بسم الله الرحمن الرحيم
كنت قد توقفت لفترة عن عرض ما أراه مهماً من رحلتي على المدونة، حيث بدأت أتساءل عن الجدوى. لم يكن عامل انعدام الردود والتفاعل أمر جديد، على العكس، إني أرى بأن الاستثناء هو الرد. لكن، بدا لي أني أتحدث عن أمر مهم لأول مرة، ثم فجأة بدأت بالتساؤل؛ من أُخبر؟ من يسمع؟. فكرت؛ لا زال هناك من يبحث عن مدونتي كل يوم تقريباً بإسمي، ويوجد شخص من المغرب يتابع ما أقول بالبحث هكذا: رحلتي إلى البيرو. وهذا الدليل الوحيد على أن هناك من يهتم بشيء ما.
ولعل العامل الأهم هو أن الدكتور الألماني، صديقي الحقيقي الوحيد، قد غادر منذ أشهر الآن. وبمغادرته، أصبحنا نتراسل، صار ما أكتب يجد رداً، وصار هناك من يقول بأني تأخرت، وأني يجب أن أكتب أكثر.
حينما كان موجوداً، كنت أكتب كثيراً للمدونة، ولا يضيرني أني أجد صديقي يرد صوتي نهاية كل أسبوع. لكن، يبدو أن علتي هي بالكتابة، وليس التحدث بحد ذاته. إذا ما وجدت مجال أكثر جدوى للكتابة، فإنه يأخذ الأولوية، وهكذا صارت الكتابة إلى إنسان يرد فعلاً، وليس يرد فقط حينما يجد في مدونتي ما لا يعجبه مثل بعض الناس، أقول صارت الكتابة إلى إنسان يرد فعلاً أكثر جدوى من الكتابة إلى من يشبه المتلصص بصمته المثيل لصمت الموت.
على أني لا أتصور بأننا سنستمر فعلاً بالكتابة المنتظمة لفترة طويلة.
على أني لا أتصور بأننا سنستمر فعلاً بالكتابة المنتظمة لفترة طويلة.
مع ذلك، وجدت بالنهاية من يعبأ فعلاً، في ردين في تدوينتي السابقة وما سبقها. أعرف أحدهم، عبدالعزيز خشيل، واهتمامه شديد الأهمية، فهذا الرجل كان قد راسلني قبل سنوات، لعلها ستة سنوات، حينما كنت أكتب في مدونتي الاولى، لعله كان أول من شجعني وقال بأنه يهتم، خلافاً لصديقتي الصدوقة وشقيقتي الكبرى.
إني أقدر كثيراً، رغم كل شيء، اهتمام شخص من المغرب، يبحث عن رحلة البيرو فيصل إلى مدونتي كل فترة وأخرى، ذلك أننا نحب نفس الشيء.
أتابع الرحلة.
أخذتني المرشدة في رحلة طويلة مع السائق إلى كويلاب، وهي قلعة يعلم عنها قلة قليلة من السياح للأسف، تعود إلى حضارة التشاتشابوياس. وكان هؤلاء القوم بالنسبة إلى الإنكا على جانب من التوحش، رغم تقدمهم بالبناء والزراعة، حيث أنهم كانوا شرسين، وعلى حد علمي قتلوا رسول الإنكا الذي جائهم مفاوضاً، فزحف الإنكا إليهم وحاصروهم في قلعتهم تلك، حتى أوفدوا التشاتشابوياس نساء لمفاوضة قائد الإنكا، والإعتذار منه، ذلك أن قتل مرسال على ما يبدو أمر محرم فطرياً، وليس فقط في حضارات العالم القديم فقط. قبلوا الإنكا الإعتذار، وعقدوا صلحاً كذلك، وأعلنوا الغابة التي تم بها الصلح مكاناً مقدساً تقديراً للمناسبة، وبهذا ضموهم إلى دولتهم بسلم ولم ينكلوا بهم.
وحكم الإنكا التشاتشابوياس، وكشأن كل من حكموهم، حرصوا على تقديس ما يقدسون ما لم يكن متطرفاً، وقدموا التقدمات إلى آلهاتهم، وأبقوا على حكامهم تحت ظلهم.
لكن التشاتشابوياس كانوا على جانب كبير من الحقد الذي أعماهم. يفهم المرء الحقد على الحكم بالإرغام والقوة، رغم الحفاظ على مقدساته والتمازج معه، لكن في تصوري أنهم ذهبوا إلى أبعد من هذا.
حينما جاء الأسبان، وكانوا قلة قليلة، حسبهم التشاتشابوياس بغباء آلهات، وكان الأسبان بطبيعة الحال غير قادرين على القضاء على دولة الإنكا وهم حوالي 300 رجل. وعدهم الاسبان بإعطائهم أمر أنفسهم وحكم بلادهم إذا ما ساعدوهم على القضاء على الإنكا. وافق التشاتشابوياس، ولم يفكروا بالفائدة التي سيجنيها الاسبان هكذا، وبأنهم أنفهم قد لا يكونون قادرين على ردع الاسبان لاحقاً، ببنادقهم وخيولهم.
وهكذا انتصر الاسبان على الإنكا، ثم عاد الأسبان وأحرقوا قلعة كويلاب، فخر التشاتشابوياس التي صمدت في وجه الإنكا، وحكموا التشاتشابوياس بظلم كبير كما فعلوا مع سائر أهل الأرض الأصليين.
في الأمر سخرية مريرة، ودرس واضح وجلي. وبالواقع، مثل هذا الدرس تكرر على مدى الغزو الاسباني للحضارات القائمة في الأمريكيتين وما بينهما، فقد قاموا بالمثل مع الازتك، وإن يكن باختلاف طفيف. لكن من حيث المبدأ، يميلون إلى إشعال الفتنة بين الناس الموجودين أساساً معاً منذ آلاف السنين.
يحاول الكثيرون بالشمال مقارنة كويلاب بماتشو بيتشو، ويتحسرون بمرارة على تجاهل كويلاب. أما وقد كنت من المحظوظين الذين رأوا الأثرين، فرأيي هو أن كليهما يستحقان الزيارة، ولكل منهما سحره الذي لا أتصور وجوده في مكان آخر بالعالم، لكل منهما أثر على الروح، لكن، كويلاب ليست بروعة، ولا بعبقرية، ولا بسماوية ماتشو بيتشو.
لا شك مع ذلك أنها أثر يستحق السفر لأجله.
يصعد المرء طريق ممهد، ومُتعب لشخص لم يتعود بعد على قلة الاوكسجين في تلك المرتفعات الشاهقة، والصعود بحد ذاته رحلة ممتعة، بمناظر تنفذ إلى عمق الروح.
وحينما يصل، سيرى الجدران العظيمة للقلعة القديمة، والسحاب إن تواجد، وقد كان متواجداً بكثافة وأمطر، فهو شديد القرب على مر الطريق.
خلال المطر اللطيف، توقفنا ننتنظر في اصطبل فارغ، بينما رعت الخيول في الخارج غير عابئة بالمطر. كانت معنا عائلة مرحة تنتظر توقف المطر.
ولما طال نزوله، ذهبنا إلى امرأة تؤجر سُتر بلاستيكية للجسم قرب مدخل القلعة. وحالما أخذ كل منا سترة توقف المطر! ضحكنا على حظ المرأة الجيد، كان الله قد قسم رزقها هكذا.
يدخل المرء القلعة وهو يصعد درج حجري أثّرت في تكوين عتباته قرون من خطوات الناس والبهائم. والطريق ضيق، ويضيق باستمرار ليسمح بإحصاء الداخلين إلى القلعة من حاملي الضرائب وبهائمهم من اللاما والألباكا.
كان للممر سحر ينفذ إلى القلب، تخيلت بأني أصعد إلى السماء وأنا أرى السحاب على مقربة، وهو ينفذ في الأعلى من بين البيوت بالقلعة والأشجار، حيث أن القلعة وما حولها عبارة عن غابة سحابية، وهذا الصنف من الغابات نادر الوجود بالعالم.
كان خلفي على الدرج والدة العائلة التي كانت معنا بالاصطبل، وهم السياح الوحيدون خلافنا حتى الآن، مما يدل على عدم الترويج الكافي، وصدقاً، عدم التجهيز الكافي كذلك، للمنطقة. كانت المرأة الكبيرة تصعد بمشقة، فأشرت لها بأن تقبض على مقبض بطول الدرج مثبت على الجدار، وقد ناديتها مدام. شكرتني؛ قراسياس، ثم جعلت العائلة، التي تلبس بأناقة، تتحدث بتعجب، وهم يقولون لبعضهم: مدام!. خمنت لاحقاً بأنهم يتسائلون من أين أنا، إذ أني قلت مدام، وأعتقد كذلك أن الأمر أكثر تعقيداً على ما أظن.
حينما وصلنا للقلعة، وجدت نفسي في مكان تسمه علامات الهجران على كل حجر. يخفق قلبي الآن وأنا أكتب عن ذلك المكان الذي لا يماثله مكان، بالإحساس الذي يراود المرء فيه عن قوة الزمن، وهو يتخيله مزدهراً، يزوره الناس حجاً من مختلف الحضارات البعيدة، وهم يحملون تقدماتهم بالجرار المزخرفة. والآن، هاهو مهجور، بيوته متهدمة، تعلوها الأعشاب، ليس وكأن ربات هذه البيوت قد أقمن واعتنين بها، وليس وكأن أربابها قد بنوها بأفضل ما يحسنون.
ورغم أن البناء والإرث الذي تركته هذه الحضارة ليس بنعومة وتهذيب ما تركه الإنكا، أو الوتشي واللمباييك، إلا أنه لا يخلو من ذوق حسن وإن كان على جانب من الوحشية في رأيي، بل إني أرى أن الوحشية هي جزء من فنهم وحسن ذوقهم، كيف حافظوا عليها ومزجوها بالتحضر، أعني من ناحية المظهر على الأقل.
تجولنا بالقلعة، وكان السحاب يغشانا أحياناً، وشرحت لي المرشدة عن الأكواخ وتصميمها، وأهلها المدفونين في حجر أسفلها، وكيف أنها كانت غالباً عبارة عن طابقين.
كان هناك برج للمراقبة، ومكان يعتقد بأنه بأنه للمعالجة بالأعشاب والطقوس. ونصب ديني كبير متهدم جزء منه، يتسع من الأعلى بينما قاعدته ضيقة، وكأنه كأس، في هندسة متقنة، وهو ما كان القوم وغيرهم يقدسون، وهو مبني ليتوافق مع نجم معين في السماء.
تسمع بالقلعة الطيور الطنانة، وإن كنت محظوظا رأيتها.
رأيت بعض آثار الحريق الذي افتعله الاسبان اللؤماء، بعدما أعانوهم التشاتشابوياس على الإنكا. تقول أختي الكبرى: أحسن.
لكنه أمر مؤسف صدقاً، يا لسفاهة الطرفين.
في منتصف الأكواخ، يوجد صفائح حجرية مثبتة بحيث تشكل ممراً، وداخلها وجدوا بقايا محترقة من حيوان الكوي، أو الوبر كما يسميه البعض هنا خطأً، حيث كان الناس يربونه في هذا المكان داخل بيوتهم، فلحمه جزء من نظام أهل الانديز الغذائي.
لاحظت أن العائلة بشكل عام تتابعنا، وتمشي على مسارنا، ربما لاعتقادهم بأن المرشدة تعرف أفضل ترتيب لمشاهدة القلعة.
جلسنا لنستريح قليلاً، فجائني شاب من تلك العائلة، هو أصغرهم، وسألني من أين أنا؟ فأخبرته بأني عربي. والتفت إلى أهله وأخبرهم، وبدت عليهم الراحة، إذ كان أمر يشغلهم على ما يبدو. كان الشاب لطيفاً، وأخذ يحكي عن نفسه وعائلته. أخبرني بأنه فرنسي من أصل بيروفي، جاء به والده ليريه البيرو ويزور العائلة، وهو طالب جامعي هناك. كان له ملامح عربية خالصة، ولأمه كذلك تلك الملامح اللاتينية التي لا تختلف عن ملامحنا، أما البقية فلم أرهم بقرب كافي.
وهذا مخرج القلعة من الخارج:
في اليوم التالي، ذهبنا إلى واد ضخم، بعدما تعذر علينا الذهاب لرؤية ثاني أو ثالث أعلى شلال بالعالم، يسمى قوكتا، بسبب انهيار صخري. لم أحزن بصراحة، وربما شعرت بالارتياح. فالطريق إليه غير مجهز، وقد نالت قدمي كفايتها، فلم أكن سأمشي، وكنت سأقطع على ظهر الخيل إن كنت محظوظاً حوالي 4 ساعات حتى أصل إليه. تلك المنطقة غير مجهزة أبداً، وسياحياً، ينطبق هذا على عموم الشمال.
ذهبنا إلى واد ضخم بالقرب، وكانت المناظر رائعة، والسحاب يينساب برفق على مسطحات القمم الخضراء، بينما تنز المياه من جدران الجبال.
كانت المرشدة قد أخبرتني أن والدها المتقاعد لديه مزرعة قهوة، يذهب إليها ليشغل نفسه بعد التقاعد، ويبيع إنتاجها. أخبرتها بأني أريد كيلو من حب القهوة النيء وسألت عن سعرها، فقالت بأنه يبيع الكيلو بثمانية سولات، أي بحوالي 11 ريالاً، فاتصلت به، وأخبرته بأن السنيور السائح العربي يريد كيلو قهوة. وقال لها بأنه سيرسلها مع صديقه لنستلمها غداً. مزرعته تبعد بالسيارة حوالي 4 ساعات، فلا بد أنه أعطاها لشخص دائم التردد. الطرقات الجبلية المتلوية تباعد بين الأماكن المتقاربة، فلا أعتقد أن المزرعة بعيدة جداً مكانياً.
ذهبنا نمشي في تلك البلدة الجميلة إلى حيث أخبرها والدها أننا سنجد قهوتي، كانت ورشة سيارات خرج منها رجل وسلم علينا، وأعطاها كيس القهوة. رفضت أخذ المال، قائلة بأن والدها يقول بأنه هدية للسنيور العربي حتى يأخذه إلى بلاده. قدرت هذه اللفتة، وأخذ العناء دون مقابل.
ثم ذهبنا إلى مقهى صديقتها القريب. وهي امرأة بشوشة، ولطيفة، وكانت فضولية. وبدا عليها أنها تريد التجريب حينما قالت بأنها استقبلت سياح اسرائيليين، وأن لغتهم حينما تحدثوا كانت غريبة، وتسائلت إن كان للغتنا نفس الصوت. أسمعتها بعض الجمل، وهذا أمر طُلب مني عدة مرات خلال سفري.
أرتني أنواع القهوة لديها. أرتني القهوة البيروفية المطحونة والمحمصة الدرجة الأولى، حيث أنها معدة للتصدير، ولما شممت الكيس وقف شعر رأسي ورقبتي، وأصابت ذهني موجة من الصحو والإثارة لم أجرب مثلها في حياتي، إذ ارتددت وكأنما جرت الدماء فجئة في رأسي وإلى عيناي، واشتريت كيساً منه بلا تردد، لأهلي، حيث أني لا اهتم كثيراً بالقهوة. وسألت عن الكاكاو الأصلي، والكاكاو أصلاً من تلك الجهات من العالم، وكان الإنكا يشربونه ويسمونه شراب الآلهة. أرتني قرص داكن من الكاكاو البيروفي الصافي، وأخبرتني كيف يصنع منه المشروب، واشتريته، لكني لم أتذوقه إذ أن أختي أخذته حينما عدت.
حينما جاء المساء، كان الوقت قد حان لأغادر إلى المحطة. ذهبنا إلى مكتب الوكالة القريب، وكل شيء قريب في تلك البلدة الجميلة، لنأخذ حقائبي. مشينا إلى المحطة، وهناك، رأيت الشاب البيروفي الفرنسي الذي رأيته في كويلاب، فجاء مسلماً بلطف، وجاء معه والده، الذي كانت ملامحه مثل ملامح السكان الأصليين لا يداخلها تأثير، وسلم علي كذلك بلطف، وانتظرنا نفرغ من الكلام. إن ما آسف عليه هو أني لم أطلب من الفتى بريده الالكتروني لأتواصل معه. فمن يدري، ربما كنت لأراه مرة أخرى، ولا أحب خسارة شخص لطيف مثله.
ودعتني المرشدة، ومضيت إلى تروهيليو، حيث سأسافر بالطائرة إلى العاصمة ليما.
أعتقد أني سأختصر جزء كبير من الرحلة بدءاً من التدوينة القادمة، حيث سأتكلم بتفصيل أكبر عن المناطق التي أرى أنها تثير الاهتمام أكثر.
رمضان والعيد، من أكثر المواسم والمناسبات التي تذكرني بمرور الوقت، كما تذكر سائر الناس، ولكنها تذكرني أيضاً بتوقف الأشياء وركودها في حياتي.
إني شاكر في كل الأحوال لله سبحانه. وأعتقد كذلك أن رحلتي إلى البيرو قد كانت تغيير إيجابي ولو لبعض الوقت، رغم المرارة التي أشعر بها باستمرار منذ الرجوع منها. تتخيل والدتي بأني ربما تعرضت إلى سحر هناك، حتى أعشق ذلك البلد وأفكر به كثيراً حتى الآن.
خلافاً لهذا، أجد أني ذهبت وعدت لنفس الوضع. أتذكر أخي الكبير حينما عاد من أمريكا ذات مرة، بعد فترة غياب طويلة، فسألته أختي أن يرى التغييرات في غرفتها. قال مازحاً بأنه لم يتغير شيء، فلا زال كل الأثاث في محله، وقد غادر والمروحة تعمل، وعاد وهي تعمل!. لعل هذا ما حدث، فلم أخرج وأعود بشهادة مثلاً، لقد تعلمت الكثير هناك، لقد كونت الكثير من الصداقات، حققت أمنيات، وعدت بفهم أفضل في الكثير من الأمور، لكن كل هذه الأمور لا اعتبار لها هنا. بالواقع، لا شيء، شيء وليس أحد، يهمني وأحبه له أي اعتبار حيث أعيش، وربما ما أقوم به كعمل هو أمر لا يقدم ولا يؤخر كثيراً بالنسبة لي، باستثناء مساعدة بعض الناس الذين يستحقون المساعدة والتعاطف، لكن هذا لا يغير شيئاً.
على وجه العموم، هذه هي القسمة والحظ، وبالنظر إلى حسن الحظ الذي أخذني إلى البيرو، وهو حظ غير معتاد في حياتي، لعلي أخذت أكثر من قسمتي بشكل ما، فالشكر لله أولاً وآخراً.
لعل هاجسي الأكبر قبل الصيام هو الماء؛ إن أعمق مخاوفي دائماً هو العطش، لهذا آتي كل يوم قبل رمضان بقارورة ماء كبيرة، وغالباً لا تكفيني، وأقتر على نفسي إن بقي منها شيء حتى نهاية الدوام، وإن افرغتها مبكراً نزلت إلى مقهى كاريبو واشتريت مياه نورد منهم، وهم يبيعونها بضعف سعرها.
أما خلال رمضان، فأقصى ما يمكنني القيام به هو شرب كميات كبيرة من الماء قبل الآذان، حوالي لترين، وغالباً ما يكون هذا هو سحوري.
لست اشاهد التلفاز، تقريباً أبداً، سواء في رمضان أو غيره. لكني قرأت بأن الممثل خالد سامي قام بتقليد العريفي، وهو رجل مشهور بأنه داعية وشيخ. إني لا أثق بالعريفي ولا أحبه كشخصية عامة، لكني لا أهتم لخالد سامي كذلك. لكن، الحدث وما نتج عنه هو أمر يستحق التأمل. يشعرك الأمر بأن الكثير الناس يبحثون عن فرصة لاستعراض مواهبهم بابتكار الشتائم والتعنيف.
يقول البعض بأن المسألة مبدأية، فهم ضد الاستهزاء بالشيوخ، أو المتدينين، بالواقع، لم أعد أعرف من هم الشيوخ، ومن هم المتدينين، ومن هم أهل العلم، ومن هم الدعاة، وما هو الشيخ، وما هو المتدين، وما هو كل ما سبق. ليس لدي رأي حول هذه المسألة المبدأية.
لكن مشكلتي هي مع فحش الألسن، وانتهاز الفرص للجرح والتحقير، وكأنما ينتظر الناس مثل هذه المواقف ليخرجوا أسوأ ما في قواميسهم، ليجرحوا ويهينوا بقدر ما يشائون، دون معرفة شخصية بالطرفين، أو تضرر مباشر. لا يكفي إبداء الرأي بالمسألة، لكن يجب القدح بأعراض الناس، حتى تصون أعراض آخرين، والشهادة ضد من لا تعرف، لتشهد مع من لا تعرف أيضاً، هي أمور تنم عن سفاهة ومبالغة.
رأيت مقطع لشاب تافه غير متدين مظهرياً، يلقي قصيدة بائخة وركيكة، وهو يفتعل الانفعال والغضب، يُشبه فيها الممثل في أحد المواضع بالحيض. يتفنن بلا موهبة ليصفه بأقذع وأقرف ما يمكنه تخيله، ولكن هذا لا يحتاج إلى موهبة. ويصف العريفي وصف لو سمعته لحسبته يصف نبياً.
وقرأت تعليقات الناس، وقذفهم بعضهم بعضاً، وقدحهم بأعراض بعض، من أجل رجلين لا هم من الصحابة، ولا هم من أعدائهم، ولا أظن أن واحد بالمئة ممن غضب عليهم أو لأجلهم يعرفهم فعلاً.
أعتقد بأن مثل هذه المواقف لا تشبع رغبة عند الكثير من الناس في إيذاء الآخرين فقط، لكنها تصور لهم صحة وسلامة معتقدهم وموقفهم من الحياة، فكلما زاد الإيذاء والتفنن به، كلما بدا لهم أنهم مدافعين عن الخير، وأنهم إليه أقرب، مهما كان أسلوبهم بالحياة؛ الذي يمكنك أن تستشفه من نوعية ألفاظهم.
أعجبتني رواية قرأتها مؤخراً، لنفس مؤلفة الأرض الطيبة، بيرل باك، وتدور مثلها في ريف الصين القديمة. اسم الرواية: مأساة أم. كنت قد اشتريت الكتاب منذ فترة طويلة، لكني انشغلت بشكل ما في قراءة كتب مختلفة طوال الوقت، حتى نسيت أني أملك الكتاب، وكدت أن أشتريه مرة أخرى.
إن الأرض الطيبة أجمل وأكثر إبداع ومتعة، لكن هذه أصدق وأعمق، وعموماً كلتا الروايتين تتميزان بنفس المزايا، لكن أحدها أكثر من الآخرى في بعض المزايا التي ذكرت.
أجمل ما في رواية مأساة أم هو التعمق والواقعية في النظرة تجاه البشر، وحدود تحملهم، كما المسافات المذهلة التي قد يقطعونها بفضل الغريزة.
ليست الأم ملاك، لكنها أم في الرواية، وهذا أمر تناقشة الرواية بأفضل نحو، بحيث أن لكون البطلة امرأة مكتملة الأمومة لهو أمر شديد التأثير مما لو صبغتها المؤلفة بصبغة ملائكية بابتذال. لعل كل أم سوية في عين ابنائها الأسوياء ملاك في ما يحمله الأمر من حس معنوي، لكن المؤلفة تكتب عن امرأة اخرى، ليست أمها، ولكنها أم. وهذا التشريح لنفسية أم بسيطة، رغم طموحها ومآسيها، وقوّتها وضعفها كإنسان، هو مما يعطي الكتاب قيمته العالية في رأيي.
الكتاب يحكي ملحمة هذه الأم التي هجرها زوجها التافه، تاركاً إياها لترعى أمه وأطفاله. وليست الأم هي الشخصية الوحيدة التي تستعرضها المؤلفة بواقعية وحكمة، ولكني قرأت عن صداقات خالصة في بعض الشخصيات التي لا تخلو من بلادة، ولؤم وخسة بطبيعة شخصيات أخرى رغم بساطتها، وبينما ألخص بعض ما وجدته ببساطة هنا، أستحضر بعض ممن أعرف وأفهم، وأستشعر عمق الرواية في تشخيص أبطالها، وحكمة المؤلفة.
قرأت كتب أخرى في هذه الفترة، ورغم أنها ساعدت على تمضية الوقت، إلا أنها لا تستحق الذكر.
سعد الحوشان
لا شك مع ذلك أنها أثر يستحق السفر لأجله.
يصعد المرء طريق ممهد، ومُتعب لشخص لم يتعود بعد على قلة الاوكسجين في تلك المرتفعات الشاهقة، والصعود بحد ذاته رحلة ممتعة، بمناظر تنفذ إلى عمق الروح.
وحينما يصل، سيرى الجدران العظيمة للقلعة القديمة، والسحاب إن تواجد، وقد كان متواجداً بكثافة وأمطر، فهو شديد القرب على مر الطريق.
خلال المطر اللطيف، توقفنا ننتنظر في اصطبل فارغ، بينما رعت الخيول في الخارج غير عابئة بالمطر. كانت معنا عائلة مرحة تنتظر توقف المطر.
ولما طال نزوله، ذهبنا إلى امرأة تؤجر سُتر بلاستيكية للجسم قرب مدخل القلعة. وحالما أخذ كل منا سترة توقف المطر! ضحكنا على حظ المرأة الجيد، كان الله قد قسم رزقها هكذا.
يدخل المرء القلعة وهو يصعد درج حجري أثّرت في تكوين عتباته قرون من خطوات الناس والبهائم. والطريق ضيق، ويضيق باستمرار ليسمح بإحصاء الداخلين إلى القلعة من حاملي الضرائب وبهائمهم من اللاما والألباكا.
كان للممر سحر ينفذ إلى القلب، تخيلت بأني أصعد إلى السماء وأنا أرى السحاب على مقربة، وهو ينفذ في الأعلى من بين البيوت بالقلعة والأشجار، حيث أن القلعة وما حولها عبارة عن غابة سحابية، وهذا الصنف من الغابات نادر الوجود بالعالم.
كان خلفي على الدرج والدة العائلة التي كانت معنا بالاصطبل، وهم السياح الوحيدون خلافنا حتى الآن، مما يدل على عدم الترويج الكافي، وصدقاً، عدم التجهيز الكافي كذلك، للمنطقة. كانت المرأة الكبيرة تصعد بمشقة، فأشرت لها بأن تقبض على مقبض بطول الدرج مثبت على الجدار، وقد ناديتها مدام. شكرتني؛ قراسياس، ثم جعلت العائلة، التي تلبس بأناقة، تتحدث بتعجب، وهم يقولون لبعضهم: مدام!. خمنت لاحقاً بأنهم يتسائلون من أين أنا، إذ أني قلت مدام، وأعتقد كذلك أن الأمر أكثر تعقيداً على ما أظن.
حينما وصلنا للقلعة، وجدت نفسي في مكان تسمه علامات الهجران على كل حجر. يخفق قلبي الآن وأنا أكتب عن ذلك المكان الذي لا يماثله مكان، بالإحساس الذي يراود المرء فيه عن قوة الزمن، وهو يتخيله مزدهراً، يزوره الناس حجاً من مختلف الحضارات البعيدة، وهم يحملون تقدماتهم بالجرار المزخرفة. والآن، هاهو مهجور، بيوته متهدمة، تعلوها الأعشاب، ليس وكأن ربات هذه البيوت قد أقمن واعتنين بها، وليس وكأن أربابها قد بنوها بأفضل ما يحسنون.
ورغم أن البناء والإرث الذي تركته هذه الحضارة ليس بنعومة وتهذيب ما تركه الإنكا، أو الوتشي واللمباييك، إلا أنه لا يخلو من ذوق حسن وإن كان على جانب من الوحشية في رأيي، بل إني أرى أن الوحشية هي جزء من فنهم وحسن ذوقهم، كيف حافظوا عليها ومزجوها بالتحضر، أعني من ناحية المظهر على الأقل.
تجولنا بالقلعة، وكان السحاب يغشانا أحياناً، وشرحت لي المرشدة عن الأكواخ وتصميمها، وأهلها المدفونين في حجر أسفلها، وكيف أنها كانت غالباً عبارة عن طابقين.
كان هناك برج للمراقبة، ومكان يعتقد بأنه بأنه للمعالجة بالأعشاب والطقوس. ونصب ديني كبير متهدم جزء منه، يتسع من الأعلى بينما قاعدته ضيقة، وكأنه كأس، في هندسة متقنة، وهو ما كان القوم وغيرهم يقدسون، وهو مبني ليتوافق مع نجم معين في السماء.
تسمع بالقلعة الطيور الطنانة، وإن كنت محظوظا رأيتها.
رأيت بعض آثار الحريق الذي افتعله الاسبان اللؤماء، بعدما أعانوهم التشاتشابوياس على الإنكا. تقول أختي الكبرى: أحسن.
لكنه أمر مؤسف صدقاً، يا لسفاهة الطرفين.
في منتصف الأكواخ، يوجد صفائح حجرية مثبتة بحيث تشكل ممراً، وداخلها وجدوا بقايا محترقة من حيوان الكوي، أو الوبر كما يسميه البعض هنا خطأً، حيث كان الناس يربونه في هذا المكان داخل بيوتهم، فلحمه جزء من نظام أهل الانديز الغذائي.
لاحظت أن العائلة بشكل عام تتابعنا، وتمشي على مسارنا، ربما لاعتقادهم بأن المرشدة تعرف أفضل ترتيب لمشاهدة القلعة.
جلسنا لنستريح قليلاً، فجائني شاب من تلك العائلة، هو أصغرهم، وسألني من أين أنا؟ فأخبرته بأني عربي. والتفت إلى أهله وأخبرهم، وبدت عليهم الراحة، إذ كان أمر يشغلهم على ما يبدو. كان الشاب لطيفاً، وأخذ يحكي عن نفسه وعائلته. أخبرني بأنه فرنسي من أصل بيروفي، جاء به والده ليريه البيرو ويزور العائلة، وهو طالب جامعي هناك. كان له ملامح عربية خالصة، ولأمه كذلك تلك الملامح اللاتينية التي لا تختلف عن ملامحنا، أما البقية فلم أرهم بقرب كافي.
وهذا مخرج القلعة من الخارج:
في اليوم التالي، ذهبنا إلى واد ضخم، بعدما تعذر علينا الذهاب لرؤية ثاني أو ثالث أعلى شلال بالعالم، يسمى قوكتا، بسبب انهيار صخري. لم أحزن بصراحة، وربما شعرت بالارتياح. فالطريق إليه غير مجهز، وقد نالت قدمي كفايتها، فلم أكن سأمشي، وكنت سأقطع على ظهر الخيل إن كنت محظوظاً حوالي 4 ساعات حتى أصل إليه. تلك المنطقة غير مجهزة أبداً، وسياحياً، ينطبق هذا على عموم الشمال.
ذهبنا إلى واد ضخم بالقرب، وكانت المناظر رائعة، والسحاب يينساب برفق على مسطحات القمم الخضراء، بينما تنز المياه من جدران الجبال.
كانت المرشدة قد أخبرتني أن والدها المتقاعد لديه مزرعة قهوة، يذهب إليها ليشغل نفسه بعد التقاعد، ويبيع إنتاجها. أخبرتها بأني أريد كيلو من حب القهوة النيء وسألت عن سعرها، فقالت بأنه يبيع الكيلو بثمانية سولات، أي بحوالي 11 ريالاً، فاتصلت به، وأخبرته بأن السنيور السائح العربي يريد كيلو قهوة. وقال لها بأنه سيرسلها مع صديقه لنستلمها غداً. مزرعته تبعد بالسيارة حوالي 4 ساعات، فلا بد أنه أعطاها لشخص دائم التردد. الطرقات الجبلية المتلوية تباعد بين الأماكن المتقاربة، فلا أعتقد أن المزرعة بعيدة جداً مكانياً.
ذهبنا نمشي في تلك البلدة الجميلة إلى حيث أخبرها والدها أننا سنجد قهوتي، كانت ورشة سيارات خرج منها رجل وسلم علينا، وأعطاها كيس القهوة. رفضت أخذ المال، قائلة بأن والدها يقول بأنه هدية للسنيور العربي حتى يأخذه إلى بلاده. قدرت هذه اللفتة، وأخذ العناء دون مقابل.
ثم ذهبنا إلى مقهى صديقتها القريب. وهي امرأة بشوشة، ولطيفة، وكانت فضولية. وبدا عليها أنها تريد التجريب حينما قالت بأنها استقبلت سياح اسرائيليين، وأن لغتهم حينما تحدثوا كانت غريبة، وتسائلت إن كان للغتنا نفس الصوت. أسمعتها بعض الجمل، وهذا أمر طُلب مني عدة مرات خلال سفري.
أرتني أنواع القهوة لديها. أرتني القهوة البيروفية المطحونة والمحمصة الدرجة الأولى، حيث أنها معدة للتصدير، ولما شممت الكيس وقف شعر رأسي ورقبتي، وأصابت ذهني موجة من الصحو والإثارة لم أجرب مثلها في حياتي، إذ ارتددت وكأنما جرت الدماء فجئة في رأسي وإلى عيناي، واشتريت كيساً منه بلا تردد، لأهلي، حيث أني لا اهتم كثيراً بالقهوة. وسألت عن الكاكاو الأصلي، والكاكاو أصلاً من تلك الجهات من العالم، وكان الإنكا يشربونه ويسمونه شراب الآلهة. أرتني قرص داكن من الكاكاو البيروفي الصافي، وأخبرتني كيف يصنع منه المشروب، واشتريته، لكني لم أتذوقه إذ أن أختي أخذته حينما عدت.
حينما جاء المساء، كان الوقت قد حان لأغادر إلى المحطة. ذهبنا إلى مكتب الوكالة القريب، وكل شيء قريب في تلك البلدة الجميلة، لنأخذ حقائبي. مشينا إلى المحطة، وهناك، رأيت الشاب البيروفي الفرنسي الذي رأيته في كويلاب، فجاء مسلماً بلطف، وجاء معه والده، الذي كانت ملامحه مثل ملامح السكان الأصليين لا يداخلها تأثير، وسلم علي كذلك بلطف، وانتظرنا نفرغ من الكلام. إن ما آسف عليه هو أني لم أطلب من الفتى بريده الالكتروني لأتواصل معه. فمن يدري، ربما كنت لأراه مرة أخرى، ولا أحب خسارة شخص لطيف مثله.
ودعتني المرشدة، ومضيت إلى تروهيليو، حيث سأسافر بالطائرة إلى العاصمة ليما.
أعتقد أني سأختصر جزء كبير من الرحلة بدءاً من التدوينة القادمة، حيث سأتكلم بتفصيل أكبر عن المناطق التي أرى أنها تثير الاهتمام أكثر.
رمضان والعيد، من أكثر المواسم والمناسبات التي تذكرني بمرور الوقت، كما تذكر سائر الناس، ولكنها تذكرني أيضاً بتوقف الأشياء وركودها في حياتي.
إني شاكر في كل الأحوال لله سبحانه. وأعتقد كذلك أن رحلتي إلى البيرو قد كانت تغيير إيجابي ولو لبعض الوقت، رغم المرارة التي أشعر بها باستمرار منذ الرجوع منها. تتخيل والدتي بأني ربما تعرضت إلى سحر هناك، حتى أعشق ذلك البلد وأفكر به كثيراً حتى الآن.
خلافاً لهذا، أجد أني ذهبت وعدت لنفس الوضع. أتذكر أخي الكبير حينما عاد من أمريكا ذات مرة، بعد فترة غياب طويلة، فسألته أختي أن يرى التغييرات في غرفتها. قال مازحاً بأنه لم يتغير شيء، فلا زال كل الأثاث في محله، وقد غادر والمروحة تعمل، وعاد وهي تعمل!. لعل هذا ما حدث، فلم أخرج وأعود بشهادة مثلاً، لقد تعلمت الكثير هناك، لقد كونت الكثير من الصداقات، حققت أمنيات، وعدت بفهم أفضل في الكثير من الأمور، لكن كل هذه الأمور لا اعتبار لها هنا. بالواقع، لا شيء، شيء وليس أحد، يهمني وأحبه له أي اعتبار حيث أعيش، وربما ما أقوم به كعمل هو أمر لا يقدم ولا يؤخر كثيراً بالنسبة لي، باستثناء مساعدة بعض الناس الذين يستحقون المساعدة والتعاطف، لكن هذا لا يغير شيئاً.
على وجه العموم، هذه هي القسمة والحظ، وبالنظر إلى حسن الحظ الذي أخذني إلى البيرو، وهو حظ غير معتاد في حياتي، لعلي أخذت أكثر من قسمتي بشكل ما، فالشكر لله أولاً وآخراً.
لعل هاجسي الأكبر قبل الصيام هو الماء؛ إن أعمق مخاوفي دائماً هو العطش، لهذا آتي كل يوم قبل رمضان بقارورة ماء كبيرة، وغالباً لا تكفيني، وأقتر على نفسي إن بقي منها شيء حتى نهاية الدوام، وإن افرغتها مبكراً نزلت إلى مقهى كاريبو واشتريت مياه نورد منهم، وهم يبيعونها بضعف سعرها.
أما خلال رمضان، فأقصى ما يمكنني القيام به هو شرب كميات كبيرة من الماء قبل الآذان، حوالي لترين، وغالباً ما يكون هذا هو سحوري.
لست اشاهد التلفاز، تقريباً أبداً، سواء في رمضان أو غيره. لكني قرأت بأن الممثل خالد سامي قام بتقليد العريفي، وهو رجل مشهور بأنه داعية وشيخ. إني لا أثق بالعريفي ولا أحبه كشخصية عامة، لكني لا أهتم لخالد سامي كذلك. لكن، الحدث وما نتج عنه هو أمر يستحق التأمل. يشعرك الأمر بأن الكثير الناس يبحثون عن فرصة لاستعراض مواهبهم بابتكار الشتائم والتعنيف.
يقول البعض بأن المسألة مبدأية، فهم ضد الاستهزاء بالشيوخ، أو المتدينين، بالواقع، لم أعد أعرف من هم الشيوخ، ومن هم المتدينين، ومن هم أهل العلم، ومن هم الدعاة، وما هو الشيخ، وما هو المتدين، وما هو كل ما سبق. ليس لدي رأي حول هذه المسألة المبدأية.
لكن مشكلتي هي مع فحش الألسن، وانتهاز الفرص للجرح والتحقير، وكأنما ينتظر الناس مثل هذه المواقف ليخرجوا أسوأ ما في قواميسهم، ليجرحوا ويهينوا بقدر ما يشائون، دون معرفة شخصية بالطرفين، أو تضرر مباشر. لا يكفي إبداء الرأي بالمسألة، لكن يجب القدح بأعراض الناس، حتى تصون أعراض آخرين، والشهادة ضد من لا تعرف، لتشهد مع من لا تعرف أيضاً، هي أمور تنم عن سفاهة ومبالغة.
رأيت مقطع لشاب تافه غير متدين مظهرياً، يلقي قصيدة بائخة وركيكة، وهو يفتعل الانفعال والغضب، يُشبه فيها الممثل في أحد المواضع بالحيض. يتفنن بلا موهبة ليصفه بأقذع وأقرف ما يمكنه تخيله، ولكن هذا لا يحتاج إلى موهبة. ويصف العريفي وصف لو سمعته لحسبته يصف نبياً.
وقرأت تعليقات الناس، وقذفهم بعضهم بعضاً، وقدحهم بأعراض بعض، من أجل رجلين لا هم من الصحابة، ولا هم من أعدائهم، ولا أظن أن واحد بالمئة ممن غضب عليهم أو لأجلهم يعرفهم فعلاً.
أعتقد بأن مثل هذه المواقف لا تشبع رغبة عند الكثير من الناس في إيذاء الآخرين فقط، لكنها تصور لهم صحة وسلامة معتقدهم وموقفهم من الحياة، فكلما زاد الإيذاء والتفنن به، كلما بدا لهم أنهم مدافعين عن الخير، وأنهم إليه أقرب، مهما كان أسلوبهم بالحياة؛ الذي يمكنك أن تستشفه من نوعية ألفاظهم.
أعجبتني رواية قرأتها مؤخراً، لنفس مؤلفة الأرض الطيبة، بيرل باك، وتدور مثلها في ريف الصين القديمة. اسم الرواية: مأساة أم. كنت قد اشتريت الكتاب منذ فترة طويلة، لكني انشغلت بشكل ما في قراءة كتب مختلفة طوال الوقت، حتى نسيت أني أملك الكتاب، وكدت أن أشتريه مرة أخرى.
إن الأرض الطيبة أجمل وأكثر إبداع ومتعة، لكن هذه أصدق وأعمق، وعموماً كلتا الروايتين تتميزان بنفس المزايا، لكن أحدها أكثر من الآخرى في بعض المزايا التي ذكرت.
أجمل ما في رواية مأساة أم هو التعمق والواقعية في النظرة تجاه البشر، وحدود تحملهم، كما المسافات المذهلة التي قد يقطعونها بفضل الغريزة.
ليست الأم ملاك، لكنها أم في الرواية، وهذا أمر تناقشة الرواية بأفضل نحو، بحيث أن لكون البطلة امرأة مكتملة الأمومة لهو أمر شديد التأثير مما لو صبغتها المؤلفة بصبغة ملائكية بابتذال. لعل كل أم سوية في عين ابنائها الأسوياء ملاك في ما يحمله الأمر من حس معنوي، لكن المؤلفة تكتب عن امرأة اخرى، ليست أمها، ولكنها أم. وهذا التشريح لنفسية أم بسيطة، رغم طموحها ومآسيها، وقوّتها وضعفها كإنسان، هو مما يعطي الكتاب قيمته العالية في رأيي.
الكتاب يحكي ملحمة هذه الأم التي هجرها زوجها التافه، تاركاً إياها لترعى أمه وأطفاله. وليست الأم هي الشخصية الوحيدة التي تستعرضها المؤلفة بواقعية وحكمة، ولكني قرأت عن صداقات خالصة في بعض الشخصيات التي لا تخلو من بلادة، ولؤم وخسة بطبيعة شخصيات أخرى رغم بساطتها، وبينما ألخص بعض ما وجدته ببساطة هنا، أستحضر بعض ممن أعرف وأفهم، وأستشعر عمق الرواية في تشخيص أبطالها، وحكمة المؤلفة.
قرأت كتب أخرى في هذه الفترة، ورغم أنها ساعدت على تمضية الوقت، إلا أنها لا تستحق الذكر.
سعد الحوشان