بسم الله الرحمن الرحيم
أتمشى مؤخراً في الهند، في طريقي لشراء حاجياتنا، وأفكر بأن الأمر متناقض. يبدو أنه مضى علي الكثير هنا، ويبدو أنه لم يمض شيء.
أعلم بأن الوقت في القلب، هذا ما كنت أعتقده ولا زلت، إن القلب يحدد شعورنا بالوقت. لهذا تمضي الأوقات السعيدة سريعاً، ولهذا تبطئ الأحزان على قلوبنا، وتتعملق، حتى يصبح أثرها الأكبر. لكن، لم يعد هذا ما يجري معي، لسبب أعتقد بأني عرفته الآن، وأنا الذي كنت أعتقد بعبثية قلبي، وآليته؛ أعتقد بأن قلبي غير قادر على الشعور بالمدة على نحو دقيق، أو القرار على شعور محدد تجاهها، لأنه مختلط المشاعر عموماً، ويميل إلى السهو، والسهوم بأحداث ماضية، لم يعد لوقتها قياس.
كما أني عموماً لا أملك الإحساس السليم بالأشياء غير المنظورة القابلة للقياس على ما أعتقد. احساسي عموماً سيء بالاتجاهات والمسافات. وهذا مؤشر ربما يؤخذ كعارض دال.
هل ما رأيته هو الهند حقاً؟ هل هو كوتاكال على الأقل؟. ربما سأتسائل هكذا، حينما يمرق الوقت، وأبدأ كالعادة بالخلط.
أعرف بأني رأيت الرياض، والقصيم، وهي أماكن لن يخامرني الشك حيالها أبداً. رغم أن القصيم تبدو خيالية، لأنه يبدو أني أعرف عنها أكثر مما أعرف بالواقع، لأني أعيش امتداد لحياوات أخرى كانت تدب عليها.
لكن، ماذا عن الناس؟ هل هم كالأماكن؟ شعورنا بهم خاضع للوقت؟ هل الخلط في أمرهم، وليس بينهم، أمر وارد بالقدر المعقول؟. يعتمد على الناس. لا زلت لا أنسى علاقات ومعارف عرفتها صغيراً. كنت ربما هامشياً إلى حد يجعلني أتصور بأنهم لا يتذكرونني الآن. بينما أعلم يقينا بأن ذاكرتي لا تخلو من ثقوب.
هل أنا سعد؟ من أنا؟ يحدث أن أنظر إلى المرآة بوعي معين، وأشعر بصدمة، حينما لا أعرف نفسي.
قابلت أناس نسيوني، وأناس كنت أتصور بأنه يجدر بهم نسياني، مع ذلك تذكروني جيداً. عرفت شخص يتظاهر بالنسيان، ليبدي عدم المبالاة، لكنه لا يريد أن يُنسى أبداً، وهذا ما يجعله لا يَنسى بدوره. وهذه ليست مأساة، إنه يدور فقط في حلقة مغلقة، حتى يقرر ما يريد، أو، يخرج عن مساره حين غفلة. مثل الفراش المتورط بالدوران حول ضوء اصطناعي. الفراش، لو مددت له عصا، سيستقر فوقها، وستتمكن من إنقاذه، بإبعاده على النور.
الأشقاء ينسون بعضهم.
هذه المأساة.
مر اليوم سريعاً نسبياً. لم يبدو أنه سيكون كذلك في بدايته. أرجو من الله أن ييسر باقي الأمور، قبل الذهاب. غداً سيتبقى اسبوع على عودتنا.
قررت أن أدلل نفسي قليلاً لأقطع الوقت. سأذهب أكثر لأستخدم الانترنت. بعد العشاء بقليل، أخرج وأذهب إلى حاسب المركز المخصص للزوار، وأفصل وصلة الاثرنت وأشبكها في النتبوك، الذي اشتريته قبل أشهر لأجل هذه الرحلة أساساً بشكل أساسي. تأجلت هذه الرحلة كثيراً، وأحاط بأمرها الكثير من العراقيل. والحمد لله على كل حال. بعدما أفرغ، ولا أسرف في الأمر أبداً، أعود أدراجي إلى الغرفة. في طريقي أجد الرجال مجتمعون يتسامرون، بعضهم على كراسي، وبعضهم على مطارح على الأرض. نادراً ما أجلس، ولم أكن لأجلس لولا وجود المطوع الجديد. صرت أختصر جلوسي حتى مع وجوده مع ذلك. ولم أعد أحاول أن أحادثه لأسري عن نفسي. أخاف أنه سيحسب أني غريب، أو ثقيل. يستدعيني للجلوس وأنا مار، لكنه رجل مجامل بوضوح، وأعتقد بأنه لا يجدني مريح تماماً لكنه يخاف من التسرع بالحكم. ربما لا يعجبه سماعي بجهاز الموسيقى وأنا مار؟. وأنا عائد اليوم، وجدته مع شخص واحد، لماذا شخص واحد؟ لأنه أمس، رحل سبعة رجال بعوائلهم ومرافقيهم، لقد قل عدد الناس، رحل الكثيرون أمس، وفي الأيام القليلة الفائتة. بقي بضعة شيوخ عموماً، وبعض الشباب الشقي. ناداني، وطلب مني الجلوس لسماع "السالفة". جلست ممتثلاُ، ولكني لم أعرف عن ماذا يتحدثون. سرعان ما قام هو لأجل الطبيب، ودخل غرفته. بقيت أنا والرجل الآخر. تكلمنا قليلاً، ثم استأذن منصرفاً، في حين جاء شاب آخر. كان الكثير من الشبان قد ذهبوا إلى حفل غنائي في مكان مجاور، عرفنا عنه لأن صوت الموسيقى هو أعلى صوت لموسيقى سمعته. عاد المطوع الجديد بعد قليل. وذهب الشاب الآخر تاركنا لوحدنا. تكلمنا حول شتى الأمور. عن العادات وهذه الأمور. لديه الكثير ليقوله، بعض كلامه جيد ومقنع، وبعضه لا، لكنه يتصرف وفقاً لعمره، يتكلم ويهتم بأن يتكلم، ولا يهتم كثيراً أن يسمع أو يستوعب بشكل كامل، رغم أنه على جانب جيد من الذكاء، حيث أثق بأنه ناجح ومنتج جداً في عمله وتخصصه، لكن ما أتحدث عنه هو مسألة اجتماعية. علمني الكثير من الأمور الحياتية، اقتنعت ببعضها، وكان قيماً، بعضها لم أقتنع به تماماً، لكني لم أستطع إيضاح وجهة نظري، وبدا لي أنها غير مهمة تماماً. جاء شاب وجلس معنا، وهو هادئ، ويهتم بترتيب مظهره كثيراً ولكن إلى حد محمود. أدخله بنقاشنا، حول الإخوة الصغار، ووافقه بوجهة نظره، ولم يوافقني، كان الأمر واضحاً، وكما شرحت، إن وجهة نظرهم هي النموذجية. يحتاج المرء إلى تفكير، وتجربة، ليتجاوز وجهة النظر تلك، ويتمكن من استيعاب غيرها. كان الشاب أقل دبلوماسية وذكاء في تعبيره. ذهاب إلى حد غير مفهوم من الوقاحة.
كانت جلسة ممتعة إلى حد جيد. دقائق من المشاركة الاجتماعية الجيدة بالنسبة إلي، من ضمن الوقت الطويل هنا.
لكني أعتقد بأني قلت له أكثر مما يجب.
عشنا وضع صعب منذ أمس. ورقة التقرير التي تحتاج إلى تصديق من القنصلية السعودية أصبح وضعها غامضاً. كان مدير المكتب الذي يهتم بالأمر حسب توصية القنصلية، وهو نفس الشخص الذي دعاني إلى منزله، أقول كان متعاوناً ومهتماً جداً. أمس، اتصلوا بالمعقب، الذي أخبرنا بأنه يستلم الآن الأوراق من القنصلية، كما كان يخبرهم منذ الصباح. ثم قال بأن لاحقاً بأنه ختم الأوراق من القنصلية، ولكنه يحتاج إلى ختم وزارة الشئون الخارجية الآن. قلت لأهل المكتب بأن هذا مستحيل، فالقنصلية لا تختم أوراق قبل ختم الوزارة الهندية. ارتبك المعقب حينما أخبروه على ما يبدو، واعطوني السماعة لأحادثه، كان التفاهم معه صعباً، وأخبرني بأن الورقة ستصلني يوم الاثنين أو الثلاثاء جاهزة. سألته عن اسمه، ارتبك، ولكنه اخبرني به. كنت في قمة قلقي، وأنا أشعر بأن الأمر ليس على ما يرام. وظيفة أختي على المحك. طلب مني المدير أن لا أقلق ولا أهتم، وأنه سيحل هذا الأمر، فهذا عمله وواجبه. استنفر موظفيه، وصاروا يتصلون، ويجمعون الأرقام. أخيراً تمكن من الاتصال بمدير في بمبي، ودار نقاش ازداد حدة مع الوقت. لم أفهم شيء، لكنه باللغة الانقليزي شيء عن قلة الأدب. وقد ازدادت لهجته حدة في نهاية المكالمة، ورفع صوته، وبدا الأمر جدياً جداً. أغلق السماعة، وطلب مني القدوم إليه في اليوم التالي قبل الساعة الرابعة، واقترح أن نتصل بالقنصلية معاً. اتصل بالقنصلية قبل الذهاب بوقت، لكن علمت بأنهم في إجازة هناك. ذهبت إلى الرجل وأنا قلق، ولكنه كان مستبشراً، وأخبرني منذ أن رآني بأنها ستصل يوم الاثنين، وخرج من المكتب لأتبعه، وأخبرني بالخارج أنه هدد ذلك الموظف بالطرد، وهدد برفع شكوى إلى الإدارة الرئيسية. مكتب السفر هذا هو الأكبر في الهند، والأكثر انتشاراً. وله فروع في الرياض كذلك وفي جدة مؤخراً. اسمه أكبر ترافلز. شكرت الرجل على اهتمامه. جزاه الله عني خير الجزاء.
انطفأ الكهرباء، ونحن في الواحدة والنصف ليلاً. أرجو أن يعود للعمل سريعاً لأجل التكييف.
الرياض، أين أنا منك؟.
لم تكن الغربة في هذا السوء حينما ذهبنا للسياحة في ماليزيا. طبعاً، اختلاف الأسباب له الدور ربما الأكبر. لكن يوجد جوانب أخرى. سهولة إيجاد الطعام الحلال، جودة المطاعم والأسواق، التحضر، البيئة الإسلامية إلى حد كبير. هنا تسمع الأذان للصلوات غالباً من أكثر من مسجد، مع ذلك، لا يخامرني الشعور نفسه بالطمأنينة مثلما كان الأمر عليه في ماليزيا، رغم الأمان هنا.
أكملت أمس مسلسل فيجن اوف اسكافلوني The Vision of Escaflowne، للمرة التي لا أدري كم. هو مسلسل ياباني مرسوم، وقديم الآن. هو أفضل مسلسل رأيته إطلاقاً، مرسوم أو غيره، ولم أشاهد الكثير من المسلسلات، إذ أني لا أشاهد التلفاز منذ أن كنت صغيراً باستثناء الكرتون والمسلسلات الكرتونية إلى عمر معين، ولا أحمل المسلسلات عموماً من الانترنت ولا أحب مشاهدة الانيمي كما كنت أفعل إلا إن كان جيد ويوافق ذوقي مبدأياً، وليس مسلسل، إنما فيلم. صارت مشاهدتي للأفلام نادرة جداً عموماً، خصوصاً بعدما ألغيت اشتراكي في محل الفيديو، ناهيك عن المسلسلات.
يعجبني عمق المسلسل في عرض المشاعر، الواضحة والخفية، والجانب الأخلاقي في تناول الناس وحياتهم حتى في الفكر. كما يعجبني فيه الفن البحت في التصميم، وفي الإخراج، والموسيقى غير العادية. يعجبني خياله الواسع جداً، ولكن ذو الأساس المقنع. حتى الآليات الخيالية، تشعر المرء أنها مبنية وفق منطق دقيق. كل شيء في المسلسل ساحر. يعجبني التحدث عن حضارة قديمة محقت، حينما تعدى أهلها الحد في الترف، وغيروا حتى خلقهم. الكثير من الشخصيات الرائعة والمثيرة للاهتمام، والكثير من المواقف البديعة والمؤثرة والحابسة للأنفاس. تعجبني الرؤى والأحلام التي تتعرض لها البطلة الرائعة، ويعجبني تغير الشخصية الرئيسية الأخرى باستمرار إلى الأفضل. وحتى تغير البطلة، وتعلمها، وحتى غلطاتها، وضميرها.
مليء المسلسل بالدروس، مليء بالعبر، مليء بالإنسانية، ونقيضها المريع. أحب كون البطلة قد تقوم بأخطاء عادية، لكن لها نتائج وخيمة، أحب التعامل مع نفسيتها بواقعية.
لا يقارن طبعاً بأفضل فيلم شاهدته، أكثر فيلم أحبه، لكن هذا سأتحدث عنه في وقت لاحق.
مع ذلك، يظل الأفضل في فئة المسلسلات، رغم خبرتي الضئيلة.
بقي سبعة أيام غير قابلة للإحتمال.
الشخص، العامل هنا، الذي حصل بيني وبينه اصطدام حينما جئت في البداية، وبعد نهاية المشكلة، وجعل الأمور طبيعية مرة أخرى، أجده يتصرف بغرابة. يحاول أن يكون ودوداً معي بقدر الإمكان، ويخبرني بأنه يريد أن أذكره بالخير، وأن أدعو له. بنفس الوقت، يرمي أحياناً بالتعليقات المغلفة حينما يحدثني، وهو يحب التحدث كثيراً. لا تهمني كثيراً محاولاته، ولست أجده مثير للإهتمام كشخص. لسبب ما، يذكرني بأشخاص رديئون عرفتهم، وإن لم يبدر منه ما بدر عنهم من سوء. لديه ميل إلى الشك بأن الكل يذمه من خلف ظهره، وأن من يمدحونه في وجهه، يذمونه لاحقاً في جلساتهم مع الآخرين. أنا لست أمدحه في وجهه، ولست أذمه من خلفه، ليس لدي سبب، بعدما انتهت المشكلة في ذلك الوقت، وأعطيته عطر مكرهاً. لكني أفاجأ أحياناً برقته، ولا أفهمه. أشعر بأنه لا يرتاح إلي، ويجدني بوضوح شاب غير جيد، كما ألمح إلى بنطلوني البرمودا، بأنه لا يجعل ابنه يطلع على المجلات التي تحوي صور شباب يلبسونه، مع ذلك، يعود أحياناً مظهراً كل المودة، ويساعدني بشكل يستعصي على التوقع، وباهتمام بالغ، ودونما تأخير. أتسائل أحياناً حينما أوليه ظهري، هل ينظر إلي بازدراء وأنا ذاهب، بعدما قلت له بابتسامة:جزاك الله خير؟ كامتنان على لطفه؟. لا يلغي هذا امتناني على خدماته الأخيرة واهتمامه. قال لي قبل يومين، حينما جاء إلى غرفتنا ليطمئن بأن كل شيء على ما يرام بخصوص ثلاجة استبدلت لنا، قال بأنه يريدني أن أدعو له فقط، وأن أكون واحداً يمتدحه من بين العشرين الذين يذمونه من خلفه ظهره. مضى. فكرت بسبب شعوره هذه، والتصريح به؟. شعرت بالعطف عليه.
حينما أشكل الأمر مع الموظف الآخر، حينما تركني أنتظر وهو يقول كلما اتصلت:خمس دقائق. في اليوم التالي، اعتذر الشخص الأول، صاحب المشكلة القديمة معي، وقال بأنه سوا الأمر، وأن الموظف الآخر لم يفهم الأمر جيداً، وأدى ما بوسعه. كنت بالواقع أتوقع بأنه سينظر إلي بازدراء، وسيحرض الآخرين لأن غضبت من المعاملة ولم أخفي غضبي. توقعت هذا من بعد أن أحضر الدكتور، وهو مدير المركز كذلك، إلي حينما حصل الإشكال في أول مرة، وكبر الموضوع، ووجه إهانة بقوله بأن الهند جمهورية ليست كالسعودية، وحاول الحط من قدر السعودية بالتلميح، حتى سألته بغضب ماذا يريد أن يقول؟ ماذا يقصد؟. من بعد ذلك الموقف، وإحضاره للدكتور، وموقف الدكتور نفسه، شعرت بأنه سيصعب علي حب المكان وأهله، بتصعيدهم الطفولي وحبهم للإنتقاد. مع ذلك، يصعب علي كذلك كراهية مجموعة كبيرة من الناس، ومكان واسع. حاول الموظف الآخر بعد ذلك التلطف معي، بعدما أظهر ضيقه، وتفاديته بقدر الإمكان. قالت أختي بأن الأول، والأكبر، ربما أوضح له أن هناك سوء فهم، وأني طيب بالأصل لكن ربما "عصبي". لا لم أكن عصبياً، تطلب الأمر الكثير حتى أفقد السيطرة على أعصابي، ولو لم أفقد السيطرة، لشككت بأن لدي أعصاب. كما أني أشك بأنه ينظر إلى على أني طيب بشكل مجرد. الآخر، حصل على بريدي، وصار ودوداً، وصار من الواضح أنه يريد أن يتعرف علي بشكل أعمق، ويريد أن يتواصل معي أكثر. لم يكن سيء من الأصل، سوا أنه بااااااااااااااارد.
الآخر هو شاب اسمه أمير. طيب وودود. منذ أسابيع، كنت ألحظ أنه يتابعني. جاء إلى عند بركة الأسماك، الصغيرة جداً، وكلمني، يريد أن يتعرف علي. يعمل بالصيدلية، رغم أنه لا يحمل شهادة بالصيدلة. تكلمنا كثيراً، وأخبرني عن أخيه الذي يعمل في الامارات، ويبدو كالاماراتيين، فملامحه قريبة من ملامحنا أهل الجزيرة، ولونه. حيث أراني صورته، بالملابس الاماراتية. سألته لماذا لا يسعى هو أيضاً للعمل هناك؟ قال بأن الناس الذين من "أعمارنا" لديهم الكثير ليفعلوه قبل الإنكباب على العمل الشاق والعيش بعيد عن الوطن والأصدقاء. سألته عن عمره؟ قال 23. فكرت بأن هذا سوء فهم شنيع، ربما لو أخبرته عن عمري سيحصل لديه ردة فعل. كما حدث في الحج، حينما كان الكل يراعيني ولا أفهم لماذا بالضبط، حتى سألني أحدهم عن عمري، ولما أخبرته، قال اثرك عود!!. مع العلم أني لا أبدو صغيراً كشكل، لكن ربما هدوئي يخدع، وربما بدا علي أني سهل الضياع في ذلك الحين. أرسل إلي الصيدلي بريد يحوي صورته، وأراد أن أرسل إليه صورتي. لا أتوقع بأني سأستطيع. لكني أخبرته برقمي في السعودية كما طلب في رسالة أخرى.
ماذا سأفعل حينما أعود إلى الرياض؟ طعام؟ نادي رياضي؟ لعبة ماريو الجديدة؟
بقي 5 أيام تقريباً. ستكون ثقيلة، ورغم أن الأيام الماضية كانت ثقيلة، إلا أن وجود ذلك المطوع، ومحادثاتنا القصيرة المعدودة، كانت تهون الأمر. ما حدث هو أنه اضطر للمغادرة أبكر مما كان ينوي بكثير. هل أنا الوحيد الذي لاحظ سخرية الأمر تجاه حظي؟ الأمر يكرر نفسه دائماً.
لم أكلمه كثيراً، وبالواقع، تفاديته معظم الوقت. لكن وجوده بالجوار كان باعث على الارتياح-أني بين فترات معقولة قد أزعجه بحضوري لأسري عن نفسي وأبدد وحدتي.
كنت أحاول الرد على تعليق بالمدونة، وأنشر رد بالمنتدى حينما تعطل اتصال الانترنت، ويئست من رجوعه، فقمت. كان الوقت في حوالي العاشرة والنصف ليلاً. سلمت على سعوديين وهم جلوس في طريقي إلى الغرفة، قال أبو سليمان، وهو من الجنوب: بكره الظهر بيننا اتصال يا سعد. يقصد حتى نذهب جميعاً لاستلام التقارير المصدقة. قال شاب من أصدقائه: أنا أنصحك ما تماشي جيازنه يا سعد. ضحكوا. مضيت في الطريق المظلم المفتوح، كفناء للمركز البدائي، يستقبلك فيه تمثال رديء لأسد محدق وسيء التلوين، وكان على جانب الممر، بينه وبين الجدار أرض مزروعة بالثيل ومشجرة على نحو خفيف، تتوسط المساحة بركة صغيرة تلوثت في الأيام الآخيرة، واتوقع لأسماك الزينة فيها الموت قريباً، يقف إلى جانب البركة تمثالين رديئين لطيور اللقلق، إحداها انكسرت رقبته وجبرت بالجص. انعطفت إلى جلسة الرجال، وهي في الطريق أصلاً إلى السلم إلى الدور العلوي حيث غرفتنا، وكنت اتوقع أن أرى المطوع قبل سفره، حيث سيسافر غداً. وجدته مع أبو طارق، كويتي وصل مع قريبه بنفس وقت وصولنا تقريباً، وهم رجال كبار طيبين، وحنونين. سألت إن كان يمكنني الجلوس أو أنهم يتحدثون عن مشاريعهم؟ كنت أداعبهم بخصوص موضوعهم في المرة الفائتة. جلست. وتكلموا، وتكلموا، وتكلموا. انضم رجل كبير على عربة، جاء به ابنه، ثم جاء أبو جراح، الكويتي الآخر، الذي جاء مع ابو طارق. على وجه أبو جراح مسحة رزانة وحكمة، وحزن. سألني عن حال أهلي، كما هي العادة. واصلوا كلامهم، جاء الأبن الآخر للرجل الكبير على الكرسي. تحدثوا عن الفرق بين الكويت والسعودية، من حيث تسوير المراعي والصحراء، ومجلس الأمة، والفساد والالتزام، وأمور أخرى وجدتها قابضة للنفس، ومملة، تحدثوا أيضاً عن المواشي. تحدثوا عن جريمة المرأة التي أحرقت الخيمة، حيث يقام زفاف، وكانت فاجعة أشبعتها الجرائد متابعة. رحم الله أموات المسلمين. مضى الرجل صاحب الكرسي، ثم استأذن أبو جراح، وسلم عليه المطوع مودعاً، بينما ينوي أبو طارق رؤيته غداً، وجاء ابن الرجل الكبير وسلم عليه كذلك. في وسط سلام هؤلاء عليه، كنت جالس على الكرسي أفكر؛ هل سيمكث قليلاً؟ سيعود ويجلس على الكرسي لنتكلم؟. لكني في النهاية وقفت، وأنا أقول لنفسي: ليكن لديك كرامة. كان سيذهب على الأغلب. مر وقت وأنا واقف، انتظر الرجال الآخرين يفرغون من السلام عليه. كان ابن الرجل الكبير يعطيه رقمه في السعودية، وهو من القصيم، ويطلب منه إعلامه بأي خدمة يحتاجها، أو حتى إن أراده أن يرسل إليه "كليجا"، ولم يكن يمزح. كان هذا المطوع قد اكتسب شعبية كبيرة، ومودة غير عادية، في وقت قصير، دون أن يبذل الكثير، ما شاء الله. وهذه علامة طيبة لأجله. التفت إلي أخيراً وصافحته مودعاً، تبادلنا بضع كلمات مبتذلات، ومضيت.
نستعد باكراً لسفرنا، كلنا لا نطيق الصبر على العودة. أمي لديها السبب الأكبر، أخي عاد من أمريكا للزيارة قبل أيام.
كم كنت سخيفاً حينما كنت صغيراً. كنت أتمنى الذهاب إلى أمريكا، وأتمنى أن أرى دزني ورلد، والملاهي الأخرى، والشراء ورؤية الطبيعة. كنت آمل أن ياخذني أخي الاكبر إلى هناك، حيث كان قد وعدني، وعود الكبار. يوجد أماكن أجدر في رأيي الآن، مع ذلك، لا يهم إن رأيت أي منها.
إن فتح علبة مشروب غازي هنا تشكل حدث ذو عواقب. النمل عجيب هنا، أنواعه كثيرة، ويظهر من العدم، و مزعج وجريء. سقطت نقطة أمس من الفانتا على البلاط، نقطة، جمعت نمل لا عد له. اليوم، لم أوقع أي نقطة، لكن رائحة المشروب جذبته. ووجدت نملة تقف أمام العلبة على رجليها الخلفيتين تقريبا(نملهم حقاً عجيب) وتتطلع إلى العلبة مفكرة. سبحان الله، أحياناً أرى النمل هنا يقوم بحركات عجيبة، خصوصاً نوع منه. بينما لهى بعض النمل يبحث في أماكن أخرى. لم أكره النمل في حياتي، أحبه. لكن نملهم يجعلني أعيد النظر. كذلك النمل الأفريقي الذي ظهر في بعض مناطقنا فجأة العام الفائت، رغم أنه قل عدده، ولا أتوقع أن يستوطن فعلاً، إلا أنه كان مؤذي، وإن بطريقة مختلفة. لم يكن بصراحة يجتمع على الأكل أو يؤذي من هذه الناحية، لكن يشق بعناد وقوة شقوق في ملتقى الجدار والارض و بين بلاط السيراميك، ويعض بلا تردد لو وجد أحد في طريقه(أفريقي حِمِش صحيح). لا يعض النمل العادي في السعودية، يعض فقط النمل الكبير الأسود(القعر)، وهو حشرة خبيثة وكريهة، خلافا للقعس، وهو نملة سريعة جداً، ذنبها مرفوع لأعلى. ولكن هذا النمل كله نادر في البيوت، باستثناء النمل الصغير البريء.
وجدت اليوم ابو سليمان يتمشى مع ابنه يزيد، وهو صغير ربما عمره سنتين. حملته وقبلته. كم أشتاق إلى المحمدين وسلاف...
لا أدري لماذا، صارت تخامرني ذكريات بعيدة كل البعد مؤخراً، على وتيرة مستمرة. عن طفولتي المبكرة. الصف الثاني الابتدائي وما قبله. اصدقائي واصدقاء ابن خالي الذي كان يدرس معي، المدرسين اللعناء والطيبون، الأحداث السخيفة الأهم من الموت والحياة، كل ذلك الشيء المنطقي بالفعل. لا أنسى مدرس الرياضيات العصبي، أو القراءة، أو القرآن الطيب، وصيحته المميزة: حوشآآآآآآآآن. رحمه الله. أو مدرس العلوم، الذي كان يسميني بما يوافق رؤيته لي: حوسان. كانت قد حدثت مشكلة في شتاء السنة التي درست في الأول الابتدائي، أعتقد بخصوص قفازات ضاعت. جاء مدرس العلوم، ورفعني وطبع وجهي بالسبورة المليئة بالطباشير، ثم أدارني وهو يحملني إلى الطلاب، الذين انفجروا ضاحكين،،، لا، كان الصف الثاني الابتدائي، أبغض سنة. لا أحمل ضغينة تجاه هذا المدرس، ولم أحمل، كان طيباً جداً. ما لم أطقه أبداً هو الاستاذ نعمان في الأول الابتدائي، لا بارك الله فيه. أما الأستاذ الهاجري، مدرس الدين والقرآن في الثاني الابتدائي، فياله من إنسان. أمر مضحك، ماذا كنت أقول أكثر من تفاهات ليجدني مسلياً؟ كان حينما يفرغ من الدرس يستدعيني دوناً عن الطلاب كل مرة، وينشغل الجميع بالتحادث واللعب. ويحادثني، ويضحك. كان يقترح أن أذهب معه إلى البيت، لأرى أولاده. ويسألني إن كنت أحبهم؟. حدثت مشكلة ذات مرة، أنا وصديقي الحميم، العزيز مالك، تشاجرنا حول مكان الجلوس. لا أدري لماذا، لكن كل منا ادعى أن هذا مكانه. استدعانا الأستاذ الهاجري، ولم يستطع التوصل إلى حل، فوضع قرعة. وضع في يده قطعة متناهية الصغر من الورق المسفوط وقبضها خفية، من يعرف الإصبع الذي يخفيها يحوز المكان. كنت أول من سيختار، وضعت اذني ببساطة على يد المدرس، وصرت أضغط أصابعه حتى أسمع الورقة، في حين كان هو غارق بالضحك. اخترت، واختار صديقي، وفزت أنا بالقرعة. لم يرد صداقتي مالك بعد ذلك لوقت، لكن لا أدري كيف حللنا الأمر، وعدنا أصدقاء. كان مالك قوي الشخصية في ذلك السن. يوجد كذلك باسم، أو باسل، وهو صبي يمني، كان زميلي في الأول الابتدائي، كان أطول مني، وهو هزيل جداً، بجبهة كبيرة، وشعر ملفلف كخويتمات صغيرة. عاقبه الأستاذ نعمان بأن جعله يقف في آخر الصف، حيث توجد مساحة شاسعة. كنت ألتفت وأؤشر إليه أن يعود إلى مكانه بهدوء، لكنه يرفض خوفاً. حاولت إقناعه، بينما الدرس يتواصل. قمت بالنهاية وجريت بأهدأ ما أستطيع وسحبته من يده، بينما جلس على الأرض، أو على قدميه، جررته بسرعة حتى وصلنا. كان الأمر وكأنه تم في جزء من الثانية. كنت أظن المدرس لم يلاحظ، لأنه لم يقل شيئا واستمر بالشرح. لكن أعتقد بأنه لاحظ وصمت.
أتذكر أن باسل كان معجب جداً بشعري، ويسألني ماذا أفعل به ليبدو هكذا؟. ربما لأنه كان يبدو نموذجياً كالشعر في أفلام الكرتون، الذي يغطي الجبهة. حينما حلقني والدي، ولم يكن يرضى بغير الحلاقة، كانت حسرة باسل على الشعر كبيرة.
قالت أمي بتهول قبل أيام، وهي تعبث بشعري كما تحب أن تفعل: "يا جوده جودااااه ما شا الله.” ثم تضيف بنبرة بين السخرية والأسف: "غاذيه”. لم أتمالك نفسي، وضحكت على هذه الكلمة الشعبية وموقعها، كما ضحكت أختي. لأمي نظرة شعبية في الشعر. فالشعر القوي برأيها ورأي جيلها، الشعر القوي والكثيف، هو الشعر الجميل. المقاييس مختلفة الآن، يريد الناس شعر آسيوي باسترساله اوروبي بخفته، لهذا يفرد حتى الشباب شعرهم. مشكلة أمي مع شعري أنها تعتقد أنه في غير موقعه على ما يبدو. أحاول أن أسعدها أحياناً باقتراح أن تقصه بنفسها حينما يكون طويل قليلاً وتلح علي بالذهاب إلى الحلاق، لعلمي بأنها ترغب أن تعبث بشعري على هذا النحو. لكنها ترفض، لا تجرؤ. أخبرها بأنها لو افسدته فسيصلحه الحلاق، لكنها ترفض مع ذلك. رغم أنها في وقت من الأوقات كثيراً ما صرحت بهذه الرغبة.
عودة إلى الموضوع الأول؛ كان هناك الكثير من الصبية الأشرار، رويد، وابراهيم فرحات، كانت مشاكسات إبراهيم هي قصة حياتي. أجد نفسي أبتسم حينما أتذكره الآن. كان هناك ذلك الصبي الجميل، الذي تعرض إلى حادث، وعاد برجل مكسورة بعد وقت طويل(ربما لم يكن الوقت طويلاً، لكن حسب رؤية القلوب الصغيرة) وحينما دخل الفصل، خطى خطوتين بالعكاز، ثم توقف وأنزل رأسه وبكى.
لم أدرس هناك إلا سنتين، قبل أن يقرروا نقلنا قسراً، نحن من لا نسكن سكن الخارجية، إلى مدرسة أخرى. حينما أذهب إلى هناك، السكن، لأوصل أهلي إلى المستوصف في المرات النادرة، كنت أذهب أتمشى إلى مدرستي القديمة. تبدو أصغر مما كانت عليه. لا يتاح لي الدخول. لكن بوسعي تذكر صيحاتنا في الطلعة، حينما نختار الطريق الواسع، أو رؤيتنا نخرج عبر الطريق الضيق المختصر، خلف المقصف."طلعه طلعه، واللي نايم يصحى".
اللي نايم يصحى. أنا نائم.
أيقضوني...
قّلبوني...
اجمعوا شتاتي...
لملموني...
من انتثاري...
من انكساري...
من شرودي...
من انهياري...
اعتذروا إلي...
واعذروني...
اغفروا لي...
واستسمحوني...
على الجبين أو الخد قبلوني...
وهدئوا روعي باحتضاني...
أنعشوا قلبي...
ارحموني...
وأنجدوني...
أنجدوني...
يا له من يوم. لم يكن الأغنى بالأحداث، لكنه كان جيداً. استلمت أخيراً التقارير التي تركتها في المكتب للتصديق، يا له من هم انزاح. هذا جعل اليوم مريحاً جداً. بقي فقط الحصول على الأدوية التي سنأخذها معنا، و التقارير التفصيلية التي لن نصدقها في السفارة. نسافر فجر الاثنين إن شاء الله، بقي 4 أيام. غالباً سنعاني في الطائرة، إلا لو وفقنا الله بمضيفات متفهمات، وجنبنا وجود المضيفة المجرمة كمال، ومكنني من الحصول على مكان لأهلي خلف حاجز الدرجة الأولى، لتمد أمي رجليها في طائراتهم شديدة الضيق. هي فقط ستة مقاعد في ذلك المكان، كل ثلاثة متجاورة، أريد ثلاثة متجاورة منها، وأنا يمكنني الجلوس خلفهم. أتمنى أن يتفهموا بالمطار حاجتنا.
هل ستسير الأمور على ما يرام؟.
لسبب ما، أشعر أن الخميس والجمعة المقبلين سيكونان يومين ثقيلين، أثقل من السبت حتى. أمر مضحك، قد تنعكس الآية.
أشعر بأني قد قلت شيء خاطئ جداً لأحدهم دونما قصد، وربما أخذ انطباع خاطئ.
ذهبت أمس إلى المستشفى القريب، مستشفى طب حديث كمستشفياتنا، أبحث عن دواء بدأ ينفد لدينا. سألتني الفتاة الصيدلانية عن اسمي، فسألت إن كانت تريد اسم لتسجله على الفاتورة؟ لكنها لوت شفتها وكأنها لم تفهم وأكملت عملها. فوجئت بسعر الدواء الرخيص جداً. هو نفس المادة التي أريد، ولكن من شركة هندية. الشريط الواحد يباع لديهم بما يوازي ريال وبضع هللات منه. اشتريت شريطين بريالين وربع تقريباً. دائما ما أفكر بعجز شركات الدواء لدينا. أفكر، لماذا لا تنتج الكثير من الأدوية لدينا؟ نحن لدينا النسبة الأعلى من مرض السكري مثلاً، لماذا لا ننتج أدويته؟ والضغط؟ والأدوية التعويضية؟ والكثير غيره. كما أفكر بشركات الألبان الضخمة لدينا، من الأضخم في العالم، لماذا لا تنتج حليب أطفال؟!. لماذا علينا أن نستورده ونحن لدينا وفرة من الحليب. لقد وجدت حليب أطفال يأتي من الأردن حتى، وبالتأكيد ليست لديهم مزارع وأبقار مثل ما لدينا.
الكثير من المنتجات نكتفي باستيرادها. ولو لم تشتري دانون الفرنسية شركة الصافي لدينا، لما رأينا الكثير من المنتجات الجديدة.
سألني سائق هندي اليوم إذا ما كنت كويتياً؟ جيد، هذا تغيير عن المعتاد؛ اماراتي. لا زلت أستغرب تخميناتهم الخاطئة رغم أن السعوديين هم الأكثر.
جاء رجل جديد، لم أره من قبل. وجدته يتأملني كثيراً، وتبدو نظرته غاضبة في تلك اللحظات. فوجئت اليوم أنه أخ المطوع الجديد، الذي رحل قبل أمس وحكيت عنه هنا كثيراً. لا يوجد أدنى شبه، وهو سيرحل قريباً أيضاً كما فهمت. سبحان الله. وجدت أنه يبدي اهتماماً بمحادثتي. تحدثنا عدة مرات، وجدته ذكياً وهادئاً، لكن مختلف من حيث الشخصية والطباع عن أخيه أشد الاختلاف. أخبرته بأنه لا يشبه أخاه، فاستغرب، قال بأن كل من رآهم يظنهم متشابهين، لكن ربما لأنه يحلق لحيته؟(يتركها سكسوكة قصيرة). قلت لا، لا يوجد شبه. حينما فكرت، وجدت أن الفرق كبير، لا يتشابه الرجلان إلا بالشفتين. نزلت اليوم وقد كان مع اثنين، رجل كبير وابنه، شاب في ثلاثيناته على ما يبدو، وهم من القصيم، الرس تحديداً. أخبر الابن والده بأني دكتور محاضر في الجامعة!! وهو يريد أن يضحك، كان على ما يبدو يشاكسني، صححت بأني مترجم فقط. لفت هذا انتباه أخ المطوع الجديد، وعرفت بأنه درس الترجمة ولم يكمل في جامعة أخرى. أخبر الرجل القصيمي والده أني من القصيم أيضاً، من المذنب. قال الوالد، الذي يسير بصعوبة بمساعدة عربة مشي، ونعم. كلمني بصيغة أرق، وهو يحكي، يقول: يا وليدي. لم يطل مكوثه، ذهب مع ابنه لينام. وبقينا وحدنا نتحدث كثيراً. عاد الابن، راح، عاد، راح، ونحن نتحدث. بالنهاية، عرض على جليسي فقط مرافقته إلى الشباب الجالسين هناك. رفض بأدب، وقال بأنه سينام قريباً. تحدثنا بعد ذلك لوقت جيد. وكان النعاس واضح عليه وهو يقاومه، لكن كلينا كان مستمتع بالجلسة. بطبيعة الحال، كنت أستمع أكثر مما أتحدث بكثير. غالباً ما كان الأمر هو ردود فعل على ما يقول، أو تعقيبات، وكان مستمتع بالتحدث بأحاديث ممتعة. عاد الشاب مرة أخرى، لكن قبل أن يقترب للجلوس، وقف الرجل، وودعنا، مخبرني بأنه لا يسهر إلى هذا الحد بالعادة.
فوجئت بأن عمره أصغر مما توقعت اليوم بكثير، وشرح لي بأن الشيب عبارة عن جينات موروثة. قال بأن عمري لا يبين علي، ابتسمت. تنظر أمي بتهول إلى الشيب المختبئ في رأسي كل يوم تقريباً حينما تعبث به. سألني عن عمري؟ وقال باسماً بأنه لا يبين علي. ابتسمت. عمري في الملف الشخصي، وهو يبين لمن لا يشعر بالنعاس.
أعادتني أمي إلى طفولتي في لحظات كثيرة خلال هذا الشهر. أشياء صغيرة. تعدل وتمسمس الفنيلة من الخلف لتواسيها، بطريقتها القوية والحازمة، حينما تفعل هذا أشعر بأني عدت إلى عمر مبكر، في لحظات كانت تفعل هذا بالفعل، في سوق، أو في بيت ناس، بنفس الطريقة. توبخ عند الطعام بطريقة مختلفة. هي دائما ما توبخني بالحقيقة، طوال عمري، حول الأكل، أني لا آكل ما يكفي، أني لا آكل أشياء صحية، ولا تلاحظ حينما يرتفع وزني. لكن هنا صار الأمر مختلف، ربما لوجودي بالصباح، حيث يأخذ الوضع طابع متخوف وأشبه بوضع الطوارئ. اكتشفتني أكثر من مرة أدوخ وأنا أقف، وتسود الدنيا في عيني، أفقد القدرة على الكلام. لكنا اطتشفت متأخرة لحسن الحظ. حينما أعود إلى الرياض، لن يحدث هذا إن شاء الله.
لا يوجد لدي كتاب أقرأه الآن، ولا يوجد فيلم أو مسلسل. بقي أربعة أيام تقريباً. متى تنقضي؟. أتسلى أحياناً بقراءة مدونتي القديمة، إذ أحتفظ بنصوصها في ملف. أجد أشياء مثيرة للاهتمام، أشياء نسيتها. أحياناً تكون أشياء بعيدة من الطفولة، نسيتها الآن، ولكن لم أكن قد نسيتها حينما كنت أدون في مدونتي السابقة. طبعاً، أضحك على نكتي البائخة، لا أحطم نفسي.
لا أعتقد أني سأتمكن من الذهاب إلى العمل في يوم الوصول. يجب أن أتمكن من ذلك قبل الحادية عشرة، وإلا فلن أذهب إلا في اليوم التالي. اختي محظوظة، قالوا لها أن توقع حضورها في اليوم التالي فقط وتنصرف. مع ذلك، أجد أني بقدر ما أريد أن أرتاح، بقدر ما أشتاق إلى العمل.
سمعت اليوم أن الرجل الهندي الذي اصطدمت به في أول الأيام له أعمال غريبة. يعرض الزواج من فتيات بمقابل على الرجال كبار السن من الخليج.
لا أدري لماذا في هذه اللحظة أعجز عن التفكير في أي شيء غير الرياض؟.
اليوم هو الخميس، وفي الاثنين الذي يليه، موعد سفرنا فجراً. ما حدث هو، أنه خطرت في بالي أنا وأختي فكرة ونحن نتحادث. كانت أمي ستنهي فترة علاجها اليوم، بينما ابنتها سنتهيها يوم السبت. ماذا لو قدمنا موعد سفرنا أكثر؟. شجعتني بحماس وخرجت إلى مكتب السفر دون أن أتناول شيء. هناك، شرحت الامر، وأعطوني خيارين، السفر يوم السبت فجراً، أو الأحد في الواحدة والنصف ظهراً. شاورت أختي، اتفقنا على السبت، لكن هكذا لن تحصل ابنة أختي على جلستها الأخيرة من العلاج. أخبرته أني سأستشير الطبيب. عدت، استشرته، لم يخالف، بالواقع، ستكون ابنة أختي قد تعدت أيام العلاج المقررة. أخبرت المكتب بأني أريد الرحيل يوم السبت. يا الله، كم فرحنا، كم جذلنا. لكن المكتب اتصل، وأخبرني بأن علي أن أدفع غرامة 4000 ربية لشركة الطيران هكذا، وهذا يساوي حوالي 400 ريال/درهم(خلاص اماراتي). لم أفهم لماذا، فأعطوني المدير، الذي دعاني وأخذني إلى منزله للشاي من قبل. أخبرني بأن سبب هذا هو تغيير الحجز قبل موعد السفر بأقل من 3 أيام. وقال بأنه يمكنني تفادي هذا بالذهاب بعدها بيوم، أي الأحد ظهراً، ونصحني بذلك بشدة. بدا الأمر محبطاً، استشرت أختي وأمي، وتناقشنا، اتصل بي المدير، ونصحني مرة أخرى بجعل الحجز يوم الأحد. أكملنا النقاش، اتصل المدير مرة أخرى، وقال بأننا لو ذهبنا الأحد لكان أفضل، فالرحلة ستكون مباشرة بين كاليكوت(حيث المطار) والرياض، دون المرور المرير والتوقف في مسقط، دون حتى رؤية مطارها. كان عنصر شديد الإغراء. هكذا، ستحصل ابنة أختي على يوم آخر من العلاج، وسنذهب مباشرة إلى الرياض إن شاء الله، وسنغادر المستشفى حيث نقيم في الصباح وليس في الحادية عشر مساء، وهذا بالذات أمر يهم أختي، فهي خوافة. بالمقابل، كنا قد "شوافنا" للذهاب يوم السبت، وبدأنا نفكر إن كان الفرق كبيراً بين الأحد والاثنين، لكن لا يهم لأن التغيير مجاني تقريباً(علينا أن ندفع 40 ريالاً لخدمات المكتب). وخطر في بالي أن الرحلة ستكون أقصر، وإن كان فهمي صحيحاً لعذرهم للنزول في مسقط، ستكون الطائرة كبيرة، وربما أفضل، بدورات مياه أكثر(قبل شهر، منذ أن رحلنا من الرياض إلى أن وصلنا كاليكوت والناس ينتظرون دورهم لدخول الحمام). اتكلنا على الله، وقلنا الأحد نذهب. يظل أمر جميل أن نسبق الموعد مع ذلك. ولو كان فهمي صحيحاً، يبدو أن الدكتور قد تورط حينما ألزمنا بالبقاء لـ30 يوماً على الأقل حينما شاورته لأول مرة بعد أيام من وصولنا، قبل أن أحرك تاريخ المغادرة أقرب، ربما كان يجدر بنا الذهاب الجمعة أو اليوم حتى.
لم يبقى الكثير، لا من الوقت، ولا من الواجبات. أخذت الأدوية اليوم التي سنأخذها للسعودية معنا، بقي خمسة قوارير، غداً إن شاء الله. رتبنا الحقائب بحماس، بقي التقارير وأنا موعود بها غداً إن شاء الله.
ربما ما لا يمكن التنبؤ بأمره هو حجز المقاعد. أحتاج إلى مقاعد في مكان معين لراحة أمي. سيعينني الله.
الحقيبة، نسميها شنطة، وفي الساحل على الخليج العربي يسميها الناس جنطة. قال الكويتي الطيب أبو جراح لصاحبه، بأنه وضع التقارير بالجنطة أو بجانبها أو شيء من هذا القبيل. تخيلت أنه يقصد امرأة مخبولة بالجنطة (جنط=رجل غبي/مخبول)
ذهبوا ولم أودعهم. أشعر بمرارة، لقاء طيبتهم لم أودعهم. لم أكن أعلم أنهم سيرحلون مبكراً وفجأة.
الهنود هنا لهم طريقة عجيبة بتحوير الأسماء. لن أشرح، ولكن سأعطي مثال. يوجد هنا شخص اسمه عبدالستار، كاختصار، يسمونه ستار، ولكنهم لا ينطقونه هكذا، إنما يقولون: ستّارِه. آخر اسمه ناصر، يسمونه: ناصرِه. أمير:أميرِه. كلها بكسر الراء، الذي أصبح قبل الأخير. لكن الجيد أنهم لا يفعلون هذا مع غير الهنود. صرت مثلهم بالواقع، حينما أسأل عن أحدهم صرت أجد نفسي تلقائياً أفعل المثل، وبنفس نطقهم الخفيف والسريع، فهذا يجعلهم يفهمون بسرعة ما أقصد.
صار يقال لي دائماً بأني أبدو مرهقاً، حتى لو لم أكن أشعر بإرهاق كامل. لكن لا بد أني مرهق بالفعل.
سنعود إلى الرياض عصراً إن شاء الله، يا للطف الرياض في العصر. أحد المحمدين، ذو الشعر الملفلف، سيكون بإنتظارنا، هذا الصبي يفعل أشياء عاطفية غير متوقعة دائما. ثم محمد الثاني، ذو الشعر المسترسل، ربما سيشتاق إلي هذه المرة.
أتذكر تسمياتي لنفسي، أو الألقاب التي منحتها لنفسي، على الانترنت. كان بعضها غريب، ورأيته يتكرر بعدما استخدمته. ليس بالضرورة لأنه جيد ومبتكر، لكن ربما لفرط عاديته خطر على بال شخص آخر. لقبت نفسي ذات مرة باللغة الانقليزية:ملاك متنكر. كان لهذا اللقب دلالات على وضع معين في ذلك الحين. كما أسميت نفسي مرة: نوماس. وهو الشيء الطيب أو الفأل الحسن. سعد الحوشان كان أفضل اسم اتخذته، اسمي الحقيقي. أسميت نفسي في منتدى ذات مرة:سعد الحوشان. وكتبت أسفله: زوبعة في فنجان. كنت أريد أن أدلل على أني قد أبالغ، أني قد أثور، قد أريد، قد أحاول بأقصى ما أستطيع، لكني بالواقع لم أكن ذو قدرة حقيقية. كانت لي شعبية جيدة في ذلك المنتدى. كتبت بعد ذلك أسفل اسمي: الجني المغني. لقب أمي كانت تعطيني إياه، في مناسبات مختلفة، "كانت". أحببت التقدير الذي حظيت به في ذلك المنتدى، قبل الأحداث السيئة التي جرت، لا سامح الله الظالمين.
إذاً، هذه آخر تدوينة أكتبها هنا، في الهند. بعد غد، ظهر الأحد، سنعود إن شاء الله إلى المملكة الحبيبة. المملكة الحبيبة...
أعطينا البعض هنا هدايا مالية قبل الذهاب. بقي شخصين. أعطيت الرجل ذو المشكلة الأخيرة معي، والذي عاد يصحح الأمور، وقد فوجئ، وفرح جداً، ولم أنتظره ليشكرني، أوصلت جهازي بالانترنت ودخلت. جاء بعد قليل، وشكرني بارتباك. خمنّا بأنه لم يتعود أن يعطى. فهو شاب أصغر من الآخرين، ولا ذكر له كالآخر، الذي اصطدمت به، أيضاً، في بداية الرحلة. هذا أيضاً سأعطيه. كان قد ألمح بشكل ما، بالإضافة إلى أنه أبدى اهتماماً كبيراً بحاجاتنا بعد المشكلة، كما أوضحت. اقترحت إعطاء فتاة بالصيدلية بعض المال، لأنها كانت ودودة، ومهتمة بعملها. أحياناً تأتي بالدواء بنفسها، وتستفسر من الطبيب بخصوص أدويتنا بنفسها، كما أنها جائت ذات مرة مع زميلتها إلى غرفتنا لتتأكد من ملائمة دواء صرف لنا، بعدما تأخر الوقت وكان من المفترض أنهن لا يعملن.
أدعوا لنا بالوصول سالمين.
سعد الحوشان