكثير من الكتاب، لا تعرف سوى أن تتفنن بالاحتقار واستصغار العقول. لا يأخذون حسن النوايا بالاعتبار لأنهم لا يحسنون النية تجاه الناس مع الأسف، ويظنون أنهم مصلحون. مثل هذه المرأة كثيرون، وهم أناس لا يبحثون عن الحقيقة أو أفضل الخيارات وأقربها إلى السلامة بقدر ما يبحثون عن تطبيق ما فيه مخيلتهم في الواقع، أو ليّ الواقع وتشكيله بكلماتهم بما يوافق ما يرونه في رؤوسهم، لهذا ترى شراستهم وانعدام السياسة والأخذ والعطاء في الحوار أو إعطاء وجهات النظر.
تجدها تقسو مرة بعد أخرى في التعاطي مع أمرهم، ولا تكتفي فيظن المرء بأنها تحمل حقداً كبيراً تجاه فئة معينة من الناس. وهذا أمر محزن، ويقوض مصداقيتها في عيناي، لأن المبالغة الجوهرية الزائدة عن الحد لا تعطيني انطباعاً بسلامة حكم من أقرأ له.
كنت قبل فترة طويلة قد رددت في مدونة دكتور سعودي من النوع الذي وصل إلى منتصف العمر وبات يستخف دمه بلا مراجعة لما يقول، أو كما نعبر: يتميلح، مثلما يفعل هذا الذي يكتب زاوية سوانح طبيب في جريدة الرياض اسمه بن سعيد، على ان بن سعيد أكثر تعقل وتهذيب. اسم الدكتور الذي أتحدث عن ردي في مدونته هو العبدالكريم، وكان يسخر ممن يقرأون الروايات، ويتهمهم بنقص العقل والفراغ. حاولت مناقشته في الأمر، فتبين بأن كل ما يريد الوصول إليه هو إثبات وجهة نظره، وتصيد التفاصيل الصغيرة غير المهم والبعد عن الجوهر. لما أخبرته بهذا، قال بأن محاولة البحث عن شتى الطرق لإثبات أن وجهة النظر صحيحة أمر طبيعي. أخبرته بأن ما أبحث عنه حينما أناقش هو الحقيقة، والآن بعدما تحول الأمر إلى جدل، لم يعد يلائمني. حاول إطالة الأمر، إلا أني أوضحت وجهة نظري، حيث أننا نبحث عن أمور مختلفة. كنت قد أفحمته بالواقع، ربما لهذا لجأ إلى الأساليب الملتوية، وقد لجأ إلى السخرية في النهاية، ولما لم يجد نتيجة، وضع وجهاً حزيناً. كان يصادر وجهات نظر الناس بلا حياء، وربما لم يتوقع بما أنه دكتور أن يبين له أحد ما بأنه لا يقدر أفكاره عن الناس وأسلوبه في طرحها. حينما أعود إلى مدونته المستضافة على خدمة مدونات الجامعة، أجد أنه كل فترة وأخرى يحذف رداً من حوارنا. لكن لا يهم، لأني أتمنى أن يكون قد استفاد، وتعلم أن يتأدب مع اهتمامات الناس ومشاعرهم.
هذا الدكتور العبدالكريم، وتلك حسناء القنيعير، وهي دكتورة أيضاً (هذا يفسر الكثير على ما أعتقد)، كثرة أمثالهم ووصولهم للناصب ومنابر الرأي هي من أسباب تراجعنا في رأيي.
لست ضد الابتعاث، ولا أعتقد بأن هناك من كان ضده قبل زمن، قبل أن يفتح الباب له بطريقة مفاجئة وغير مريحة، لفئات سنية صغيرة ولعدد كبير جداً منهم. الابتعاث كان موجود منذ عقود دون أن يثير جدلاً، على العكس، كان مجهود يحترمه الناس لتطوير البلاد. إذا الخلل والاعتراض ليس على الفكرة في حد ذاتها.
أعتقد بأن فكرة الابتعاث تنطوي على شيء من الظلم للبلد، ففضلاً عن إرسال شباب صغار دون معايير كافية للانتقاء هو أمر قد يسيء لثقافة البلد على الأغلب. الانتقاء ضروري في كل شيء. إرسال أشخاص ناضجون سيساعد كثيراً على عودة خبرات متزنة إلى حد بعيد. من الممكن إرسال شباب صغار بأعداد تسهل متابعتها في الخارج إن كان هذا ضرورياً، وبعد اختيار الملائم منهم بصرامة، وحتى هذا أمر غير مريح بالنسبة لي.
كما أني أرى بأن ميزانية الابتعاث الضخمة تظلم من سيتابع تعليمه داخل البلاد. رأيي هو أن الأجدى قسم الميزانية وإحضار أساتذة أكفاء من الخارج بأعداد كبيرة، من دول متقدمة حقاً، ليعلموا أكبر عدد ممكن من أبنائنا، وليس بعضهم ممن سيتعبوننا بمصاريف كل شيء في الخارج بأعدادهم الضخمة.
وبصراحة، لو كان الأمر بيدي، لما قسمت المال المخصص للأمر أصلاً، لجعلته كله ينحصر بإحضار الأساتذة الأجانب من الخارج، حتى للتعليم العام، وإحضار الخبراء لتطوير التعليم وإدارة الجامعات من الناحية الأكاديمية في أقل الأحوال. ويمكن ابتعاث من يستحق من الكبار إلى الخارج مثلما كان الحال في السابق في نفس الوقت.
هذه صورة لبطاقة مراسلة اشتريتها ضمن بطاقات أخرى، لأرسلها إلى بعض الأصدقاء في الخارج. كلها تحتوي على صور لمنازل قديمة في السعودية، وكلها جميلة، كل المنازل أجمل من أي منزل يسكنه الناس الآن في المدن الحديثة هنا.
هذا البيت في الصورة أعلاه يقع في عسير، وهذا واضح من طراز البناء. ربما هو أجمل البيوت في الصور لدي، رغم أن الحكم صعب حقاً، فهي كلها جميلة بنفس القدر تقريباً. لكن، هذا البيت الذي حالما رأيته؛ تمنيت بشدة لو كنت أعيش فيه. ولا أدري ما السبب تماماً، ربما لأنه الأكثر موافقة لذوقي، مع أن البيوت الجميلة الأخرى تقع في مزارع وجنات.
إنها صور متقنة، تلك المطبوعة على هذه الكروت، ويوجد توضيح باللغة العربية والانقليزية حولها في الخلف، فوق مساحة كتابة الرسالة.
حينما أرى هذا المنزل، أفكر بالذوق الراقي للأجداد في عسير ونجد، والجزيرة عموماً، لم يكونوا بالبساطة التي نتصورها، ولسنا أفضل منهم بالواقع بالكثير من النواحي الحياتية؛ فقط قارن بين مساكننا ومساكنهم الأكثر منطقية وجمال في بيئتهم.
هذه البطاقات تطبع في الرياض، وتباع في أماكن متعددة؛ يمكن إيجادها في سوق التميمي، وفي محل صغير لبيع الكتب والكماليات داخل يورومارشيه، وأتصور في المكتبات كذلك.
لا يحتاج المرء إلى أحد ليرسلها إليه، لأن جمال الصور سبب كاف للشراء، أحب تأملها، وقد اشتريت نسختين من الصورة في الأعلى بالذات، واحدة لأرسلها والأخرى لأتأملها وأتفكر بها. ويمكن كذلك إلصاقها في مكتب، أو وضعها في إطار.
هذا الأسبوع، كتب رئيس تحرير جريدة الجامعة عموده المعتاد، ولست أقرأه بالعادة بصراحة، لأنه لا يقدم ما يفيد، كل ما في الأمر غالباً هو مديح وخلافه. لكن هذه المرة لفتت انتباهي عبارة، أرسلت إليه أطلعه عن رأيي في إيرادها في المقال، وعنواتها: الأولويات المختلفة. هذه هي الرسالة متضمنة العبارة:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قرأت عمودك في رسالة الجامعة هذا الصباح، وبغض النظر عن رؤيتك لما تحدثت عنه، أعتقد بأني رأيت أمر آخر جدير بالانتباه. إنك يا دكتور تنتقد غفلة عضو هيئة تدريس عن معمل على بعد أمتار قليلة من مكتبه، لكن الواضح أنك تغفل بأن أهم عنصر في الجامعة هو الطالب. يمكن رؤية أنك تحمل هم أعضاء هيئة التدريس أكثر من الطلاب والموظفين، وذلك عند قولك: (فمن يرى أن عضو هيئة التدريس أو "حتى" الموظف والطالب إذا لم نتح... إلى آخره). إن ما يجذب انتباهي دائماً هو غفلة أعضاء هيئة التدريس، السعوديين على وجه الخصوص، عن رؤية الأولويات الحقيقية التي تهم الناس. وقد تكون عبّرت على هذا النحو دون قصد، أو بإلهام مما يشغل بالك من الرسائل غير الدقيقة التي تصل من أعضاء هيئة التدريس، أو أنها فكرة متأصلة في وعيك. لكن هذه مجرد خواطر مرقت في خاطري، وأحببت إطلاعك عليها، فأرجو أن لا تجد فيها ما ينغص.
أشكرك على سعة صدرك مقدماً.
سعد الحوشان"
انتهت.
لم أتوقع منه رداً، كما أني أشك بأنه يطالع البريد على أي حال، لكن ربما تعلم شيئاً جديداً، وصار أكثر وعياً، مع أني أشك في ذلك أيضاً.
سعد الحوشان