بسم الله الرحمن الرحيم
توقفت في التدوينة الأخيرة فيما يخص الرحلة إلى البيرو عند خروجي من تشكلايو. أخذت الحافلة في رحلة طويلة بالمساء نحو جبال الانديز، إلى منطقة تسمى تشاتشابوياس. لم أشعر بالرحلة، فقد نمت، وحينما استيقظت فجراً كانت الحافلة قد توقفت إلى جانب الطريق، من ضمن صف طويل من الحافلات المتوقفة، صعوداً في طريق جبلي ساحر. فهمت من الناس وجود انهيار جبلي يسد الطريق، وأن إزالة الركام قد يستغرق أكثر من 4 ساعات قبل التمكن من مواصلة الرحلة، حيث لم يتبقى سوا القليل على الوصول إلى مدينة تشاتشابوياس الصغيرة.
لم أشعر بالضيق صدقاً، لم أكن لأشعر بالضيق بصراحة في ذلك الوقت من الرحلة، في بداية رحلة شهر إلى بلد لطالما تمنيت زيارته، وأعددت جيداً لتحقيق الكثير من الامنيات فيه.
كان الجو ساحراً، وكان السحاب يرى على مستوى قريب، والجبال العظيمة العملاقة تشخص في كل مكان. كيف يمكن للمرء أن يشعر بالضيق؟.
لكن لم يطل بقائي هكذا، إذ أطل رجل وامرأة تصغره سناً في الحافلة، ونادوا: موهمد؟ موهمد؟. لم يلتقطوا من اسمي غير هذا، اسم والدي. قلت بأنه أنا، وأنا أشك بوجود أي مسلم آخر. خرجت معهم، وأفهموني بلغة انقليزية ركيكة بأنهم سيأخذاني إلى ما خلف الانهيار، حتى تأتي سيارة من وكالة السفر لتأخذني إلى الفندق.
هذا الشكل من العناية هو ما حضيت به طوال شهر، إني راض كل الرضا عن الوكالة التي تعاملت معها، عن كل شيء، عن طيبتهم وتعاونهم، عن اهتمامهم البالغ، وأحياناً المفاجئ بمبالغته حد الدلال.
مشينا صعوداً حتى وصلنا الانهيار، حيث وقف بعض الناس يتأملون، ثم مضينا في جانب الطريق على سفح الجبل، وعبرنا تلك الوعورة من بين النباتات الكثيفة والأرضية الصعبة. قلت: مغامرة!. فضحكوا. حينما عبرنا إلى الجهة الأخرى، كان المنظر أجمل. كان سحرياً.
لم ننتظر كثيراً حتى جاءت سيارة، وفي السيارة مسئولة من الوكالة المحلية للسياحة، من أجمل الناس الذين رأيت في حياتي.
نزلت وعرفت بنفسها. كانت بغاية اللطف والعفوية. بعد نقاش مع الرجل والمرأة اللذان نادياني موهمد، قالت بأن فندقي بالواقع يقع في الجهة الأخرى من الطريق، حيث أن توقف الحافلة اختصر علي الوقت بالواقع، فقد تعدت الحافلة الفندق قبل فترة، لذا سنعود إلى حيث كانت الحافلة، ونبحث عن سيارة تعود بنا. قلت: يا للحظ الجيد! ضحكت، وقالت جيد لك، لكن ليس لكل هذه الحافلات وركابها. حينما وصلنا قرب حافلتي، وجدنا سيارة تقل مجموعة من الشباب الصغار. حادثت الفتاة السائق، وطلبت منه أن يعيدنا إلى الفندق، على بعد مسافة غير كبيرة. وافق مباشرة، ذلك أن كسب القليل من المال خير من الانتظار لساعات بلا فائدة. نزل الشباب، وجلهم من السكان الأصليين، ووقفوا لينتظروا عودته. أخذنا إلى الفندق، وهو فندق جميل، في بطن واد كالجنة، يجري إلى جواره نهر يحده سفح جبل.
أنجزت الفتاة أموري مع الفندق، ورحب بي اهله جيداً، كنت النزيل الوحيد. ولا غرابة، إذ أن الشمال برمته خارج الخريطة السياحية بالنسبة لمعظم السياح، فلا يعرف الغالبية العظمى منهم ما يوجد فيه، ولا عن كونه رائع ومثير للاهتمام بنفس قدر الجنوب. فلو كانت البيرو دولتين، واحدة إلى الشمال والأخرى إلى الجنوب، لاستحقتا الزيارة قبل أي مكان آخر في المنطقة في رأيي، نظرا للغنى البيئي والحضاري الذي يميز البيرو عن سواها من أمريكا الجنوبية.
ودعتني الفتاة، وأخبرتني بأن مرشدي سيأتي بعد ساعتين، أو ربما قالت ثلاث، ومضت. طلبت إفطاري، وطلبت أن أتناوله إلى جانب النهر. إن تناول مجرد بعض تمرات إلى جوار النهر والجبل يكفي لتشعر بالرضا.
لكني لم أكن أعلم بأني كنت على وجه معاناة مع المرشد القادم.
لا أريد أن أتحدث عنه كثيراً. لكنه رجل غريب الأطوار، غير مريح. ظل يتحدث عن معتقداته الغريبة، ضيع وقتي كثيراً وأساء إلى الجولة.
يعتقد مثلاً بأن كل الأديان خطأ، رغم أن المسيح جاء بالحق، أو بالمعرفة كما يصفها، حيث أن عيسى عليه السلام تعلم في مدرسة في الفضاء (!!)، وجاء ليعلم الناس هنا ما تعلم هناك من كافة المعارف الإنسانية.
الزواج كذلك أمر غبي، لا يجب أن يستمر، لأنه مجرد ربط قانوني لضمان حقوق الزوجة بعد الطلاق (!!!)، وخلاف هذا من الخزعبلات ضيقة الأفق، التي لم يتوقف عنها ولا دقيقة.
ذهبت معه إلى مكان يسمى كراهيا. وهو مكان جميل، يحوي على مقبرة من نوع خاص. لكن هذه المنطقة ككل غير مؤهلة ومطورة جيداً. وبشكل عام، تدعم الحكومة السياحة في الجنوب، حيث أشهر المزارات السياحية، أكثر من الشمال بكثير، وترى أهل الشمال يشتكون من هذا الأمر كثيراً وبمرارة.
الطريق كان رائعاً، وبالواقع، في هذه المنطقة ترى الجمال وتشعر بالروعة أينما وليت وجهك.
ومررنا كذلك بقرية جميلة، اسمها لويا، وهي ساحرة ككل القرى والمدن الصغيرة في هذه المنطقة
كان الوصول إلى الموقع شاقاً، مشينا كثيراً خوضاً في طريق موحل. لكننا انطلقنا من قرية صغيرة للسكان الأصليين، حيث البيوت الجميلة، التي تجلس أمامها النساء يحكن الاقمشة والملابس التقليدية ويتحادثن، بينما يلعب الأطفال هنا وهناك.
كان العذاب ليس في وعورة الطريق فقط، ولا قذارته، لكن في أفكار هذا الرجل الذي لا يكف عن الكلام الذي لا قيمة له ولا يخلو من وقاحة، والتوقف هنا، والتوقف هناك، فهذه فاكهة تستحق الالتقاط، وهذا منظر يستحق التصوير، حيث جاء بكاميرا، وأراد أن يبيعها علي لاحقاً. لقد شككت في اتزانه منذ البداية؛ لحظات الصمت الغريبة، والنظرات الفارغة من عينيه الشفافتين (إذ أنه ليس من السكان الأصليين)، والأفكار التي داهمني بها منذ البداية، والعجب بالذات. حينما وصلنا إلى عمق معين من ذلك الوادي العظيم، مشينا بطريق مستوٍ نسبياً حتى وصلنا إلى الموقع الأثري. وهو عبارة عن تماثيل موغلة في القدم، وضعت في اماكن عصي على الإستيعاب كيفية الوصول إليها، في كهوف أو تجاويف في مكان مرتفع من السفح المنحدر تماماً بزاوية 90 درجة. وهذه التماثيل هي بالواقع قبور، يوجد في كل منها مومياء محنطة بإتقان موضوعة بوضعية الجنين، والتماثيل توضع في أماكن مختارة بعناية، توفر مناخ طبيعي يساعد على الحفض وعدم فساد الجثة، وهذا أمر مذهل، وهي دائما تواجه الشرق. وعلى نحو يزيد من الجو المؤثر للمكان، يوجد شلال صغير ينحدر كالمطر من بين الكهفين الذين يحويان التماثيل، ويهبط أسفل منا مباشرة.
تبدو التماثيل للناظر وكأنها عالقة في حلم لن يتمخض عن شيء، دون أن تدري، أو أنها تأمل شيئاً لن يكون، وهي تنظر إلى الشمس كل يوم عبر القرون وهي تُشرق. هل تأمل شيء لنفسها أم لما في بطونها المثقلة بالأموات.
إنها مثيرة للتأمل، هل وضعت هكذا لتقول شيئاً للناظر؟ وكأني أسمعها تقول بأن اليوم كالأمس، وغداً كاليوم، ومع ذلك، ننتظر...
كنت السائح الوحيد بالمكان. قلت بأني أريد أن أنزل حيث يهبط الشلال، ويوجد ممر ضيق وشديد الانحدار يودي إلى المسقط. بدا عليه التعجب، وقال بأني بالواقع أول سائح يطلب هذا الطلب. سألته إن كان نزل من قبل، فقال لا. وهكذا أصبت أنا بالذهول والتعجب، حيث أنه جاء إلى هذا المكان لمرات لا تحصى. نزلنا، وكنت أنا من يكتشف الطرق المختصرة والسليمة، وكأنما أنا من جاء إلى هذا المكان أكثر مما يذكر. وقد أثار الأمر بشكل ما حنقي. كان الشلال رائعاً بالأسفل، لكنه موقع خطير إلى حد ما، لأنه زلق إلى أقصى حد. بقينا هناك لبعض الوقت، وذهب هو ليأخذ صورة من زاوية معينة، وتأخر.
حينما فرغنا من الجولة، عدنا، وكان الصعود شاقاً، ولحسن الحظ، استأجرت حصاناً في منتصف المسافة.
بالأعلى، أعطوني كيس من مطعم، يحوي غدائي، لكني حينما نظرت إلى الشطرية وجدت فيها لحماً وردياً غريباً، فسألت إذا ما كان لحم خنزير. بدا الاضطراب على المرشد، وسأل السائق، فبدا على الاثنين التشوّش. كنت قد قلت مسبقاً بأني لا آكل الخنزير. قال المرشد بطريقة لم تمكنني من الوثوق به، ناهيك عن عدم ارتياحي له ولتقديره لمعتقدات الآخرين، بأن اللحم بقري. أعطيته للسائق. ولما أردت شرب العصير وأكل الشوكولاته؛ وجدت الأطفال على مقربة، فوزعته عليهم، إذ أثاروا شفقتي.
في الطريق إلى الفندق، ازدادت أحاديث المرشد غرابة، وازداد موقفه قلة احترام، وقد شعرت بأن الجولة اليوم قد فقدت الكثير من قيمتها بسببه.
راسلت كارلا فوراً، وأخبرتها بأني أريد مرشد آخر، وأخبرتها بما قال هذا الرجل، حاولت كارلا لكنها لم تتمالك نفسها فضحكت. قالت بأن أمره غريب، وأنه بالعادة لا يسمح للمرشدين التحدث حول معتقداتهم على هذا النحو. كما شكوت من قلة معلوماته وسوءها، حيث أني قرأت كثيراً وأعرف أن بعض الأمور على خلاف ما يقول. قالت كارلا بأن المشكلة في تلك المنطقة خصوصاً هي قلة المرشدين المحترفين.
باليوم التالي، جاء مرشد آخر، وكان أوروبي السحنة، شديد الثقة بنفسه، وغير مريح على الإطلاق بطبيعته. غير مهتم بالتحدث عن الثقافة والتاريخ هنا، أو حتى الالتفات إلي. ذهبنا بالبداية إلى المتحف المحلي، وكانت لديه معلومات عن بناء المتحف والدولة المساهمة، النمسا، أكثر من محتويات المتحف وتاريخ المنطقة. كنت أسأل للاستزادة حول أمور أعرفها من التاريخ، فيعطيني إجابات خاطئة بارتباك واختصار. وأثار حنقي حينما دخلنا إلى قسم المومياوات (الذي أتمنى لو لم أدخله لمبدأ معين)، فوصف بعض المومياوات للسكان الأصليين بأنها مومياوات "اسبانية". لم أفهم بالبداية، فسألت مستوضحاً، فتبين بأنه يقصد بأنها مومياوات لتلك الحضارة بعد الاحتلال الاسباني، وكأنما هؤلاء القوم أصبحوا اسباناً تلقائياً. هكذا، هل يمكننا القول بأن مسجد بني وقت استعمار بريطانيا لمصر أو الهند بأنه مسجد بريطاني؟، كان منطق متكبر وبالغ الغباء، وبالواقع، شعرت منذ البداية بأنه فخور بنفسه على نحو غير عادي.
كانت المومياوات محنطة بإتقان عجيب، تحتفظ بجلدها، وهي بوضعية الجنين كذلك، مثلما كانوا يصفونها في المناطق السابقة في الصحراء. وكانت أسنانها كلها سليمة، وحسنة الترتيب، وفائقة البياض والحسن التام، ويعود هذا إلى الاستهلاك التقليدي، الذي لا يزال، لأوراق الكوكا، فهي غنية بالكالسيوم، إلى جانب مضادات الأكسدة والمنبهات الطبيعية الجيدة.
إنه لأمر محزن أخذ الجثث من مستراحها، وعرضها للناس بعيداً عن التكريم الواجب للإنسان. كنت لا أنوي مشاهدتها، ولم أطل البقاء في مكانها، لكني أخذت على حين غرة، ودفعني الفضول بعيداً عن الحس السليم. هي عموماً مستورة جيداً، لا تزال بلفائفها القماشية التي دفنت بها.
يواجهون معضلة هناك، إن تُركت المومياوات في أماكنها فإنها ستسرق للمتاجرة كما حدث مع الكثير منها (قبل أشهر، اكتشفت الحكومة المصرية مومياء بيروفية مهربة إلى هناك)، وإن أخذت إلى المتاحف للعرض أثار الأمر إعتراضات أخلاقية من البعض، الذين أشاركهم الرأي. كنا نتناقش كثيراً حول الأمر، أنا والدكتور الألماني، وكنت أخبره عن اعتراضي على عرض المومياوات في مصر، ربما باستثناء فرعون للتوصية الإلهية، لكن لماذا يخرج الآخرين من مستقراتهم ليعرضوا على الناس؟. من يتخيل نفسه بعد مماته وقد أصبح مجرد فرجة.
وما زاد الطين بلة، أنه رتب لوجود حصان لحملي عبر جبل وعر، لرؤية أثر قديم، ولكن الحصان لم يأت، فهوّن الأمر، مع علمه بأن قدمي غير سليمة، وتسلقنا لحوالي 4 ساعات، وكنت أرتدي حذاء مطاطي كتم قدمي وأساء لجرحي كثيراً، وليت الأثر كان يستحق المشقة، كان على بعد كيلو مترات بعيدة، تكاد لا تتبين منه شيئاً، مما خيب ظني إلى أقصى حد. وحينما نزلنا، وخلعت الحذاء، كان جرح قدمي قد التهب بشدة، فناديته، وأريته إياه. بدا عليه نوع من القلق، وكنت أشعر بمرارة.
وما زاد بلة الطين بلة، هو أننا حينما غادرنا بالسيارة وجدت أثر مشابه، أقرب وأفضل بكثير، ويمكن رؤيته وتفحصه بلا عناء، فلماذا تسلقنا الجبل إذاً؟!.
ربما خير ما في ذلك اليوم هو دخولنا حديقة قرب المتحف، تكثر فيها أنواع مختلفة من الطيور الطنانة، أمنية حياتي منذ أن رأيتها بالتلفاز، كنت بعمر 7 أو 8 سنوات، ورأيتها أخيراً. تأثرت بشدة، إنها من أجمل مخلوقات الله.
بالفندق، تواصلت وأخي الذي يقيم في أمريكا للدراسة، وكنا نتكلم من يوم إلى آخر عبر الانترنت. أخبرته بأحداث اليوم، فجن جنونه، وأصر على أن لا أذهب في اليوم التالي إلا إلى الطبيب، ثم أعود إلى الفندق، حتى لا تصاب قدمي بمكروه. كان يعلم بالتهاب قدمي مسبقاً، وأن الطبيبة في تروهيليو، باتفاق أطباء آخرين حضروا ليروني، قد وجدت أن قدمي ملتهبة بشدة، وكان الجلد منتفخاً وبلون مختلف، وقد قصت الكثير من الخلايا الميتة وقامت بالتعقيم، وأعطتني بضعة مضادات حيوية. لا يزال أثر الجرح واضحاً في قدمي، وأحياناً ينز بعض الصديد.
أخبرت كارلا بأني لا أريد الذهاب غداً للتمشية، أريد الطبيب فقط، وفي المرات القادمة لا أريد أي مرشد ذكر طوال رحلتي، لا أريد سواء إناث لمرافقتي في جولاتي، ولو كانت امرأة في التسعين من عمرها وتحتاج إلى تعضيدي لتمشي. ضحكت كارلا رغم أنها عبرت قلقها على قدمي، ورتبت لحضور أحد في الصباح الباكر لأخذي إلى الطبيب. ثم تناقشنا بأمر الرجال، أخبرتها بأنهم يميلون لعدم المسئولية، والإحساس العقيم وغير الضروري بالمنافسة، كما أنهم لا يملكون المعلومات الكافية ولا الجدية الكافية تجاه الأمر، بالإضافة إلى أن النساء أذكى.
جائت الفتاة الطيبة، التي ساعدتني قرب الانهيار الجبلي، في صباح اليوم التالي، وأخذتني إلى طبيب في البلدة الرئيسية تشاتشابوياس.
وهناك، وجدنا مرشدي في اليوم السابق، وكان متوتراً بشدة، ودخل معنا إلى الطبيب. فحص الطبيب قدمي جيداً، وقال بأنها على ما يرام، لكنها تضررت أمس من الحذاء المطاطي الذي زودوني به وقوة المجهود، لكن لا خطر إذا اتبعت تعليماته. أوقف المضادات الحيوية، ومنع الأحذية المغلقة، والمشي المتعب والتسلق.
حينما خرجنا، سألتني الفتاة إن كنت أريد أن أخرج اليوم في جولة، أخبرتها بأني أريد أن أعود إلى الفندق. كانت قدمي تؤلمني، وكانت تجربة اليوم السابق سيئة. لكنها حاولت إقناعي بأن أذهب في جولة بسيطة، ولن تكون متعبة، لأنها لا تريدني أن أضيع يوما وأيامي محدودة هنا، وقالت بأنها تريدني أن أستمتع بوقتي. سألت إن كنت أريد لويس، مرشد أمس سيء الذكر، الذي يقف بالقرب بتوتر ويتظاهر بأنه لا يسمع، أن يصحبني، أو أريدها هي؟. قلت بأني أفضل لو جاءت هي، إن كانت تملك الوقت وتريد ذلك، وإن جاء لويس فلا بأس، لكني أفضلها هي. ابتسمت، ورافقتني في جولة رائعة. كان معلوماتها عن كل شيء حول المنطقة ممتازة جداً، لم أسأل عن شيء لم تستطع أن تجيبه على نحو مرضٍ جداً. وكانت مثقفة جداً، ومحترمة جداً، ولطيفة جداً، وبدا أنها أعمق تدين ومحافظة حتى من الأخريات اللواتي رأيت، رغم تدينهن نسبياً.
كانت فتاة واسعة الاطلاع، مهذبة على نحو لا يوصف، وخجولة. ومعلوماتها حول المكان غير عادية، إنها تعرف كل التفاصيل، وذات اطلاع كبير على تاريخ المكان الذي تنتمي إليه انتماء صميم.
وقطع المسافات بين المواقع في تلك المنطقة يستغرق وقت طويل جداً، حيث أن الطرق الجبلية ملتوية، وأحيانا تسدها الانهيارات الجبلية بعد موسم الأمطار. لكني استمتعت كثيراً بهذه الرحلات على السيارة، ففضلاً عن جمال المناظر المتغيرة، كانت أحاديث الفتاة ممتعة، واهتماماتها أتاحت النقاش والتحدث المطول؛ حيث تحب الأدب والقراءة.
على جانب الطريق من جهة الجبل، تجد أحيانا الماء ينز من الجدار المحفور على جانب الطريق، وهو منظر بديع يسرني كلما رأيته، ويقنعني بأني سأكون أكثر رضا فيما لو عشت هناك.
ذهبنا لرؤية بعض الأماكن الأثرية المميزة. وبالواقع، ترى الآثار في مختلف الاماكن بالجبال، تُفاجئ بالتماثيل بمواقعه المستحيلة في مختلف الأماكن، أو البيوت الصغيرة التي استعملت للدفن، وأخرى استعملت للسكن، ولا يدري المرء كيف كانوا يصلون إليها، ويعيشون فيها وأطفالهم بمأمن عن السقوط، في تلك السفوح شديدة الانحدار.
في هذه الصور الرديئة، لا أدري إن كان من الممكن تمييز المنازل على جانب الوادي هذا، هي الفراغات ذات اللون الترابي بين الأشجار، وهي بيوت بعض الأولين من حضارة التشاتشابوياس. يصعب الوصول إليها، لكن يصل إليها بعض المغامرين، ربما بحثاً عن الغنائم، أو لمجرد الفضول. وهي تتواجد بكثرة، مثل التماثيل التي تحمل الجثث. كثرة الأثار تشكل عبئاً (!!) على الدولة، فيصعب الحفاظ عليها والسيطرة على شئونها، ورعايتها. وهم يكتشفون المزيد من الآثار المميزة طوال الوقت في مختلف أنحاء البلاد، في الأماكن التي طالها التحضر على الأقل في الأزمنة القديمة (أي باستثناء حوض الأمازون إلى حد بعيد).
أفزعني هذا النوع من الصبار في أول مرة رأيته. فهو عملاق، غير الذي نرى هنا في محلات الزينة وفي الصور. ولونه مائل للزرقة على نحو عجيب، إن أسعفتني قدراتي المتواضعة على وصف الألوان. ينتشر بكثرة على الجبال في هذه المنطقة، وما تطوله أيدي الناس منه تجد مقطعاً بحرفية بسكاكين، ذلك أنه له استخدامات كثيرة، يعالجون به مشاكلهم الصحية، ويحسن الشعر ويكافح بثور الوجه. وهو يزهر على نحو غريب، هذه الأشجار الطويلة هي طريقة الصبار في الإزهار والتكاثر، تصل بالطول إلى بضعة أمتار، وهي تشبه الزخارف، ولكنها زخارف غريبةومثيرة للقشعريرة. وحالما تقضي هذه الأعمدة مهمتها، تموت النبتة.
رأينا كذلك بيوت صغيرة مبنية في تكهفات على السفوح تنتشر في أماكن مختلفة بالمنطقة، وهي عجيبة المنظر، تستخدم غالباً كمدافن. ورغم أن المطر لا يصيبها بفضل موقعها، إلا أنها ذات سقوف مائلة، وهي مسألة رمزية بالنسبة للقدماء.
أما من أغرب الأشياء في البيرو عموماً، هو صنيديقات صغيرة على شكل بيوت، أحياناً تحوي صورة لشخص، أو دمية صغيرة، أو السيدة مريم عليها السلام كما يتخيلونها، ويتركونها مع رسالة أو لويحة أو بلا شيء على جانب الطرق الطويلة. أفهموني لاحقاً بأن هؤلاء أشخاص توفوا في حوادث في تلك الناحية من الطريق، وتترك هذه الصناديق كتذكار لهم. يأسف المرء حينما يرى صور أطفال صغار، لعلهم كانوا يقطعون الشارع إلى مدرسة.
هذه صور متنوعة من تلك المنطقة، قبل أن أتحدث في التدوينة القادمة عن جولتي بالقلعة الأثرية إن شاء الله.
لحسن الحظ، يأتي كمبيوتر قوقل الجديد الذي اشتريت بعرض يوفر لمشتريه سعة تيرا (ألف قيقا) من السعة التخزينية على خدمات قوقل لمدة 3 سنوات، وقد حصلت من خلال الجهاز الذي فسد مؤخراً على مئة قيقا اضافية لمدة سنتين. كنت أفكر دائماً بأني لا أحتاج أكثر من المساحة المجانية، خصوصاً مع وجود 50 قيقا مجانية من خدمة بوكس، حصلت عليها من خلال جوالي. لكني بت أعتمد على نحو متزايد على حفظ أشيائي على الانترنت، وليس فقط النصوص التي أحفظها على الانترنت منذ سنوات طويلة، لكن كل الأشياء الشخصية، من صور وخلافه. وكنت قبل فترة قد بدأت بالقلق، بسبب كميات الصور وأحجامها الكبيرة.
للأسف، لا يستفيد الكثير من الناس من خدمات الانترنت المميزة هذه. أعتقد أن الأشياء الضرورية من الأفضل حفظها على الشبكة، في حساب خاص، بدلا عن هارددسك أو فلاش (كم أضعت من فلاش ضروري، أو فسد فجأة).
الطريق كان رائعاً، وبالواقع، في هذه المنطقة ترى الجمال وتشعر بالروعة أينما وليت وجهك.
ومررنا كذلك بقرية جميلة، اسمها لويا، وهي ساحرة ككل القرى والمدن الصغيرة في هذه المنطقة
كان الوصول إلى الموقع شاقاً، مشينا كثيراً خوضاً في طريق موحل. لكننا انطلقنا من قرية صغيرة للسكان الأصليين، حيث البيوت الجميلة، التي تجلس أمامها النساء يحكن الاقمشة والملابس التقليدية ويتحادثن، بينما يلعب الأطفال هنا وهناك.
كان العذاب ليس في وعورة الطريق فقط، ولا قذارته، لكن في أفكار هذا الرجل الذي لا يكف عن الكلام الذي لا قيمة له ولا يخلو من وقاحة، والتوقف هنا، والتوقف هناك، فهذه فاكهة تستحق الالتقاط، وهذا منظر يستحق التصوير، حيث جاء بكاميرا، وأراد أن يبيعها علي لاحقاً. لقد شككت في اتزانه منذ البداية؛ لحظات الصمت الغريبة، والنظرات الفارغة من عينيه الشفافتين (إذ أنه ليس من السكان الأصليين)، والأفكار التي داهمني بها منذ البداية، والعجب بالذات. حينما وصلنا إلى عمق معين من ذلك الوادي العظيم، مشينا بطريق مستوٍ نسبياً حتى وصلنا إلى الموقع الأثري. وهو عبارة عن تماثيل موغلة في القدم، وضعت في اماكن عصي على الإستيعاب كيفية الوصول إليها، في كهوف أو تجاويف في مكان مرتفع من السفح المنحدر تماماً بزاوية 90 درجة. وهذه التماثيل هي بالواقع قبور، يوجد في كل منها مومياء محنطة بإتقان موضوعة بوضعية الجنين، والتماثيل توضع في أماكن مختارة بعناية، توفر مناخ طبيعي يساعد على الحفض وعدم فساد الجثة، وهذا أمر مذهل، وهي دائما تواجه الشرق. وعلى نحو يزيد من الجو المؤثر للمكان، يوجد شلال صغير ينحدر كالمطر من بين الكهفين الذين يحويان التماثيل، ويهبط أسفل منا مباشرة.
تبدو التماثيل للناظر وكأنها عالقة في حلم لن يتمخض عن شيء، دون أن تدري، أو أنها تأمل شيئاً لن يكون، وهي تنظر إلى الشمس كل يوم عبر القرون وهي تُشرق. هل تأمل شيء لنفسها أم لما في بطونها المثقلة بالأموات.
إنها مثيرة للتأمل، هل وضعت هكذا لتقول شيئاً للناظر؟ وكأني أسمعها تقول بأن اليوم كالأمس، وغداً كاليوم، ومع ذلك، ننتظر...
كنت السائح الوحيد بالمكان. قلت بأني أريد أن أنزل حيث يهبط الشلال، ويوجد ممر ضيق وشديد الانحدار يودي إلى المسقط. بدا عليه التعجب، وقال بأني بالواقع أول سائح يطلب هذا الطلب. سألته إن كان نزل من قبل، فقال لا. وهكذا أصبت أنا بالذهول والتعجب، حيث أنه جاء إلى هذا المكان لمرات لا تحصى. نزلنا، وكنت أنا من يكتشف الطرق المختصرة والسليمة، وكأنما أنا من جاء إلى هذا المكان أكثر مما يذكر. وقد أثار الأمر بشكل ما حنقي. كان الشلال رائعاً بالأسفل، لكنه موقع خطير إلى حد ما، لأنه زلق إلى أقصى حد. بقينا هناك لبعض الوقت، وذهب هو ليأخذ صورة من زاوية معينة، وتأخر.
حينما فرغنا من الجولة، عدنا، وكان الصعود شاقاً، ولحسن الحظ، استأجرت حصاناً في منتصف المسافة.
بالأعلى، أعطوني كيس من مطعم، يحوي غدائي، لكني حينما نظرت إلى الشطرية وجدت فيها لحماً وردياً غريباً، فسألت إذا ما كان لحم خنزير. بدا الاضطراب على المرشد، وسأل السائق، فبدا على الاثنين التشوّش. كنت قد قلت مسبقاً بأني لا آكل الخنزير. قال المرشد بطريقة لم تمكنني من الوثوق به، ناهيك عن عدم ارتياحي له ولتقديره لمعتقدات الآخرين، بأن اللحم بقري. أعطيته للسائق. ولما أردت شرب العصير وأكل الشوكولاته؛ وجدت الأطفال على مقربة، فوزعته عليهم، إذ أثاروا شفقتي.
في الطريق إلى الفندق، ازدادت أحاديث المرشد غرابة، وازداد موقفه قلة احترام، وقد شعرت بأن الجولة اليوم قد فقدت الكثير من قيمتها بسببه.
راسلت كارلا فوراً، وأخبرتها بأني أريد مرشد آخر، وأخبرتها بما قال هذا الرجل، حاولت كارلا لكنها لم تتمالك نفسها فضحكت. قالت بأن أمره غريب، وأنه بالعادة لا يسمح للمرشدين التحدث حول معتقداتهم على هذا النحو. كما شكوت من قلة معلوماته وسوءها، حيث أني قرأت كثيراً وأعرف أن بعض الأمور على خلاف ما يقول. قالت كارلا بأن المشكلة في تلك المنطقة خصوصاً هي قلة المرشدين المحترفين.
باليوم التالي، جاء مرشد آخر، وكان أوروبي السحنة، شديد الثقة بنفسه، وغير مريح على الإطلاق بطبيعته. غير مهتم بالتحدث عن الثقافة والتاريخ هنا، أو حتى الالتفات إلي. ذهبنا بالبداية إلى المتحف المحلي، وكانت لديه معلومات عن بناء المتحف والدولة المساهمة، النمسا، أكثر من محتويات المتحف وتاريخ المنطقة. كنت أسأل للاستزادة حول أمور أعرفها من التاريخ، فيعطيني إجابات خاطئة بارتباك واختصار. وأثار حنقي حينما دخلنا إلى قسم المومياوات (الذي أتمنى لو لم أدخله لمبدأ معين)، فوصف بعض المومياوات للسكان الأصليين بأنها مومياوات "اسبانية". لم أفهم بالبداية، فسألت مستوضحاً، فتبين بأنه يقصد بأنها مومياوات لتلك الحضارة بعد الاحتلال الاسباني، وكأنما هؤلاء القوم أصبحوا اسباناً تلقائياً. هكذا، هل يمكننا القول بأن مسجد بني وقت استعمار بريطانيا لمصر أو الهند بأنه مسجد بريطاني؟، كان منطق متكبر وبالغ الغباء، وبالواقع، شعرت منذ البداية بأنه فخور بنفسه على نحو غير عادي.
كانت المومياوات محنطة بإتقان عجيب، تحتفظ بجلدها، وهي بوضعية الجنين كذلك، مثلما كانوا يصفونها في المناطق السابقة في الصحراء. وكانت أسنانها كلها سليمة، وحسنة الترتيب، وفائقة البياض والحسن التام، ويعود هذا إلى الاستهلاك التقليدي، الذي لا يزال، لأوراق الكوكا، فهي غنية بالكالسيوم، إلى جانب مضادات الأكسدة والمنبهات الطبيعية الجيدة.
إنه لأمر محزن أخذ الجثث من مستراحها، وعرضها للناس بعيداً عن التكريم الواجب للإنسان. كنت لا أنوي مشاهدتها، ولم أطل البقاء في مكانها، لكني أخذت على حين غرة، ودفعني الفضول بعيداً عن الحس السليم. هي عموماً مستورة جيداً، لا تزال بلفائفها القماشية التي دفنت بها.
يواجهون معضلة هناك، إن تُركت المومياوات في أماكنها فإنها ستسرق للمتاجرة كما حدث مع الكثير منها (قبل أشهر، اكتشفت الحكومة المصرية مومياء بيروفية مهربة إلى هناك)، وإن أخذت إلى المتاحف للعرض أثار الأمر إعتراضات أخلاقية من البعض، الذين أشاركهم الرأي. كنا نتناقش كثيراً حول الأمر، أنا والدكتور الألماني، وكنت أخبره عن اعتراضي على عرض المومياوات في مصر، ربما باستثناء فرعون للتوصية الإلهية، لكن لماذا يخرج الآخرين من مستقراتهم ليعرضوا على الناس؟. من يتخيل نفسه بعد مماته وقد أصبح مجرد فرجة.
وما زاد الطين بلة، أنه رتب لوجود حصان لحملي عبر جبل وعر، لرؤية أثر قديم، ولكن الحصان لم يأت، فهوّن الأمر، مع علمه بأن قدمي غير سليمة، وتسلقنا لحوالي 4 ساعات، وكنت أرتدي حذاء مطاطي كتم قدمي وأساء لجرحي كثيراً، وليت الأثر كان يستحق المشقة، كان على بعد كيلو مترات بعيدة، تكاد لا تتبين منه شيئاً، مما خيب ظني إلى أقصى حد. وحينما نزلنا، وخلعت الحذاء، كان جرح قدمي قد التهب بشدة، فناديته، وأريته إياه. بدا عليه نوع من القلق، وكنت أشعر بمرارة.
وما زاد بلة الطين بلة، هو أننا حينما غادرنا بالسيارة وجدت أثر مشابه، أقرب وأفضل بكثير، ويمكن رؤيته وتفحصه بلا عناء، فلماذا تسلقنا الجبل إذاً؟!.
ربما خير ما في ذلك اليوم هو دخولنا حديقة قرب المتحف، تكثر فيها أنواع مختلفة من الطيور الطنانة، أمنية حياتي منذ أن رأيتها بالتلفاز، كنت بعمر 7 أو 8 سنوات، ورأيتها أخيراً. تأثرت بشدة، إنها من أجمل مخلوقات الله.
بالفندق، تواصلت وأخي الذي يقيم في أمريكا للدراسة، وكنا نتكلم من يوم إلى آخر عبر الانترنت. أخبرته بأحداث اليوم، فجن جنونه، وأصر على أن لا أذهب في اليوم التالي إلا إلى الطبيب، ثم أعود إلى الفندق، حتى لا تصاب قدمي بمكروه. كان يعلم بالتهاب قدمي مسبقاً، وأن الطبيبة في تروهيليو، باتفاق أطباء آخرين حضروا ليروني، قد وجدت أن قدمي ملتهبة بشدة، وكان الجلد منتفخاً وبلون مختلف، وقد قصت الكثير من الخلايا الميتة وقامت بالتعقيم، وأعطتني بضعة مضادات حيوية. لا يزال أثر الجرح واضحاً في قدمي، وأحياناً ينز بعض الصديد.
أخبرت كارلا بأني لا أريد الذهاب غداً للتمشية، أريد الطبيب فقط، وفي المرات القادمة لا أريد أي مرشد ذكر طوال رحلتي، لا أريد سواء إناث لمرافقتي في جولاتي، ولو كانت امرأة في التسعين من عمرها وتحتاج إلى تعضيدي لتمشي. ضحكت كارلا رغم أنها عبرت قلقها على قدمي، ورتبت لحضور أحد في الصباح الباكر لأخذي إلى الطبيب. ثم تناقشنا بأمر الرجال، أخبرتها بأنهم يميلون لعدم المسئولية، والإحساس العقيم وغير الضروري بالمنافسة، كما أنهم لا يملكون المعلومات الكافية ولا الجدية الكافية تجاه الأمر، بالإضافة إلى أن النساء أذكى.
جائت الفتاة الطيبة، التي ساعدتني قرب الانهيار الجبلي، في صباح اليوم التالي، وأخذتني إلى طبيب في البلدة الرئيسية تشاتشابوياس.
وهناك، وجدنا مرشدي في اليوم السابق، وكان متوتراً بشدة، ودخل معنا إلى الطبيب. فحص الطبيب قدمي جيداً، وقال بأنها على ما يرام، لكنها تضررت أمس من الحذاء المطاطي الذي زودوني به وقوة المجهود، لكن لا خطر إذا اتبعت تعليماته. أوقف المضادات الحيوية، ومنع الأحذية المغلقة، والمشي المتعب والتسلق.
حينما خرجنا، سألتني الفتاة إن كنت أريد أن أخرج اليوم في جولة، أخبرتها بأني أريد أن أعود إلى الفندق. كانت قدمي تؤلمني، وكانت تجربة اليوم السابق سيئة. لكنها حاولت إقناعي بأن أذهب في جولة بسيطة، ولن تكون متعبة، لأنها لا تريدني أن أضيع يوما وأيامي محدودة هنا، وقالت بأنها تريدني أن أستمتع بوقتي. سألت إن كنت أريد لويس، مرشد أمس سيء الذكر، الذي يقف بالقرب بتوتر ويتظاهر بأنه لا يسمع، أن يصحبني، أو أريدها هي؟. قلت بأني أفضل لو جاءت هي، إن كانت تملك الوقت وتريد ذلك، وإن جاء لويس فلا بأس، لكني أفضلها هي. ابتسمت، ورافقتني في جولة رائعة. كان معلوماتها عن كل شيء حول المنطقة ممتازة جداً، لم أسأل عن شيء لم تستطع أن تجيبه على نحو مرضٍ جداً. وكانت مثقفة جداً، ومحترمة جداً، ولطيفة جداً، وبدا أنها أعمق تدين ومحافظة حتى من الأخريات اللواتي رأيت، رغم تدينهن نسبياً.
كانت فتاة واسعة الاطلاع، مهذبة على نحو لا يوصف، وخجولة. ومعلوماتها حول المكان غير عادية، إنها تعرف كل التفاصيل، وذات اطلاع كبير على تاريخ المكان الذي تنتمي إليه انتماء صميم.
وقطع المسافات بين المواقع في تلك المنطقة يستغرق وقت طويل جداً، حيث أن الطرق الجبلية ملتوية، وأحيانا تسدها الانهيارات الجبلية بعد موسم الأمطار. لكني استمتعت كثيراً بهذه الرحلات على السيارة، ففضلاً عن جمال المناظر المتغيرة، كانت أحاديث الفتاة ممتعة، واهتماماتها أتاحت النقاش والتحدث المطول؛ حيث تحب الأدب والقراءة.
على جانب الطريق من جهة الجبل، تجد أحيانا الماء ينز من الجدار المحفور على جانب الطريق، وهو منظر بديع يسرني كلما رأيته، ويقنعني بأني سأكون أكثر رضا فيما لو عشت هناك.
ذهبنا لرؤية بعض الأماكن الأثرية المميزة. وبالواقع، ترى الآثار في مختلف الاماكن بالجبال، تُفاجئ بالتماثيل بمواقعه المستحيلة في مختلف الأماكن، أو البيوت الصغيرة التي استعملت للدفن، وأخرى استعملت للسكن، ولا يدري المرء كيف كانوا يصلون إليها، ويعيشون فيها وأطفالهم بمأمن عن السقوط، في تلك السفوح شديدة الانحدار.
في هذه الصور الرديئة، لا أدري إن كان من الممكن تمييز المنازل على جانب الوادي هذا، هي الفراغات ذات اللون الترابي بين الأشجار، وهي بيوت بعض الأولين من حضارة التشاتشابوياس. يصعب الوصول إليها، لكن يصل إليها بعض المغامرين، ربما بحثاً عن الغنائم، أو لمجرد الفضول. وهي تتواجد بكثرة، مثل التماثيل التي تحمل الجثث. كثرة الأثار تشكل عبئاً (!!) على الدولة، فيصعب الحفاظ عليها والسيطرة على شئونها، ورعايتها. وهم يكتشفون المزيد من الآثار المميزة طوال الوقت في مختلف أنحاء البلاد، في الأماكن التي طالها التحضر على الأقل في الأزمنة القديمة (أي باستثناء حوض الأمازون إلى حد بعيد).
أفزعني هذا النوع من الصبار في أول مرة رأيته. فهو عملاق، غير الذي نرى هنا في محلات الزينة وفي الصور. ولونه مائل للزرقة على نحو عجيب، إن أسعفتني قدراتي المتواضعة على وصف الألوان. ينتشر بكثرة على الجبال في هذه المنطقة، وما تطوله أيدي الناس منه تجد مقطعاً بحرفية بسكاكين، ذلك أنه له استخدامات كثيرة، يعالجون به مشاكلهم الصحية، ويحسن الشعر ويكافح بثور الوجه. وهو يزهر على نحو غريب، هذه الأشجار الطويلة هي طريقة الصبار في الإزهار والتكاثر، تصل بالطول إلى بضعة أمتار، وهي تشبه الزخارف، ولكنها زخارف غريبةومثيرة للقشعريرة. وحالما تقضي هذه الأعمدة مهمتها، تموت النبتة.
رأينا كذلك بيوت صغيرة مبنية في تكهفات على السفوح تنتشر في أماكن مختلفة بالمنطقة، وهي عجيبة المنظر، تستخدم غالباً كمدافن. ورغم أن المطر لا يصيبها بفضل موقعها، إلا أنها ذات سقوف مائلة، وهي مسألة رمزية بالنسبة للقدماء.
أما من أغرب الأشياء في البيرو عموماً، هو صنيديقات صغيرة على شكل بيوت، أحياناً تحوي صورة لشخص، أو دمية صغيرة، أو السيدة مريم عليها السلام كما يتخيلونها، ويتركونها مع رسالة أو لويحة أو بلا شيء على جانب الطرق الطويلة. أفهموني لاحقاً بأن هؤلاء أشخاص توفوا في حوادث في تلك الناحية من الطريق، وتترك هذه الصناديق كتذكار لهم. يأسف المرء حينما يرى صور أطفال صغار، لعلهم كانوا يقطعون الشارع إلى مدرسة.
هذه صور متنوعة من تلك المنطقة، قبل أن أتحدث في التدوينة القادمة عن جولتي بالقلعة الأثرية إن شاء الله.
لحسن الحظ، يأتي كمبيوتر قوقل الجديد الذي اشتريت بعرض يوفر لمشتريه سعة تيرا (ألف قيقا) من السعة التخزينية على خدمات قوقل لمدة 3 سنوات، وقد حصلت من خلال الجهاز الذي فسد مؤخراً على مئة قيقا اضافية لمدة سنتين. كنت أفكر دائماً بأني لا أحتاج أكثر من المساحة المجانية، خصوصاً مع وجود 50 قيقا مجانية من خدمة بوكس، حصلت عليها من خلال جوالي. لكني بت أعتمد على نحو متزايد على حفظ أشيائي على الانترنت، وليس فقط النصوص التي أحفظها على الانترنت منذ سنوات طويلة، لكن كل الأشياء الشخصية، من صور وخلافه. وكنت قبل فترة قد بدأت بالقلق، بسبب كميات الصور وأحجامها الكبيرة.
للأسف، لا يستفيد الكثير من الناس من خدمات الانترنت المميزة هذه. أعتقد أن الأشياء الضرورية من الأفضل حفظها على الشبكة، في حساب خاص، بدلا عن هارددسك أو فلاش (كم أضعت من فلاش ضروري، أو فسد فجأة).