بسم الله الرحمن الرحيم
الملل، الملل من الأشياء التي لا يعطيها الناس حجمها. إنه دافع قوي للكثير من الحماقات.
لدي الكثير منه في حياتي، لكني لم أعد أرتكب الحماقات، لأني مللت الحماقات أيضاً.
اليوم أول يوم عمل في رمضان، ورغم أن وقت الدوام أقصر من السابق، إلا أنه يبدو أطول من الأيام العادية بدهور. لم يكن لدي شيء أقوم به اليوم تقريباً، العمل قليل اليوم على نحو غير مفهوم. وربما فاقم هذا من شعوري بالوقت.
ما العمل في الدعوات التي لا يرغب المرء في حضورها؟ تحرجني الدعوات إلى الإفطار التي أتلقاها من بعض الناس. تختلف أسباب نفوري من الدعوة. إما أن يكون الأمر أني لا أعرف الرجل إلى ذلك الحد، أو لا أرتاح إليه، أو لا أريد تطوير العلاقة أكثر. مع ذلك، أجد إصراراً من البعض، وعدم تفهم لإعتذاري.
والأسوأ من الدعوات، هي الهدايا. أحياناً تكون الهدية أكبر من العلاقة، وأحياناً لا تريد فقط أخذ هدايا من بعض الأشخاص. أحرجني أحدهم قبل أيام بتحدثه عن هدية أحضرها لي من بلده. عبارة عن ساعة. تضايقت حينما علمت، فأنا أرغب بتحجيم العلاقة بقدر الإمكان، لأني لاحظت أن الرجل يستنزفني كثيراً، وإن يكن بحسن نية، ولا يريد أن يقدم المثل، رغم أني لا أريد بصراحة المثل، لكني قررت اختباره قبل أن أقرر تحجيم العلاقة، وعلى أساس اختباري له قررت أن الأمور يجب أن لا تتقدم، إنما تتراجع.
قد يتخيل البعض أن الهدية هي شكل من التقدير والعطاء أيضاً، وأنا أقدر هذا كثيراً، لكني يمكنني شراء الساعات لنفسي، ولكن لا يمكنني شراء الشعور بالارتياح والعطاء المعنوي. أزعجني تحدثه عن هدية بعدما قررت مباشرة. وأزعجني أكثر أسلوبه بالطرح، رغم حسن النوايا بلا شك. حينما بان علي عدم السعادة بذكره للهدية ارتبك. إذ أخبرته وبالغت بأنه ما كان عليه أن يتعب نفسه. لكني لما رأيت ارتباكه كفيت مباشرة، وقررت أن أرفض حينما يأتي بها.
هو يقدم هذه الأشياء المادية، والدعوات التي لا ألبيها، كتوكيد وائتمان على صداقتي وإدخالي بلا داع في أمور حياته باستمرار.
حينما جاء بالهدية، وهي ساعة كما ذكرت، لكنها بلا غلاف إذ لبسها بضع ساعات وأضاع غلافها، أخبرته بأن يعذرني عن أخذها، فأنا لن أشعر بالارتياح لو أخذتها. حاول أن يعرف لماذا، وأطال الموضوع كثيراً، كثيراً. لكني أصريت على موقفي، ولم آخذ الساعة، ولم أرها حتى.
هو سليم النية، وطيب، لكنه يحتاج إلى مجهود كبير حقاً، وقد يطلب أي شيء في أي وقت. ولا أتصور بأنه سيعطي بنفس الطريقة. كما أني صرت أشعر بالإرهاق منه كثيراً. وهذا ظلم له أيضاً، أني أتكلم معه كصديق في حين أني وصلت إلى مرحلة أني لا أريد أن أراه.
ربما كانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي مجيئة إلى الجامعة قبل فترة، بطريقة غريبة، ليريني أنه جرح رأسه، حتى أخبره أن يذهب إلى المستشفى. أعتقد بأن لديه مشكلة مؤسفة، ربما يحتاج إلى الكثير من التعاطف.
في البداية حينما اتصل وأخبرني أنه ضرب رأسه بالجدار بالخطأ، ولكنه لا يدري عن حجم الجرح، إذ أنه لا يستطيع أن يرى نفسه بالمرآة. قال هذا ضاحكاً، أنه لا يستطيع أن يرى نفسه، رغم صوته المتعب، ولكني علمت أنه يكذب حينما ضحك، كان يغطي على حقيقة أخرى. أقول في البداية، ظننت أنه ضرب رأسه في الجامعة، ربما وقع على زاوية جدار أو شيء، ربما كان قريباً من قسمي أو قادم إليه بنفس الوقت. لكن حينما رأيته، ورأيت الجرح البليغ على جبهته، وهو ينز، أخبرني، بل صدمني، أنه بالواقع ضرب رأسه بالخطأ في المنزل، لكنه جاء إلى هنا رأساً، ظاناً أنه ليس بذلك الجرح، وأنه يمكنه إيقاف النزف بالمنديل، ومتابعة شئونه هنا. كانت هذه كذبة، ولا أعتقد أنه توقع مني التصديق، لكن طالما تعود على إيجابيتي تجاهه، فلماذا يقلق؟. أخبرته مباشرة بأن يذهب إلى المستشفى، وبدى عليه الارتياح لاهتمامي. لكنه توقف، ونظر إلي، فهمت أنه يريدني أن آتي معه إلى المستشفى، كما فعلت في مرات من قبل. إلا أني لم أذهب. لم يكن النزيف شديداً، كان الدم ينز بخفة، وإذا ما مسحه بالمنديل مر بعض الوقت حتى يتجمع قليلاً. فقط أوصيته أن يذهب مباشرة، ويخبرني لاحقاً بما يجري. كان هذا كافياً إلى حد ما بالنسبة إليه. رأيته يأتي إلى مكتبي، إذ التقيته في البداية في قسم آخر بعدما اتصل، ولكنه خرج، لمحته وهو يخرج.
أخبرني لاحقاً أن الجرح استدعى الخياطة.
إني بطبيعة الحال لا أحقد عليه، بل إني أقدره، وأقدر بعض مزاياه، لكن لم يعد بمستطاعي تبديد جهودي ووقتي في أشياء غريبة، وغير طبيعية، ولا داعي لها. أعلم بأني سأواجه صعوبة، لكن قد يتغير الأمر لاحقاً. إني بصدق صرت أقلق من مكالماته التي تزداد مع الوقت، ومن نظراته التي تزداد غرابة.
حاولت أن أتجاهل مكالماته بقدر الإمكان، لكن لم يستغرق الأمر أكثر من يومين حتى أرسل رسالة طويلة في الجوال، يسألني إن كنت غاضباً من شيء، ويطلب السماح ويتحدث عن تقديره لي، وعدم رغبته بخسارتي. اعتذر كثيراً وهو لا يدري ما هو خطأه. كان يجب أن أتصل، وأخبره بأني لست غاضباً، إنما مشغولاً. لم أكذب، فأنا كنت مشغولاً أكثر من المعتاد، ولست بغاضب عليه فعلاً. قال بأنه لا يريد خسارتي، وأني مهم لديه، وأنه من الضروري أن نتحدث عند وجود ملاحظات. ربما سيغير من أسلوبه، ربما سيعيد النظر، لكني بأي حال سأستمر بالتقليص المنهجي للعلاقة.
يوجد نوعية أخرى من البشر، مثيرة للشفقة، ولكنها غير مريضة، إنما لديها سوء فهم مثير للشفقة. إنهم يحبون إشغال الناس بأنفسهم، وتجميع تعاطف أكبر عدد من الناس. هؤلاء يشعرونني بالشفقة، والغضب. أخبرني أحدهم، وهو يبتسم بنوع من الازدراء المبرر، أنه لا يستطيع أن يفعل شيء معين، لأن فلان، وهو دكتور سعودي، والده مريض، وهو يحب أن يحيط نفسه بالناس بقدر الإمكان في هذه الظروف. أخبرني بهذا حينما اتصل عليه دكتور أجنبي آخر ينسق معه بخصوص هذا الدكتور السعودي المتطلب. مع العلم أنهم لا يعرفونه منذ وقت طويل.
هذه المرة، لن يكون هناك إجازة. سآتي للعمل في الإجازة إن شاء الله، وأحصل على مكافئة. فكرت بأن هذا سيكون أمراً جيداً، إذ أني مقبل على دراسة إن شاء الله، لو سارت المقابلة على ما يرام. بالإضافة إلى أني لا أستمتع بالعيد فعلاً.
أجليت سكانة ذكرك من قلبي...
وسط أنينهم وأنيني...
إذ لم يعد هناك رجاء في حنيني...
وما عاد هناك جهد في سنيني...
جائت دعوة، ولم أتمكن من رفضها، رغم تخطيطي لذلك. هي من دكتور بريطاني، من أصل لبناني. ورغم معرفته باللغة العربية، إلا أنه يرفض أن يتحدث بها، متحججاً بأنه لا يفهم اللهجة هنا. أعتقد أن لديه سبب آخر، بعيد تمام البعد عن حجته هذه. لكني لا أتعب نفسي كثيراً في أمر خياراته. صحيح أني أزدري العرب الذين يتحدثون بلغة أخرى رغم أنهم يحادثون عرب آخرين، وأعتقد أن المجتمع السعودي بشكل عام له نفس النظرة، إلا أني لم أخبره، فسيضعني هذا في موقف محرج غير ضروري، نظراً إلى سطحية العلاقة.
هو ودود، ومتواضع إلى حد بعيد. للأسف أنه واجه الكثير من المتاعب في الجامعة مؤخراً، بسبب غباء الإجراءات، وضعف الضمير المهني لدى الكثير من الموظفين.
تعبت مؤخراً كثيراً من التغيب لفترات طويلة عن قسمي وتعطيل أعمالي لمتابعة مشاكله، لكن كان هذا أمر لا بد منه، لأنه لم يكن ليستطيع القيام بشيء وحده، فالموظفين غير متعاونين، خصوصاً في قسم الشئون المالية سيء الذكر، باستثناء موظف واحد هناك هداه الله لنا.
كنا نتكلم في أوقات انتظارنا عن شتى الأمور. أعتقد بأني كسبت ارتياحه سريعاً. فقد أراد تطوير العلاقة، وجعلها أقرب إلى الصداقة. لكن هذا شعور متغير. أخبرني كثيراً بأنه سيدعوني إلى لبنان، حيث دعى صديق له، دكتور سعودي، وأعجب كثيراً بقريته. ومرات يريد أن يدعوني إلى بريطانيا.
لكن بالنهاية، دعاني إلى الإفطار هنا، في مطعم لبناني، أو مقهى ومطعم بنفس الوقت.
كنت قد صدمته حينما كنا نتكلم ذات مرة، إذ سألني وهو واثق، إن كنت أحب الطعام اللبناني؟ فقلت لا. بدا على وجهه الذهول وعدم التصديق. وهذا شأن الكثير من الشعوب تجاه أمور معينة لديهم. فالسوري سيستغرب إذا قلت بأنك لا تريد أن تتزوج سورية، واللبناني سيستغرب إذا قلت بأنك لا تحب طعامهم أو أنك لا تعتقد أنهم أجمل شعب بالعالم، والمصري سيستغرب، إن لم يغضب ويرتكب جناية، إذا قلت بأنك لا "تحلم" بزيارة مصر. أخبرته بوجهة نظري، أنكم اللبنانيين والسوريين لا تعرفون كيف تطبخون، أنتم تشوون وتصنعون السلطات والأكلات البسيطة. أخبرته أنه إذا ما أراد أن يطلع على فن الطبخ هنا، فيجب أن ينظر في أطباقنا أو الأطباق المصرية. حاول أن يدافع، وقال بأني ربما لم أجرب الأكلات الأكثر تعقيداً، مثل الكبة. لم يبدو علي الاقتناع.
المهم أنه دعاني إلى مطعم على أي حال. وفي حين أني قدرت الدعوة، إلا أني نويت أن أعتذر بوجود ضيوف قبل الدعوة بيوم، إلا أن الظروف لم تأتي كما أردت. فاتصاله الموعود لتأكيد الدعوة جاء متأخراً في الليل بينما كنت نائماً، ثم أرسل رسالة، ولم أرها إلا في اليوم التالي. لم أرد الاتصال باكراً، لخوفي بأن يكون نائما. فلم يعد أمامي سوا إجابة الدعوة.
لم يكن الأمر سيئاً على أي حال. لكن حصل ما كنت أخشاه، لم أتمكن من أكل ما يكفي ليشعر بالرضا. رغم أنه لم يقل شيئاً باستثناء حثّي على أخذ المزيد، إلا أني أمكنني أن ألاحظ بأنه واع للأمر، وكان البوفيه ليس رخيصاً بالواقع، وأعطاني فكرة عن كرم الرجل. أنا لا أستطيع أن آكل كثيراً وقت الافطار. فأساساً نحن لا نضع في الإفطار غير التمر، واللقيمات، والعصيرات والقهوة والماء. لسنا كبقية العرب نضع كل شيء في نفس الوقت، فالعشاء لدينا يأتي في وقت لاحق. بالإضافة، أهم شيء بالنسبة لي على الإفطار هو الماء، هذا إفطاري الحقيقي.
تمنيت أني أكلت أكثر، لكن لم تكن الأشياء، كرم الله النعمة، من الأشياء التي فعلاً أفضل، لو كان بإمكاني التحامل على نفسي. كان طعام لبناني، لم يكن هناك شيء أحبه فعلاً غير الحمص. حتى الحلويات العربية إجمالا أجدها سيئة، باستثناء الكنافة بالجبن حينما تكون متقنة.
كان قد سألني كثيراً من قبل، من باب المزاح كما كان يبدو لي، متى سأتزوج؟. وسألني من قبل، مازحاً، إذا ما كانت صديقتي قد اشترت لي ساعتي؟. أخبرته بأني أشتري أشيائي بنفسي، ولا صديقة لي. كان يريد أن يرى أي رجل أكون.
هذه المرة، اقترح وألح، أن أتزوج، وأنه يعرف فتاة لبنانية لأتزوجها. أخبرته بأني لا أفكر بالزواج حالياً. لكنه ظل مصراً، وحاول أن يقنعني بمزايا المرأة اللبنانية، وأنها برأيه أفضل نساء العرب. وظل يروح ويجيء على موضوع تزويجي لبنانيه. لاحقاً، أخبرني بأنه سيأخذني إلى طرابلس، حينما سألت عن بعدها عن قريته، لأرى عمته وبناتها. هل العروسة من بنات العمة؟.
استغربت من إصراره، وما استغربته أكثر هو إصراره على تزويجي لبنانية. لم يلمح إلى معرفته بها سوا لمرة واحدة.
كنت أوصله إلى منزله حينما أتى على الموضوع للمرة الأخيرة. فأخبرته بأني حالياً أخطط لإكمال تعليمي، ولن أملك المال الكافي للزواج لأني سأمول نفسي إن شاء الله.
حينما اقترح فتاة لبنانية، خطر في بالي الإغراء الوحيد في الأمر، أن تكون تحسن فعلاً صنع الحمص.
اليوم هو الثالث بعد الدعوة. جاء الرجل إلى مكتبنا، حيث أنه كان قد طلب تأشيرة لإحضار عائلته. كانت جاهزة. لكنه صدمني قائلاً بأن بعض الأوراق التي قدمها أصلية، ويحتاج إلى إعادتها. كان في تلك المرة قد أكد لنا أن الأوراق غير أصلية. هذا أمر ضروري، حيث أن الوزارة المعنية تشدد على عدم إرسال الأصول حينما لا تطلبها، لأن الأوراق لمثل هذه الطلبات لا تعاد. لماذا كذب علينا؟ سألته لماذا لم يخبرني أنها أصلية؟ فقد سألناه بوضوح، لم يجد غير الضحك إجابة. كان بإمكاني تصوير الأوراق بسهولة. يا الله، لا أدري إن كانت الأوراق ستعود، أم أنها أتلفت حتى...
نحن المسلمين، يا لنا من قوم كذوبين. المشكلة أن أكاذيبنا غير ضرورية وغير مبررة غالباً. نريد أن نختصر الطريق أحياناً، أو لمتعة الكذب، إن كان له متعة، وليس تعذيب للضمائر الحية.
لاحظت أننا فعلاً ميالون للكذب. وإن كنت أعتقد أن أهل الجزيرة العربية هم الأقل ميلاً للكذب، خصوصاً حينما لا يكون الأمر ضرورياً.
دكتور من المغرب العربي، حاول خداعنا بخصوص مدة خدمته، إذ كان لتوه جاء، وعقده قيد التجهيز. جيء به إلي. وقرأت شهادة الخبرة. أتصور أنه فكر قبل أن يجيء: "لن يعرفون قراءة شهادات الخبرة، هؤلاء الجهلاء، وسيعتمدون على ما أقول". أهل المغرب العربي عموماً يعتقدون أكثر من غيرهم بأننا أهل جهل وانعدام حضارة، في حين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أعلى منزلة حسبما سمعت. وجدت شهادة الخبرة مناقضة بوضوح لما يقول. المشكلة، غافلاً عن كوني مترجم متخصص، حاول التشكيك بفهمي للأمر بكل وقاحة. كنت أعلم بأنه يحاول خداعنا بقدر ما يستطيع، بتمثيل أنه واثق بما يقول، وأننا لا ندري وأننا نضيع وقته. قلت للموظف الذي جاء به إلي بأن هذه رؤيتي للأمر، وليس لدي غيرها، إن كان غير واثق، فيوجد مترجم آخر في القسم القريب يمكنه استشارته. رفض زميلي الموظف الفكرة، بينما ضعف موقف المغربي، وبدا عليه الهدوء فجأة، يبدو أن وجود مترجمين اثنين أخافه من الوقوع في إحراج أكبر على ما يبدو، فتنازل بلا مبرر واضح عن حجته، ووافق على رؤيتي للأمر. مع العلم أن الناس بالعادة قبل توقيع عقودهم، إن كان لهم وجهة نظر مغايرة عن وجهة نظر الجامعة، فإنهم يعاندون كثيراً قبل التوقيع، ولا يكفون عن محاولة شرح موقفهم، وحتى الصعود إلى مدير الجامعة، لأجل زيادة المزايا والراتب. لكن هو، كان فقط يخدع بلا حياء.
إجمالاً، أنا لا أجوع كثيراً وقت الصيام، حتى لو لم آكل الكثير في المساء. إن خطر العطش أكبر في الصيام بالنسبة إلي، نظراً لكوني تعودت منذ الصغر شرب كميات من المياه يتعبرها البعض مهولة. بيد أني حتى قبل رمضان بدأت تقل كمية المياه التي أشربها. ففي العمل، صارت الشركة الجديدة لا تبيع غير مياه صفا، التي لسوئها تسبب لي المغص في كل مرة أشربها.
يشكل الماء، حتى حينما أكون مرتوياً، هاجساً بالنسبة إلي، أو هوس. ليس الأمر أني أود أن أشرب باستمرار، رغم أن هذا واقع إلى حد بعيد، لكنه يتعداه بتسرب الماء إلى أفكاري وتخلله إياها، وخيالاتي، ورؤاي.
بقدر ما أحب هذه الأرض، بقدر ما يفزعني ويؤرقني افتقارها للماء. أشعر أحيانا أني أجنبي لهذا السبب، أني ربما وقعت بالخطأ، في المكان الخطأ، والزمان الخطأ. أني ربما كان يفترض بي أن أعيش إلى جوار جدول أو شلال صغير، أو ينبوع في جبل.
لا يمكنني أن أتوقف عند دكان هنا دون أن أجد الماء، فهو وفير، بغض النظر عن جودته. لكن يمكنني تخيل هشاشة هذه الحقيقة.
العراق، بلاد الرافدين، يستورد الماء الصالح للشرب بالقوارير من عندنا، ومن عند الأردن والكويت، ثلاثة بلدان بلا أنهار أو بحيرات حلوة.
لأي سبب، حرب أو غيرها، كارثة بيئية أو تقنية، ماذا سيفعل الناس لو انقطع الماء؟ هذه الملايين التي لم يكن للأرض عهد بها، ولا حتى بنصفها.
أتساءل أحياناً ماذا يضر بعض الناس إذا تعاملوا بلين، أو على الأقل بمهنية، مع الآخرين. كنت اليوم في المستشفى، الملك خالد الجامعي. حاولت محادثة طبيب، سعودي على ما أعتقد، ورفض التعاون، كان يمضي ويتركني فقط، ولا يجيب. كان ما أريده هو أن ينظر بوصفة دواء لدي، حولتني الصيدلية إلى عيادته لتصحح. دكتور آخر صححها لي بلا مجهود. وهذا استثناء، فأكثر الدكاترة سيئون هنا، السعوديين والعرب على وجه الخصوص. وقد يفاجئ المرء أنهم قرروا بالنيابة عنه أمر مصيري، دون أن يخبروه، وكأنهم أوصياء عليه. ففكرتهم هي أن الناس هنا قصر، وأغبياء، خصوصاً حينما لا يتحدثون اللغة الانقليزية مثلهم. وهذه عقدة نقص في الحقيقة، وامتساخ.
مثلهم الممرضات، ومجملهن أجنبيات. أمس كانت الممرضة ترفض أن تستمع إلي. إنهن يحتقرن الناس هنا، يعتقدن بأنهم غير متعلمين ولا يستحقون الانتباه، فالتعليم في عقولهن مرتبط بتحدث اللغة الانقليزية. حينما تتحدث اللغة، قد تحضى ببعض الانتباه. ادعت في النهاية أنها تستمع إلي، لكني أعطلها عن عملها، ولكن، أليس عملها هو خدمة الناس هنا؟. في حين أن كل ما كنت اريده هو ترك خبر كما فعلت من قبل بأني سأدخل على الطبيب قبل والدي، لكنها لم تكن تريد أن تستمع. أخبرتني بعد عدة محاولات بأنها ليست الممرضة الوحيدة العاملة مع الدكتور في النهاية، ولا تدري إن كان ملف والدي تحت مسئوليتها. قلت: كان يمكنك إخباري بهذه المعلومة الصغيرة منذ البداية. قالت بأنها أخبرتني، قلت بأنها لم تفعل. لا يختلف الأمر، فأنا أثق أن المسئول عنها وعن زميلاتها خسيس مثلهن.
لا أعتقد أني وفقت لمراجعة المستشفى مع أهلي دون منغص، وسوء معاملة، وقلة إحترام لإنسانيتنا. فقد والدي ذات مرة وعيه، ونحن أمام المستشفى، بينما وقفن ممرضات ينظرن إلينا، رافضات القدوم للمساعدة، رغم صياحي في ذلك الصباح الخالي من الناس طلباً للمساعدة منهن ومن أي أحد، ورغم محاولتي وعجزي عن حمل والدي.
كما أن الأدوية الغالية الثمن، التي فعلاً لا يستطيع الناس شراءها، هي ما لا يتوفر، في حين يقال بأنها توفر فقط لمن لديه واسطة أو معرفة، كما قال طبيب لأختي؛ هي توفر للفي آي بي. وهؤلاء الفي آي بي، هم الدكاترة الآخرين، والشخصيات الغنية، وهم يستطيعون شراء هذه الأدوية بسهولة.
لا يتخيل الناس البعيدين عن الأمر، لكن بعض الأدوية مكلف إلى درجة مخيفة.
هؤلاء الناس العاملين في المستشفيات الحكومية، كلهم، حتى المدراء، يفتقرون إلى إدراك حاجة الناس، ورغم أنهم في مستشفى، إلا أنهم على ما يبدو لا يدركون أن من يأتي إليهم هم المرضى، ومرافقيهم، الذين يعانون أكثر من العاملين بالمستشفى، مهما كان ضغط العمل لديهم. إنهم يفتقرون إلى الإحساس، والأدب، والإحترام، والإنسانية. وهذه سخرية، أن تفتقر للإنسانية وأنت تعمل حيث يُعالج الإنسان ويعتنى به من جراحه وآلامه.
أتمنى أن ينتقم منهم الله. لكن، منذ متى وامنياتي تتحقق.
على الأقل، أتمنى أن ينتقم الله من وزير الصحة، أن يجعله يعاني مما يعاني منه الناس، أن يبحث عن الدواء ولا يجده، أن يبحث عن الإحترام ولا يجده.
ومثله، مدير الجامعة، فالمستشفى الذي قضيت سنوات أراجعه مع أهلي، هو جامعي بالنهاية.
ماذا بوسع المرء أن يقول حينما يعاني من ظروف، لتوه شعر بها، أو توصل إلى الشعور الكامل بها، في حين أنها ظلت تتكون وتتراكم وتسوء منذ سنين، أمام عينيه.
يشعر المرء وكأنما كان يسير في إتجاه كمين محبوك منذ أن ولد، بيد أن الطريق إلى الكمين لم يكن ذا منظر خادع، لم يكن جميلا ومستدرجا للغفلة كما هي عادة الكمائن. كان يبدو وكأن الحياة كانت بالأساس كمينا، فإذا بها محشوة في جوفها البعيد بكمين أسوأ نية، حيث وصلت أخيراً.
الوحدة، والارتباط، أمرين يبدوان كضدين، لكن اجتماع الضدين هو ما يجعل الأمور فريدة من نوعها. يجعل السعادة فريدة، والحزن فريداً.
أنشر الآن أسرع مما اعتدت خلال الشهور الفائتة، لأني لا أتوقع قدوم أحداث مميزة في هذه الفترة، أو تغير شيء. ما ذكرته هنا حتى غير مثير للاهتمام، والمزيد منه سيجعل الأمر بالغ السوء.
سعد الحوشان
الملل، الملل من الأشياء التي لا يعطيها الناس حجمها. إنه دافع قوي للكثير من الحماقات.
لدي الكثير منه في حياتي، لكني لم أعد أرتكب الحماقات، لأني مللت الحماقات أيضاً.
اليوم أول يوم عمل في رمضان، ورغم أن وقت الدوام أقصر من السابق، إلا أنه يبدو أطول من الأيام العادية بدهور. لم يكن لدي شيء أقوم به اليوم تقريباً، العمل قليل اليوم على نحو غير مفهوم. وربما فاقم هذا من شعوري بالوقت.
ما العمل في الدعوات التي لا يرغب المرء في حضورها؟ تحرجني الدعوات إلى الإفطار التي أتلقاها من بعض الناس. تختلف أسباب نفوري من الدعوة. إما أن يكون الأمر أني لا أعرف الرجل إلى ذلك الحد، أو لا أرتاح إليه، أو لا أريد تطوير العلاقة أكثر. مع ذلك، أجد إصراراً من البعض، وعدم تفهم لإعتذاري.
والأسوأ من الدعوات، هي الهدايا. أحياناً تكون الهدية أكبر من العلاقة، وأحياناً لا تريد فقط أخذ هدايا من بعض الأشخاص. أحرجني أحدهم قبل أيام بتحدثه عن هدية أحضرها لي من بلده. عبارة عن ساعة. تضايقت حينما علمت، فأنا أرغب بتحجيم العلاقة بقدر الإمكان، لأني لاحظت أن الرجل يستنزفني كثيراً، وإن يكن بحسن نية، ولا يريد أن يقدم المثل، رغم أني لا أريد بصراحة المثل، لكني قررت اختباره قبل أن أقرر تحجيم العلاقة، وعلى أساس اختباري له قررت أن الأمور يجب أن لا تتقدم، إنما تتراجع.
قد يتخيل البعض أن الهدية هي شكل من التقدير والعطاء أيضاً، وأنا أقدر هذا كثيراً، لكني يمكنني شراء الساعات لنفسي، ولكن لا يمكنني شراء الشعور بالارتياح والعطاء المعنوي. أزعجني تحدثه عن هدية بعدما قررت مباشرة. وأزعجني أكثر أسلوبه بالطرح، رغم حسن النوايا بلا شك. حينما بان علي عدم السعادة بذكره للهدية ارتبك. إذ أخبرته وبالغت بأنه ما كان عليه أن يتعب نفسه. لكني لما رأيت ارتباكه كفيت مباشرة، وقررت أن أرفض حينما يأتي بها.
هو يقدم هذه الأشياء المادية، والدعوات التي لا ألبيها، كتوكيد وائتمان على صداقتي وإدخالي بلا داع في أمور حياته باستمرار.
حينما جاء بالهدية، وهي ساعة كما ذكرت، لكنها بلا غلاف إذ لبسها بضع ساعات وأضاع غلافها، أخبرته بأن يعذرني عن أخذها، فأنا لن أشعر بالارتياح لو أخذتها. حاول أن يعرف لماذا، وأطال الموضوع كثيراً، كثيراً. لكني أصريت على موقفي، ولم آخذ الساعة، ولم أرها حتى.
هو سليم النية، وطيب، لكنه يحتاج إلى مجهود كبير حقاً، وقد يطلب أي شيء في أي وقت. ولا أتصور بأنه سيعطي بنفس الطريقة. كما أني صرت أشعر بالإرهاق منه كثيراً. وهذا ظلم له أيضاً، أني أتكلم معه كصديق في حين أني وصلت إلى مرحلة أني لا أريد أن أراه.
ربما كانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي مجيئة إلى الجامعة قبل فترة، بطريقة غريبة، ليريني أنه جرح رأسه، حتى أخبره أن يذهب إلى المستشفى. أعتقد بأن لديه مشكلة مؤسفة، ربما يحتاج إلى الكثير من التعاطف.
في البداية حينما اتصل وأخبرني أنه ضرب رأسه بالجدار بالخطأ، ولكنه لا يدري عن حجم الجرح، إذ أنه لا يستطيع أن يرى نفسه بالمرآة. قال هذا ضاحكاً، أنه لا يستطيع أن يرى نفسه، رغم صوته المتعب، ولكني علمت أنه يكذب حينما ضحك، كان يغطي على حقيقة أخرى. أقول في البداية، ظننت أنه ضرب رأسه في الجامعة، ربما وقع على زاوية جدار أو شيء، ربما كان قريباً من قسمي أو قادم إليه بنفس الوقت. لكن حينما رأيته، ورأيت الجرح البليغ على جبهته، وهو ينز، أخبرني، بل صدمني، أنه بالواقع ضرب رأسه بالخطأ في المنزل، لكنه جاء إلى هنا رأساً، ظاناً أنه ليس بذلك الجرح، وأنه يمكنه إيقاف النزف بالمنديل، ومتابعة شئونه هنا. كانت هذه كذبة، ولا أعتقد أنه توقع مني التصديق، لكن طالما تعود على إيجابيتي تجاهه، فلماذا يقلق؟. أخبرته مباشرة بأن يذهب إلى المستشفى، وبدى عليه الارتياح لاهتمامي. لكنه توقف، ونظر إلي، فهمت أنه يريدني أن آتي معه إلى المستشفى، كما فعلت في مرات من قبل. إلا أني لم أذهب. لم يكن النزيف شديداً، كان الدم ينز بخفة، وإذا ما مسحه بالمنديل مر بعض الوقت حتى يتجمع قليلاً. فقط أوصيته أن يذهب مباشرة، ويخبرني لاحقاً بما يجري. كان هذا كافياً إلى حد ما بالنسبة إليه. رأيته يأتي إلى مكتبي، إذ التقيته في البداية في قسم آخر بعدما اتصل، ولكنه خرج، لمحته وهو يخرج.
أخبرني لاحقاً أن الجرح استدعى الخياطة.
إني بطبيعة الحال لا أحقد عليه، بل إني أقدره، وأقدر بعض مزاياه، لكن لم يعد بمستطاعي تبديد جهودي ووقتي في أشياء غريبة، وغير طبيعية، ولا داعي لها. أعلم بأني سأواجه صعوبة، لكن قد يتغير الأمر لاحقاً. إني بصدق صرت أقلق من مكالماته التي تزداد مع الوقت، ومن نظراته التي تزداد غرابة.
حاولت أن أتجاهل مكالماته بقدر الإمكان، لكن لم يستغرق الأمر أكثر من يومين حتى أرسل رسالة طويلة في الجوال، يسألني إن كنت غاضباً من شيء، ويطلب السماح ويتحدث عن تقديره لي، وعدم رغبته بخسارتي. اعتذر كثيراً وهو لا يدري ما هو خطأه. كان يجب أن أتصل، وأخبره بأني لست غاضباً، إنما مشغولاً. لم أكذب، فأنا كنت مشغولاً أكثر من المعتاد، ولست بغاضب عليه فعلاً. قال بأنه لا يريد خسارتي، وأني مهم لديه، وأنه من الضروري أن نتحدث عند وجود ملاحظات. ربما سيغير من أسلوبه، ربما سيعيد النظر، لكني بأي حال سأستمر بالتقليص المنهجي للعلاقة.
يوجد نوعية أخرى من البشر، مثيرة للشفقة، ولكنها غير مريضة، إنما لديها سوء فهم مثير للشفقة. إنهم يحبون إشغال الناس بأنفسهم، وتجميع تعاطف أكبر عدد من الناس. هؤلاء يشعرونني بالشفقة، والغضب. أخبرني أحدهم، وهو يبتسم بنوع من الازدراء المبرر، أنه لا يستطيع أن يفعل شيء معين، لأن فلان، وهو دكتور سعودي، والده مريض، وهو يحب أن يحيط نفسه بالناس بقدر الإمكان في هذه الظروف. أخبرني بهذا حينما اتصل عليه دكتور أجنبي آخر ينسق معه بخصوص هذا الدكتور السعودي المتطلب. مع العلم أنهم لا يعرفونه منذ وقت طويل.
هذه المرة، لن يكون هناك إجازة. سآتي للعمل في الإجازة إن شاء الله، وأحصل على مكافئة. فكرت بأن هذا سيكون أمراً جيداً، إذ أني مقبل على دراسة إن شاء الله، لو سارت المقابلة على ما يرام. بالإضافة إلى أني لا أستمتع بالعيد فعلاً.
أجليت سكانة ذكرك من قلبي...
وسط أنينهم وأنيني...
إذ لم يعد هناك رجاء في حنيني...
وما عاد هناك جهد في سنيني...
جائت دعوة، ولم أتمكن من رفضها، رغم تخطيطي لذلك. هي من دكتور بريطاني، من أصل لبناني. ورغم معرفته باللغة العربية، إلا أنه يرفض أن يتحدث بها، متحججاً بأنه لا يفهم اللهجة هنا. أعتقد أن لديه سبب آخر، بعيد تمام البعد عن حجته هذه. لكني لا أتعب نفسي كثيراً في أمر خياراته. صحيح أني أزدري العرب الذين يتحدثون بلغة أخرى رغم أنهم يحادثون عرب آخرين، وأعتقد أن المجتمع السعودي بشكل عام له نفس النظرة، إلا أني لم أخبره، فسيضعني هذا في موقف محرج غير ضروري، نظراً إلى سطحية العلاقة.
هو ودود، ومتواضع إلى حد بعيد. للأسف أنه واجه الكثير من المتاعب في الجامعة مؤخراً، بسبب غباء الإجراءات، وضعف الضمير المهني لدى الكثير من الموظفين.
تعبت مؤخراً كثيراً من التغيب لفترات طويلة عن قسمي وتعطيل أعمالي لمتابعة مشاكله، لكن كان هذا أمر لا بد منه، لأنه لم يكن ليستطيع القيام بشيء وحده، فالموظفين غير متعاونين، خصوصاً في قسم الشئون المالية سيء الذكر، باستثناء موظف واحد هناك هداه الله لنا.
كنا نتكلم في أوقات انتظارنا عن شتى الأمور. أعتقد بأني كسبت ارتياحه سريعاً. فقد أراد تطوير العلاقة، وجعلها أقرب إلى الصداقة. لكن هذا شعور متغير. أخبرني كثيراً بأنه سيدعوني إلى لبنان، حيث دعى صديق له، دكتور سعودي، وأعجب كثيراً بقريته. ومرات يريد أن يدعوني إلى بريطانيا.
لكن بالنهاية، دعاني إلى الإفطار هنا، في مطعم لبناني، أو مقهى ومطعم بنفس الوقت.
كنت قد صدمته حينما كنا نتكلم ذات مرة، إذ سألني وهو واثق، إن كنت أحب الطعام اللبناني؟ فقلت لا. بدا على وجهه الذهول وعدم التصديق. وهذا شأن الكثير من الشعوب تجاه أمور معينة لديهم. فالسوري سيستغرب إذا قلت بأنك لا تريد أن تتزوج سورية، واللبناني سيستغرب إذا قلت بأنك لا تحب طعامهم أو أنك لا تعتقد أنهم أجمل شعب بالعالم، والمصري سيستغرب، إن لم يغضب ويرتكب جناية، إذا قلت بأنك لا "تحلم" بزيارة مصر. أخبرته بوجهة نظري، أنكم اللبنانيين والسوريين لا تعرفون كيف تطبخون، أنتم تشوون وتصنعون السلطات والأكلات البسيطة. أخبرته أنه إذا ما أراد أن يطلع على فن الطبخ هنا، فيجب أن ينظر في أطباقنا أو الأطباق المصرية. حاول أن يدافع، وقال بأني ربما لم أجرب الأكلات الأكثر تعقيداً، مثل الكبة. لم يبدو علي الاقتناع.
المهم أنه دعاني إلى مطعم على أي حال. وفي حين أني قدرت الدعوة، إلا أني نويت أن أعتذر بوجود ضيوف قبل الدعوة بيوم، إلا أن الظروف لم تأتي كما أردت. فاتصاله الموعود لتأكيد الدعوة جاء متأخراً في الليل بينما كنت نائماً، ثم أرسل رسالة، ولم أرها إلا في اليوم التالي. لم أرد الاتصال باكراً، لخوفي بأن يكون نائما. فلم يعد أمامي سوا إجابة الدعوة.
لم يكن الأمر سيئاً على أي حال. لكن حصل ما كنت أخشاه، لم أتمكن من أكل ما يكفي ليشعر بالرضا. رغم أنه لم يقل شيئاً باستثناء حثّي على أخذ المزيد، إلا أني أمكنني أن ألاحظ بأنه واع للأمر، وكان البوفيه ليس رخيصاً بالواقع، وأعطاني فكرة عن كرم الرجل. أنا لا أستطيع أن آكل كثيراً وقت الافطار. فأساساً نحن لا نضع في الإفطار غير التمر، واللقيمات، والعصيرات والقهوة والماء. لسنا كبقية العرب نضع كل شيء في نفس الوقت، فالعشاء لدينا يأتي في وقت لاحق. بالإضافة، أهم شيء بالنسبة لي على الإفطار هو الماء، هذا إفطاري الحقيقي.
تمنيت أني أكلت أكثر، لكن لم تكن الأشياء، كرم الله النعمة، من الأشياء التي فعلاً أفضل، لو كان بإمكاني التحامل على نفسي. كان طعام لبناني، لم يكن هناك شيء أحبه فعلاً غير الحمص. حتى الحلويات العربية إجمالا أجدها سيئة، باستثناء الكنافة بالجبن حينما تكون متقنة.
كان قد سألني كثيراً من قبل، من باب المزاح كما كان يبدو لي، متى سأتزوج؟. وسألني من قبل، مازحاً، إذا ما كانت صديقتي قد اشترت لي ساعتي؟. أخبرته بأني أشتري أشيائي بنفسي، ولا صديقة لي. كان يريد أن يرى أي رجل أكون.
هذه المرة، اقترح وألح، أن أتزوج، وأنه يعرف فتاة لبنانية لأتزوجها. أخبرته بأني لا أفكر بالزواج حالياً. لكنه ظل مصراً، وحاول أن يقنعني بمزايا المرأة اللبنانية، وأنها برأيه أفضل نساء العرب. وظل يروح ويجيء على موضوع تزويجي لبنانيه. لاحقاً، أخبرني بأنه سيأخذني إلى طرابلس، حينما سألت عن بعدها عن قريته، لأرى عمته وبناتها. هل العروسة من بنات العمة؟.
استغربت من إصراره، وما استغربته أكثر هو إصراره على تزويجي لبنانية. لم يلمح إلى معرفته بها سوا لمرة واحدة.
كنت أوصله إلى منزله حينما أتى على الموضوع للمرة الأخيرة. فأخبرته بأني حالياً أخطط لإكمال تعليمي، ولن أملك المال الكافي للزواج لأني سأمول نفسي إن شاء الله.
حينما اقترح فتاة لبنانية، خطر في بالي الإغراء الوحيد في الأمر، أن تكون تحسن فعلاً صنع الحمص.
اليوم هو الثالث بعد الدعوة. جاء الرجل إلى مكتبنا، حيث أنه كان قد طلب تأشيرة لإحضار عائلته. كانت جاهزة. لكنه صدمني قائلاً بأن بعض الأوراق التي قدمها أصلية، ويحتاج إلى إعادتها. كان في تلك المرة قد أكد لنا أن الأوراق غير أصلية. هذا أمر ضروري، حيث أن الوزارة المعنية تشدد على عدم إرسال الأصول حينما لا تطلبها، لأن الأوراق لمثل هذه الطلبات لا تعاد. لماذا كذب علينا؟ سألته لماذا لم يخبرني أنها أصلية؟ فقد سألناه بوضوح، لم يجد غير الضحك إجابة. كان بإمكاني تصوير الأوراق بسهولة. يا الله، لا أدري إن كانت الأوراق ستعود، أم أنها أتلفت حتى...
قبل فترة، رأيت موظف أجنبي جديد في الجامعة، تعدى سلوكه الحد الذي يمكن تخيله من الوقاحة وسوء المنطق. هو شاب باكستاني طويل، وذو هيئة غريبة. يمكنك أن تخطئ وتظنه مصرياً من ملامح وجهه. استدعيت إلى القسم الذي يتعامل معه على وجه السرعة. حينما وصلت، وجدت نائب المدير هناك، وهو رجل شديد التهذيب، وواسع المعرفة بالنظام، وعدم الارتياح يبدو عليه. أول ما طلب مني قوله لهذا الرجل الباكستاني هو: أخبره أن أسلوبه الوقح غير مقبول هنا. علمت بأنه يرفع صوته على الموظفين، ويقذف اوراقه عليهم قذفاً لينفذوا معاملاته. ما كان من أحدهم إلا أن مزق أوراقه. أمر غير متوقع، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى وداعة وتعاون الموظف الذي مزق الأوراق بالوضع المعتاد. لكنه كان قد فقد أعصابه بسبب تعامل هذا الرجل. وأمكنني تقدير موقفه بعد دقائق من محادثة الباكستاني هذا.
يعترف أنه وقح. ولكنه يقول: إذا كنت أنا وقحاً، هل تكونون مثلي؟!. قلت، وقد استثارني منطقه جداً: أجل، حينما تكون وقحاً فلا تتوقع من الناس أحسن مما تلقيت!.
كان نائب المدير يفكر بالرفع بهذا الرجل للشكوى. لكنه قرر التريث. وقفنا لوقت طويل ندور حول نفس الموضوع، وهو يرفض أن يفهم، ويضيع الوقت، وهو وقت الصلاة. كان يشتكي ويقول بأنه وقف لوقت طويل ينتظر أمام نائب المدير أو موظف آخر، وأنه كان ينتبه إلى المراجعين السعوديين قبله. الغريب هو أنه كان هناك أجنبي واقف معنا، وأموره تسيرعلى ما يرام. أخبرته بأن الأمر لا يتعلق بكون الآخر سعودياً، ونبهته أن ينظر إلى الاجنبي بجانبه، وهو مصري، ويسأل بقية الأجانب، الذين لم يشتكوا من الأمر مثله. ربما لا يفهم أنه انتظر على الأغلب لأنهم احتاجوا إلى ترجمة. ولا أعتقد أساساً أنه انتظر طويلاً إلا إن كان قد ترك لينتظر قبلاً، حيث كنت قد جئت مسرعاً حال استدعائي. حاول إخافة نائب المدير، وكأنما لم يكن هو الوقح بالواقع، بأن يطلب منه كتابة الأنظمة بخط يده والتوقيع عليها!!. ما المخيف بالأمر لا أدري، حيث أن الأنظمة أصلاً مطبوعة في كتاب رسمي كان يمسكه نائب المدير، والباكستاني العبقري يعرف ذلك.
أعتقد بأنه غير سوي نفسياً. وأتخيل بأن مديره حتى ربما يواجه مشاكل معه، إذ رفض التعاون معه حسبما استشفينا، بينما كان يصور لنا أن أمورهم على ما يرام، ويحاول الكذب علينا حتى انتهى حبل كذبه فاضطر إلى الاعتراف.
مثل هؤلاء الناس أتمنى أن ينهى تعاقدهم، بدون تردد.
رجل آخر، باكستاني، كان قد حصل على رقمي، وظل يتصل على الطالعه والنازلة كما يقولون. وكأنما وظيفتي هي الرد عليه. لم يكن لديه إرادة لمساعدة نفسه والمتابعة. بالنهاية كفيت عن الرد عليه، أو على رسائله. حيث أنه أجهدني بكثرة شكاويه، واكتفائه بي لمتابعة شئونه، وعدم رضاه عن شيء.
جاء في بداية الإجازة، ورأيته ورآني، لاحظت بأنه يتتبعني بنظره بارتباك، وينتظر قدومي. لكني تجاهلته باستثناء ابتسامة واشارة برأسي، فلم يكن ما جاء لأجله جزء من عملي. إلا أنه استدعاني بالنهاية وجئت. سلمت، وكان المكان مزحوماً بالمراجعين. فوجئت به يعتذر عن إزعاجه لي بخجل، ويصر على أنه أخطأ بإزعاجي.
لم أتوقع هذا بصراحة.
نحن المسلمين، يا لنا من قوم كذوبين. المشكلة أن أكاذيبنا غير ضرورية وغير مبررة غالباً. نريد أن نختصر الطريق أحياناً، أو لمتعة الكذب، إن كان له متعة، وليس تعذيب للضمائر الحية.
لاحظت أننا فعلاً ميالون للكذب. وإن كنت أعتقد أن أهل الجزيرة العربية هم الأقل ميلاً للكذب، خصوصاً حينما لا يكون الأمر ضرورياً.
دكتور من المغرب العربي، حاول خداعنا بخصوص مدة خدمته، إذ كان لتوه جاء، وعقده قيد التجهيز. جيء به إلي. وقرأت شهادة الخبرة. أتصور أنه فكر قبل أن يجيء: "لن يعرفون قراءة شهادات الخبرة، هؤلاء الجهلاء، وسيعتمدون على ما أقول". أهل المغرب العربي عموماً يعتقدون أكثر من غيرهم بأننا أهل جهل وانعدام حضارة، في حين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أعلى منزلة حسبما سمعت. وجدت شهادة الخبرة مناقضة بوضوح لما يقول. المشكلة، غافلاً عن كوني مترجم متخصص، حاول التشكيك بفهمي للأمر بكل وقاحة. كنت أعلم بأنه يحاول خداعنا بقدر ما يستطيع، بتمثيل أنه واثق بما يقول، وأننا لا ندري وأننا نضيع وقته. قلت للموظف الذي جاء به إلي بأن هذه رؤيتي للأمر، وليس لدي غيرها، إن كان غير واثق، فيوجد مترجم آخر في القسم القريب يمكنه استشارته. رفض زميلي الموظف الفكرة، بينما ضعف موقف المغربي، وبدا عليه الهدوء فجأة، يبدو أن وجود مترجمين اثنين أخافه من الوقوع في إحراج أكبر على ما يبدو، فتنازل بلا مبرر واضح عن حجته، ووافق على رؤيتي للأمر. مع العلم أن الناس بالعادة قبل توقيع عقودهم، إن كان لهم وجهة نظر مغايرة عن وجهة نظر الجامعة، فإنهم يعاندون كثيراً قبل التوقيع، ولا يكفون عن محاولة شرح موقفهم، وحتى الصعود إلى مدير الجامعة، لأجل زيادة المزايا والراتب. لكن هو، كان فقط يخدع بلا حياء.
إجمالاً، أنا لا أجوع كثيراً وقت الصيام، حتى لو لم آكل الكثير في المساء. إن خطر العطش أكبر في الصيام بالنسبة إلي، نظراً لكوني تعودت منذ الصغر شرب كميات من المياه يتعبرها البعض مهولة. بيد أني حتى قبل رمضان بدأت تقل كمية المياه التي أشربها. ففي العمل، صارت الشركة الجديدة لا تبيع غير مياه صفا، التي لسوئها تسبب لي المغص في كل مرة أشربها.
يشكل الماء، حتى حينما أكون مرتوياً، هاجساً بالنسبة إلي، أو هوس. ليس الأمر أني أود أن أشرب باستمرار، رغم أن هذا واقع إلى حد بعيد، لكنه يتعداه بتسرب الماء إلى أفكاري وتخلله إياها، وخيالاتي، ورؤاي.
بقدر ما أحب هذه الأرض، بقدر ما يفزعني ويؤرقني افتقارها للماء. أشعر أحيانا أني أجنبي لهذا السبب، أني ربما وقعت بالخطأ، في المكان الخطأ، والزمان الخطأ. أني ربما كان يفترض بي أن أعيش إلى جوار جدول أو شلال صغير، أو ينبوع في جبل.
لا يمكنني أن أتوقف عند دكان هنا دون أن أجد الماء، فهو وفير، بغض النظر عن جودته. لكن يمكنني تخيل هشاشة هذه الحقيقة.
العراق، بلاد الرافدين، يستورد الماء الصالح للشرب بالقوارير من عندنا، ومن عند الأردن والكويت، ثلاثة بلدان بلا أنهار أو بحيرات حلوة.
لأي سبب، حرب أو غيرها، كارثة بيئية أو تقنية، ماذا سيفعل الناس لو انقطع الماء؟ هذه الملايين التي لم يكن للأرض عهد بها، ولا حتى بنصفها.
أتساءل أحياناً ماذا يضر بعض الناس إذا تعاملوا بلين، أو على الأقل بمهنية، مع الآخرين. كنت اليوم في المستشفى، الملك خالد الجامعي. حاولت محادثة طبيب، سعودي على ما أعتقد، ورفض التعاون، كان يمضي ويتركني فقط، ولا يجيب. كان ما أريده هو أن ينظر بوصفة دواء لدي، حولتني الصيدلية إلى عيادته لتصحح. دكتور آخر صححها لي بلا مجهود. وهذا استثناء، فأكثر الدكاترة سيئون هنا، السعوديين والعرب على وجه الخصوص. وقد يفاجئ المرء أنهم قرروا بالنيابة عنه أمر مصيري، دون أن يخبروه، وكأنهم أوصياء عليه. ففكرتهم هي أن الناس هنا قصر، وأغبياء، خصوصاً حينما لا يتحدثون اللغة الانقليزية مثلهم. وهذه عقدة نقص في الحقيقة، وامتساخ.
مثلهم الممرضات، ومجملهن أجنبيات. أمس كانت الممرضة ترفض أن تستمع إلي. إنهن يحتقرن الناس هنا، يعتقدن بأنهم غير متعلمين ولا يستحقون الانتباه، فالتعليم في عقولهن مرتبط بتحدث اللغة الانقليزية. حينما تتحدث اللغة، قد تحضى ببعض الانتباه. ادعت في النهاية أنها تستمع إلي، لكني أعطلها عن عملها، ولكن، أليس عملها هو خدمة الناس هنا؟. في حين أن كل ما كنت اريده هو ترك خبر كما فعلت من قبل بأني سأدخل على الطبيب قبل والدي، لكنها لم تكن تريد أن تستمع. أخبرتني بعد عدة محاولات بأنها ليست الممرضة الوحيدة العاملة مع الدكتور في النهاية، ولا تدري إن كان ملف والدي تحت مسئوليتها. قلت: كان يمكنك إخباري بهذه المعلومة الصغيرة منذ البداية. قالت بأنها أخبرتني، قلت بأنها لم تفعل. لا يختلف الأمر، فأنا أثق أن المسئول عنها وعن زميلاتها خسيس مثلهن.
لا أعتقد أني وفقت لمراجعة المستشفى مع أهلي دون منغص، وسوء معاملة، وقلة إحترام لإنسانيتنا. فقد والدي ذات مرة وعيه، ونحن أمام المستشفى، بينما وقفن ممرضات ينظرن إلينا، رافضات القدوم للمساعدة، رغم صياحي في ذلك الصباح الخالي من الناس طلباً للمساعدة منهن ومن أي أحد، ورغم محاولتي وعجزي عن حمل والدي.
كما أن الأدوية الغالية الثمن، التي فعلاً لا يستطيع الناس شراءها، هي ما لا يتوفر، في حين يقال بأنها توفر فقط لمن لديه واسطة أو معرفة، كما قال طبيب لأختي؛ هي توفر للفي آي بي. وهؤلاء الفي آي بي، هم الدكاترة الآخرين، والشخصيات الغنية، وهم يستطيعون شراء هذه الأدوية بسهولة.
لا يتخيل الناس البعيدين عن الأمر، لكن بعض الأدوية مكلف إلى درجة مخيفة.
هؤلاء الناس العاملين في المستشفيات الحكومية، كلهم، حتى المدراء، يفتقرون إلى إدراك حاجة الناس، ورغم أنهم في مستشفى، إلا أنهم على ما يبدو لا يدركون أن من يأتي إليهم هم المرضى، ومرافقيهم، الذين يعانون أكثر من العاملين بالمستشفى، مهما كان ضغط العمل لديهم. إنهم يفتقرون إلى الإحساس، والأدب، والإحترام، والإنسانية. وهذه سخرية، أن تفتقر للإنسانية وأنت تعمل حيث يُعالج الإنسان ويعتنى به من جراحه وآلامه.
أتمنى أن ينتقم منهم الله. لكن، منذ متى وامنياتي تتحقق.
على الأقل، أتمنى أن ينتقم الله من وزير الصحة، أن يجعله يعاني مما يعاني منه الناس، أن يبحث عن الدواء ولا يجده، أن يبحث عن الإحترام ولا يجده.
ومثله، مدير الجامعة، فالمستشفى الذي قضيت سنوات أراجعه مع أهلي، هو جامعي بالنهاية.
ماذا بوسع المرء أن يقول حينما يعاني من ظروف، لتوه شعر بها، أو توصل إلى الشعور الكامل بها، في حين أنها ظلت تتكون وتتراكم وتسوء منذ سنين، أمام عينيه.
يشعر المرء وكأنما كان يسير في إتجاه كمين محبوك منذ أن ولد، بيد أن الطريق إلى الكمين لم يكن ذا منظر خادع، لم يكن جميلا ومستدرجا للغفلة كما هي عادة الكمائن. كان يبدو وكأن الحياة كانت بالأساس كمينا، فإذا بها محشوة في جوفها البعيد بكمين أسوأ نية، حيث وصلت أخيراً.
الوحدة، والارتباط، أمرين يبدوان كضدين، لكن اجتماع الضدين هو ما يجعل الأمور فريدة من نوعها. يجعل السعادة فريدة، والحزن فريداً.
أنشر الآن أسرع مما اعتدت خلال الشهور الفائتة، لأني لا أتوقع قدوم أحداث مميزة في هذه الفترة، أو تغير شيء. ما ذكرته هنا حتى غير مثير للاهتمام، والمزيد منه سيجعل الأمر بالغ السوء.
سعد الحوشان