بسم الله الرحمن الرحيم
حينما يقول المرء: فن. ماذا بالضبط يمر في ذهن المستمع؟ للأسف، حصر الفن لدينا في شيئين، أحدهما رديء في معظمه، والآخر بشكل مناقض أمر إيجابي. حينما نقول فنانين فإننا غالباً ما نتخيل الناس الساقطين في عالمنا. ولكن حينما يتقن أحدهم حرفة معينة، أو يكون موهوباً على نحو استثنائي في أمر ما، مثل الخط العربي، فإننا نقول بأنه فنان فيه.
نحن لا نسمي الأناشيد الإسلامية فناً، ولكن نسمي الزخرفة الإسلامية فناً. الفرق هو أننا لا نريد أن يقارن الناس بين الأناشيد، وما صار يدعى فناً، وإن لم يكن كله فن، ألا وهو الأغاني. لقد سقطت الأغاني العربية سقطة موجعة، وهي في تدهور وضياع هوية. ورغم أن الأناشيد الإسلامية ذات هوية واضحة، إلا أنها لم تتطور، ويمكنني القول بأنها كذلك في تراجع شديد. ولاعجب، فما الذي يتقدم أصلاً لدينا، والحصر غير المبرر لموضوعات الأناشيد يسيء لها بشدة، كذلك، نوعية الأصوات عموماً واللحن غير المؤثر مع بعض الحالات الاستثنائية. كانت الأناشيد من قبل تبحث عن الكلمات المؤلمة المروعة، والأداء المنتحب بفجاجة، ولما تطور الوضع قليلاً، صارت الأمور سطحية مع الأسف، يضاف إلى هذا الأداء السيئ بالكلمات العامية، والموضوعات السخيفة المقصية للناس. سمعت ذات مرة انشودة تحث على لبس الثوب، وعدم لبس الجينز مثل النساء، ممثلين بذلك بأن كل من يلبس الجينز هو في دائرة الشك في هويته الجنسية أو النفسية، وكأننا لا نرى بأن الشعوب الشقيقة تلبس الجينز كل يوم كلباس عادي وطني. وفي هذا إقصاء ضيق الأفق لكل من يلبس الجينز، وخلق شقاق سخيف، بعقليات لا ترجو منها خيراً في الصعود بهذا الفن الذي يفترض بأن يكون راقياً، ولكنه هابط بأكثر من وجه. إنه لا يخاطب كافة الناس، ولا حتى المطلعين منهم، لقد صار يحتاج إلى وقفة حتى لا يصبح سوقياً. ما أحيا الأمل في نفسي، هو أني بينما أشاهد مسلسل أجنبي(الياباني مرة أخرى)، كانت موسيقى الخلفية عبارة عن اوركسترا، وكورال ضاج جميل، ومقاطع أوبرالية. في لحظات معينة، صفى الصوت على مجرد رجل يلقي لحناً اوبرالياً بصوته، وذلك اللحن الخالي من الموسيقى، أعاد إلى ذهني الأناشيد الإسلامية مباشرة، إنها تتشابه، مع فارق الرقي. لدينا الأساس لتأسيس فن عالمي غير محصور بفئة معينة، تاريخه جيد ونظيف إلى حد بعيد، فيمكن أن يصبح حكراً على الكلمات والأفكار النظيفة، وإن لم تكن بالضرورة دينية، فالمواضيع الحياتية مهمة كذلك. إن الأناشيد تحتاج إلى إعادة نظر كاملة وتأهيل لتصبح أداة حضارية حقيقية يفخر بها الناس، لا يتجاهلونها كما يحدث الآن. أنا أرى أن لدينا العديد من الملحنين الغنائيين المتفوقين، وبعضهم أكاديمي بالموسيقى، لماذا لا يقسم مجهودهم، ويخصص بعض منه لشيء بهذا النبل؟ فهم مسلمين بالنهاية، والإقصاء بحقهم لا يمكن أن يكون أفضل من كسبهم والاستفادة من خبراتهم. تخيل مسرحيات إنشادية، تحكي معارك المسلمين الملحمية، أو قصصهم الشهيرة ذات المعنى والتأثير العميق؛ فن شبيه بالأوبرا ولكنه إسلامي الطابع. هؤلاء الملحنين سيحدثون الوضع ويكونون حلقة وصل بين الحداثة والأصالة، ولا يمكن بطبيعة الحال التعاون مع أي ملحن. تعاون هذه الأيام الشيخ الذي لا أحبه عائض القرني مع محمد عبده، ولم أرى اعتراضاً كبيراً. أنا أساس لا أرتاح إليه وأجده شخص مغرور، خصوصاً حينما يمنح الجوائز لمن يجاريه، رغم أن جودة قصيدته التي كتبها لمحمد عبده لا ترتقي حسب المختصين بالأمر.
يبدو أني سأبدأ بالتأخر رغم أن تدويناتي صارت أقصر مؤخراً. حيث أني أنشغل كثيراً في العمل، وحينما أفرغ لم يتم جلب كمبيوتر خاص بي، والكمبيوتر المتاح سيء جداً فضلاً عن المقاطعات. ولكن الوضع ممتع في العمل (باستثناء الترجمة لضيف ثقيل على الجامعة يوم الثلاثاء الفائت، وسيأتي الإربعاء هذا أيضاً، الله يعين).
بعد أن أتميت تقريباً 3 أسابيع في الجامعة، لا زال لدي مستحقات غير قليلة في الوزارة حيث كنت أعمل. كانت معي بطاقة الدكتور المشرف، فاتصلت على المكتب. رد مدير المكتب، وهو رجل طيب إلى أقصى الحدود، وهو بدوي كذلك. سلمنا وتكلمنا، وسألت عن الزملاء. تذكرت بأني نسيت أحدهم بهدية حينما أحضرت لجميع المهمين، يا للغباء من طرفي. سألته عن الدكتور المشرف، وقال بأنه بخير. لم أجرؤ على السؤال عنه أمام الدكتور الذي كان مديري هناك، حيث أني حساس من أن ينقل سؤالي إليه، فيحسب أن هذه هي نيتي. أعلم بأني أحمل الأمور أكثر مما تحتمل، ولكن الواقع هو أني لا أفعل هذا مع الآخرين، أعني أنه لو كان شخص آخر عادي، لربما أرسلت إليه سلامي، ولكن لأنه مميز لدي لسبب مجهول، أصبحت حساساً تجاه ما قد يفهمه عني. فلست أريده أن يتخيل مثلاً أني أنافقه، خصوصاً أني أهديته هدية، وأنا أعلم أن بعض الناس حينما يهدون الآخرين شيئا فإنهم يبيتون في أدمغتهم أن هذه الهدية هي شفاعة لأي شيء كان، وقد يكون شيء طيب النية كأن تكون شفاعة للسلام، ولكن، لا يجب أن يكون هذا هو معنى الهدية، على الأقل، ليس مع كل الناس. ترددت بالمكالمة وأنا أفكر، هل أرسل سلامي؟ فمر بخاطري صورته، وهو يجيب عن سلامي المنقول، وعلى وجهه علامة استغراب، أو في أفضل الأحوال، يجيب بلا مبالاة. حينما أبالي بأحد، فنفسي تريد المثل أو بعضه، وحينما لا يكون للمثل مجال، فلا أخاطر. ربما لو مررت عليهم في العمل يوماً ما، ووجدته غير مشغول، سيسعدني جداً أن أدخل عليه، وأسلم، وأخرج. لو كان عمره أصغر، لحرصت على كسبه صديقاً. للأسف أن الأوقات غير متوافقة، فأنا معجب به إلى هذا الحد. ولكن، للمرء أن يعجب بمن يريد، فهو لا بد مفارقه. شخصيته الجدية واعية، إن أكثر الجديين هنا يحسبون أن امتلاكهم لصفة الجدية تحتم عليهم الميل إلى الصلف والقسوة. كان هذا الفهم الخاطئ ظاهر على شخص عزيز آخر، تجربتي معه تعلمت منها الكثير.
حينما حجيت العام الفائت، كانت تجربة متعبة وليست على أكمل وجه بسبب الحملة السيئة، حملة الجميعة. لدرجة أني أحسب بأني أود أن أرتاح لعشر سنوات قبل أن أكرر التجربة، بسبب سوء الحملة التي استنزفتني. ولكن في الحج، تعرفت على أناس رائعين حقاً. ومررت بتجارب على مرارتها، مثل حينما أهملتنا الحملة في مزدلفة، إلا أنها وضعتني بمواقف تمخضت، ولو بعد حين، عن حظ حسن. في مزدلفة، أنزلتنا الحملة كشحاذين بدون أي تجهيز، وهربَت. لم يوجد مكان لنجلس فيه، أو حتى نستأجر أو نشتري طعام جيد، والأهم، لا مكان للراحة أو النوم. بطبيعة الحال، كان المكان مزدحماً إلى حد لا يصدق. وقد تبرع بدو كويتيين بتركنا نجلس على سجادة لهم، سرعان ما سألوا إن كنا مغادرين ليطووا السجادة حالما وقفنا. ذهبت أنا وصاحبي من الحملة نهيم على وجوهنا، وهو مع أنه إنسان في قمة الطيبة، إلا أن عمره صغير وعلى جانب من... كيف أسميها؟ على جانب من الطفاقة، وقد وتر أعصابي في تلك الليلة كثيراً، ولكني أحببته بعدها كثيراً. المهم أننا ونحن نهيم، وجدنا رجل سعودي، مطوع. يجلس على فرش كبير، ومعه شخص شديد بياض البشرة. سمح لنا بالجلوس معهم. وكان كريماً ولطيفاً معنا. عرفنا بأن الرجل الآخر هو حاج عراقي، ضيف مثلنا على هذا الرجل السعودي الملتزم. بعد قليل، نام صاحبي من الارهاق، بينما تسامرنا أنا وهذا الرجل الطيب. كان من القصيم، مثلي، وكان أيضاً دوسري، مما يجعلنا أبناء عمومة. ناقشنا أمور كثيرة، عن القبائل والانتماءات، وعن الزواج وهذه الأمور. وأمور أخرى لا أتذكرها. كان العراقي حينما يكون متواجداً يشارك بما يعرف، وقد كان طيباً في تعامله، ولكنه يضمر كراهية للواهبية كما فهمت، ولا يعتبر أن من يسميهم واهبيين هم حنبليين بالأساس. مما جعلني أنفر منه. أنا لا أعتقد بأننا وهابيين كما يقولون، إننا فقط نطبق ما نراه صحيحاً دون تعصب لأحد. وقد غاضني أسلوبه الأجنبي السخيف المقفل وضيق الأفق حيال هذه النقطة، ولكن بالمقابل، كان الرجل الملتزم بارد وغير مهتم حقاً. ولكن في معظم الوقت، لم يكن هناك غيري وغير الملتزم، حيث كنا نتحدث كثيراً، وقد خفف الأمر علي كثيراً رغم أني لم أنم. هو من بريدة، وشديد العفوية، وشديد التهذيب مع ذلك، رقيق ولا يحب جرح الآخرين. تبادلنا الأرقام. واتصلت به لما عدت إلى الرياض مرة واحدة.
أمس تقريباً، وصلتني رسالتين في الانترنت، إحداهما عن طريق منتدى كنت أشارك فيه بإسمي الحقيقي، والأخرى عن طريق تعليق بالمدونة، من نفس الشخص الذي يدعو نفسه أبو عبدالرحمن. يريد أن أراسله من خلال بريدي، ولما راسلته، طلب مني الاتصال على جواله أو إرسال جوالي إليه! لم يوضح شيء عن نفسه، وبما أن أحد الرسائل جاءت عن طريق المنتدى، تخيلت بأنه ربما أحد زملائي في الكلية؟ أو ربما أحد طلاب اللغة الفرنسية الذين لم أكن على وفاق معهم، ولا زال لديه ما يقول؟ فهذا شيء متوقع، يبدو أن الكل بقي لديه أشياء يقولها، عداي. سألته من يكون، وأعطاني توضيحاً،،، غير واضح. سأل إن كنت سعد من المذنب؟ وأنه فلان المطوع. لم أفهم، ولكني شككت بأنه شخص أعرفه جيداً، نويت الاتصال به في اليوم التالي. ولكن لما شغلت المسنجر، دخل وكلمني هذا الشخص، وكان يعتقد بأني عرفته. لم أكن متأكداً، فسألته إن كان صاحب الحج؟ فقال بأنه هو...!! كان من الواضح أنه بحث عني، عن أسمي في الانترنت، فتوصل إلى ما يتعلق بي، المنتدى وهذه المدونة!! لقد تكبد العناء ليتواصل معي، لقد تكبدت العناء لأتواصل مع آخرين، ولكن لم يسبق لأحد أن اكترث لأمري إلى هذا الحد، أن بحث عني يريد التواصل معي قبل هذا الشخص. تأثرت كثيراً باهتمامه، وكان تواصله من أسعد الأمور على الإطلاق التي جرت لي منذ وقت طويل. عرفت سعادة نادرة وأنا أحادثه، رغم أن وقته كان ضيقاً. حقاً يا ابو عبدالرحمن، لقد أدخلت البهجة إلى قلبي الراكد، وهذا معروف كبير جداً لا أدري إن كنت أقوى على رده.
الاسبوع الفائت، كلمني أحد قياديي قسم مجاور من نفس عمادتنا، عن رغبته بانتقالي إلى قسمهم. قائلاً بأنهم يحتاجونني بقربهم، وأن في قسمنا شخص آخر يتحدث اللغة الانجليزية. أخبرته بأني أخدم العمادة كاملة كما كنت دائماً، وحالما يطلبوني إليهم فسأكون عندهم كما جرت العادة، وقد أحضرني لهم في تلك اللحظة عمل لهم على أي حال، كما أن الشخص الآخر مسكين، فهو ليس بمترجم بالأساس ويقوم بأعمال فوق طاقته، فضلاً عن حاجتهم المستمرة لي هناك بحكم كثرة الأجانب المراجعين. ناقش الفكرة معي، ولكني بينت أن وجودي هناك أجدى. الغريب هو أن قسمنا وقسمهم لا يفصله جدار حتى، ويمكنهم دائما استدعائي، والأغلب أني أحضر إليهم مع الراجعين للترجمة دون استدعاء حتى. أخبرت مديري ونحن نتكلم بأمور عملي بمقترحهم وردي عليهم، ولم أعلم بأن الأمر سيستفزه تجاههم، إذ قال بصلف ونظرة غاضبة: قل له(يقصد الشخص من القسم الآخر) يروح يحج قبل الزحمه..." صمت. ثم شرح عن حاجتهم الماسة لي هنا، فسارعت بالتوضيح بأني فقط أتكلم، ولا أنوي ترك إدارته بأي وقت. في وقت لاحق، قال لي شخص مماثل في قسم آخر نفس الكلام، ولكني لم أخبر المدير هذه المرة.
ما أكثر ما يسألني الناس عن الزواج... حسناً، بالواقع، الأمر ليس كثير بالمعنى الدقيق، ولكنه كثير علي. إن الأمر ليس تأجيلاً، ولكنه عدم استعجال. لست من النوع الذي سأقول لأهلي: أريد فتاة هكذا وهكذا صفاتها، ابحثوا لي عن واحدة. وبطبيعة الحال، لا أستطيع اختيار فتاة ثم التعرف عليها أو العكس. الوضع معقد، ولكنه عندي بسيط. أعرف أنه في مجتمعنا، حينما يتزوج المرء فإنه يتزوج العائلة بأكملها. إني أبحث عن العائلة قبل الفتاة. أعلم بأن هناك فتيات رائعات وملائمات لي ولكنهن ينتمين إلى عوائل صعبة أو مزعجة، ولكني لا أستخسر الأمر، فهذه العوائل مهما بدا الأمر جيداً بين الزوجين، إلا أنها تفسده، كما أن المرء يجب أن يختار أخوال جيدون لأبناءه. إني أبحث عن أناس أرتاح إليهم كعائلة، أناس صحيين، سويين، أذكياء وطيبين، وغير منحلين أو متحررين كما يقولون، كما يجب أن لا يكونو متشددين كذلك. أود التعرف على العائلة أولاً بشكل جيد، ثم معرفة المزيد عن الفتاة. ولكن، من يعلم أين النصيب وكيف يكون.
أنا لست بمستعجل على الزواج، لدي ما أقوم به حالياً، ولكني لست أؤجل الأمر كذلك، فحالما أعرف بأن هذه الفرصة المناسبة، هؤلاء الناس الطيبين، فلن أضيع الوقت قبل الخطبة. الخطبة يجب أن تطول قليلاً بالنسبة لي. كذلك، أحب أن أتعرف على ناس جدد، ليسو أقارب أو معارف قدماء. أحب أن أربط عائلة جديدة بعائلتنا. كما أن هذا صحي أكثر للأبناء. كذلك أوصى الرسول عليه الصلاة والسلام بالتعارف في هذه الأمور.
الفيديو أدناه تصاحبه موسيقى، لمن لا يحب؛ يخفض الصوت ويشاهد:
هذه الطيور الطنانة من أحب الحيوانات إلى قلبي، رغم أني لم أرها على الطبيعة. أمنيتي أن أراها، ولكن لا أتخيل بأنها أمنية ستتحقق. تتواجد هذه الطيور في قارتي أمريكا الجنوبية والشمالية. لا تعيش في كل المناطق، فهي تحتاج إلى درجات معينة من الحرارة والرطوبة. توجد في كاليفورنيا في أمريكا وفي شمالها، أعتقد مينيسوتا، وفي كندا كذلك. وهي تعيش على رحيق الأزهار، أو على الماء المحلى من صنع البشر. ولأن حركة أجنحتها سريعة جداً، تحتاج إلى الطاقة بشكل كبير، بحيث أنها توفرها لتعيش، فلا تتحرك للطيران إلا في ظروف معينة، كالبحث عن الرزق. فهي لا تطير أو تتحرك أكثر من ساعة في اليوم في الأوضاع الطبيعية على حد علمي، بينما تقضي بقية اليوم بالجلوس والتأمل. لا يربيها الناس في بيوتهم رغم أنها أليفة بالنسبة للبشر، فهي لا تهابهم وقد تشرب من أيديهم دون سابق معرفة. ولكنها تحتاج إلى بيئة وعناية صعبة التوفير. إن مشاهدة حيوانات غير مألوفة، مختلفة وغير عادية، من الأمور المقوية للإيمان برأيي. سبحان الخالق المتقن. منذ أن كنت صغيراً وأنا أعشق هذه الطيور، وأتمنى لمسها. أتذكر برنامج عرض بالتلفزيون عنها، افتتنت بها كما لم أفتتن بأي حيوان حينما كنت صغيراً، ربما مثل فتنتي بالفراشات. القاسم المشترك على ما أعتقد هو الألوان الجميلة، ولكن الطيور الطنانة أكثر اثارة للاهتمام من الفراشات.
كنا نعمل في غرفة الاجتماعات الخاصة بالعمادة. كنا أربعة، المدير، واثنين من الزملاء، بالإضافة إلي طبعاً. نفرز أوراق وندمجها، وهي تخص كل موظف تقريباً بالعمادة، أو معظمهم، والموظفات كذلك. جاء دور إدارتنا، ووصلنا إلى ورقة أبو محمد، وهو زميلنا المحبوب، في إجازة الآن. تنهدت وقلت وأنا أمد ورقته بعدما وجدتها: من غير شر يا ابو محمد. قال المدير بصدق: اي والله من غير شر،،، حبيب أبو محمد. بعد ورقة أبو محمد، اكتشفنا أن الدور جاء على ورقة زميلنا الآخر. قلت: خلق وفرق وجايين وبرى بعض. قال مديري: إهااااهههههه إه إه إه. صمت قليلاً، ثم أضاف بصوت أخفت: إه إه إه. هكذا يضحك هو، وأنا أميز ضحكه الحقيقي من مجاملته، كان يضحك حقاً، فالزميل الأخير صعب المراس، ولسانه سيء جداً، يخطيء على هذا وذاك بلا حساب، يتدخل بما لا يعنيه، يجرح الناس لا يردعه شيء. رغم أنه يبدو عليه الندم لاحقاً، فقط إذا ما رد عليه الشخص المقابل وحاول إيقافه عند حده، ولكن المشكلة أن لا أحد يحاول إلا فيما ندر... هداه الله. خسارة أن أبو محمد سيتقاعد بعد سنة... خسارة. أتمنى أن يمددوا له بشكل ما، يا رب.
يوم الثلاثاء، جاء رجل استرالي إلى قسمنا، وهو يعمل في كلية اللغات والترجمة. مسلم. وكان زميلي قد حرصني أن أحضره له إذا جاء. حينما أنهينا أعماله، سألته إن كان قابل زميلي؟ فهو يسأل عنه باستمرار، وهو يعرفه. حينما وصلنا زميلي، طلب جوازه ليأخذ منه صورة. لما أعطاه، احتجزه لديه!! قائلاً بأن هذا الرجل قام بإجراء غير قانوني، سمحنا به عن طريق الخطأ، والآن يجب تصحيحه. كان الرجل الاسترالي سيسافر قريباً، ويعود قريباً، فقط سيوصل زوجته لأنها مريضة ويخاف عليها. فوجئت بما قام به زميلي، كنت أعرف عن مشكلة الإجراء، ولكن لم أعرف أن جوازه سيحتجز. الرجل لم يكن يعلم بأن هناك خطأ بما قام به. ولكنه وقع في ورطة، فيجب أن ينتظر عودة زميل كفله هو، والوقت لا يتحمل. حاولت مساعدته. وبحث عن أي طريقة. ذهبنا إلى مديري. لم يكن بيده حيلة. طلب منه أن يجد من يكفله قبل أن يسافر. كان هذا صعباً، فهو بلا أصدقاء هنا باستثناء صديقة المسافر، وكفالته لا تصلح لأنه مسافر. اتصل على مدير قسمهم في كلية اللغات، ولكنه رفض كفالته لأنها مسئولية لا يتحملها. تعب الرجل وكاد أن يبكي. لاحظت أن وجهه تغير، اسود. ثم لم يعد قادر على الوقوف. فكرت بأن الأمر وصل حده، فإن لم يجد من يكفله، فسأكفله أنا. فهو سيعود بالتأكيد، حيث يملك سيارة هنا يجب أن يتصرف بها، ولو لم يعد، فالشكوى لله، سأحسن الظن فيه وسأكفله. جلس وأحضرت له ماء، وعلمت بأنه يعاني من مشكلة في قلبه، ويأخذ دواء لأجله، ويعاني من مرض السكري كذلك. خرج المدير من المكتب بعدما حاول إقناعه بطلب الإسعاف، ولكن الاسترالي رفض. لحقت بالمدير، وطلبت منه أن يعطي هذا الرجل استثناء، فهو لن يجد من يكفله، وهو متعب ومريض، وزوجته مريضة. قلت: تخيل لو خرج من هنا، وأصيب بشيء، مات ربما، كيف سيكون موقفنا؟. قال مديري بعصبية: ماذا أفعل؟ ماذا تقترح؟ أنا: لا أدري، ربما نكلم لأجله العميد؟ العميد يستطيع أن يستثنيه. أياً كان الحل، يجب أن نساعده". فكر مديري ملياً. ووقفت أنتظر، وزميلي الملتزم الكبير معنا. ثم قال: أعطه جوازه. فرحت جداً. وذهبت إلى الرجل أبشره. ولكن تعبه لم يترك له فرصة ليفرح بشدة. شكر المدير ونزلت معه، فلم تكن حاله تسمح بتركه. نزلنا وتركته يجلس على حافة الحوض في البهو. وذهبت لشراء عصير محلى له، وإحضار أكياس سكر الشاي. شرب ومص السكر. وصار يكلمني عن خيبة ظنه بالمكان. كان حزيناً جداً لتجربته هنا. فقد توقع عكس ما وجد. توقع مجتمع مسلم متسامح، كان يريد أن يربي أبناءه في بيئة إسلامية. ولكنه وجد الناس منعزلين، لا أحد يكترث لأمر الآخر. الجيران لا يزورونه ولا يدعونه للزيارة. وزوجته تعبت من نظرة قريناتها الدونية لها. كانت سنة صعبة وقد شعر بأنه جنى على أبناءه بإحضارهم إلى هنا. هو يعلم بأن ليس الكل هكذا. ولكنه يأسف على تجربته. أخبرته بأنه يسكن في حي غير مريح. كنت أسكن هناك، ولم نعرف طعم الجيرة الحقيقية حتى انتقلنا منه. أخبرني بأنه حزين على ابتعاده عن أمه، فليست هي من يحتاجه، إنما هو من يحتاجها، حتى لو كان متزوجاً وأنجب أبناء. حكى عنها وعن تضحياتها. تمنيت رؤية أمه. قال بأنه يعتقد بأني إنسان جيد، وبين أسفه لأنه لم يقابلني قبل الآن، حينما أوشك على ترك البلاد. شعرت بالأسف لما يشعر به. وشعرت بالأسف على خيبة ظنه الشديدة والحقيقية، الخالية من الحقد. كان لا يستحق ما جرى. كان قد شعر بالغبن لأن زميلي أخذ جوازه بالخدعة، ثم بعد قليل حينما أذن للصلاة استأذن ليصلي، قال بأن الكذب ليس أخلاق إسلامية. تلكمنا كثيراً. وفي النهاية رفض أن أوصله إلى المنزل. وخفت أن اؤذية لو سحبته أكثر. اتصل لاحقاً ليطمئني بأنه وصل وتناول علاجه.
إن الكثير من الناس يأتون إلينا بتوقعات مختلفة وفوق الواقع. ورغم أنك لو سألتهم قبل أن يأتون لقالوا لك: لا، السعوديين بالتأكيد ليسو كالصحابة. إلا أن هذا ما يتوقعونه صدقاً. إنهم لا يكفيهم أبسط الأيمان؛ المساجد المنتشرة وكثرة الملتزمين والحجاب وإغلاق المحلات للصلاة ووجود المقدسات. إنهم يريدون ما يحتاج إلى وقت ومثابرة وقد لا ينجح. وبالواقع، تجد الغربيين الكفار هنا أكثر سعادة من الغربيين المسلمين، لأن توقعاتهم واقعية. فكثير منهم يعشق بلادنا أيما عشق، ويحب أهلها، وينقل إنطباعات جميلة عنها في الخارج. خصوصاً من يأتون مع عوئل من الغربيين المسلمين، تجدهم يواجهون ضغوط من زوجاتهم، وهذا ما حصل مع عائلتين عرفتها في الجامعة. ولا يعني كل هذا بأننا كسعوديين لا نخطئ، فنحن لا نعطيهم فرصة كافية، ولا نستقبلهم بالقدر المطلوب في حياتنا. ربما لسوء تجاربنا مع الأجانب بشكل عام.
يوجد استرالي آخر بالمقابل، ملتزم، لحيته ضخمة طويلة. ولكن كم أكرهه. إنه لا يشكر أبداً، ويتعامل بتكبر وفوقية. ولا يسلم إلا إذا احتاج شيئا. وحينما جاء لأول مرة للجامعة، كنت أنا معه. وقد بدا لي وكأنه لا يرى غير الملتزمين أمثاله، ذوي اللحى الطويلة. بحيث لا يشكر إلا هم، ويسلم عليهم بحماس ويستعرض نفسه، وكأنما يريدهم أن يفرحوا به ويتركوا أعمالهم للتعرف عليه. وهذا ما لم يحصل. أليس إسلامه له؟ يتساءل المرء. وهو فوق كل شيء مزعج، وغبي لا يفهم، ومتكبر. سألني ذات مرة لماذا الناس هنا صلفين قليلاً، شعرت بأنه لا يستحق أفضل من هذا. صرت أندم على بذل مجهود أكثر من المطلوب لمساعدته. فزميلي الملتزم الصغير يشكو منه، ومديري حتى. وقد تسبب لنا بإحراج رغم أننا بذلنا المستحيل لمساعدته. لم أعلم إلا لاحقاً، وأنا أخبر مديري بأنه لم يستحق المساعدة، فأخبرني مديري بأنه ذهب إلى الوكلاء السعوديين، وهم أشخاص متبطلون في العمادة، وتسبب بإحراج لنا، وكان الوكلاء يتكلمان معاً بالانجليزية حتى لا يفهمهم مديري، مما أغضبه جداً. ماذا يتوقع المرء من دكاترة سعوديين، لا وتخصص إنساني بعد، فكليهم تخصصهم بالإدارة. أرجو أن لا يعود هذا البغيض أبداً.
كان ذلك اليوم، الثلاثاء، مرهقاً جداً جداً. حيث ذهبت إلى البنك لأحدث معلوماتي، حتى لا توقف بطاقتي الائتمانية "الكذبية". فهي كذبية لأنها لا تعمل كالبطاقات الائتمانية العادية. حيث أنها مسبقة الدفع، اعبئها بالمال عن طريق البنك، فيكون هذا المال برصيدي لأشتري به وأستفيد من مميزات البطاقة، وهدفي الرئيسي منها للشراء عبر الانترنت. وقد اشتريت بها كثيراً، وهي رائعة، خصوصاً لمن لا يريد الربا مثلاً، أو يخاف الإدمان عليها، أو يخاف سرقتها(لا أخاف)، أو لا يريد استخراج بطاقة ائتمانية إسلامية، ولكنها برأيي كفرية من حيث لصوصية البنوك في الاشتراك الشهري. ولكن استخرجتها من بنك سيء، حيث حسبت أنه الوحيد الذي يوفرها، وعلمت لاحقاً أن البريطاني يوفرها كذلك. البنك هو الأهلي، الذي صرت أحب أن أدعوه: بقالة بامحفوظ. حيث التعامل السيء، والموظفين الجهلة بإجراءات بنكهم ومنتجاته. العجيب هو أن الموظفين الذين يجيبون على الهاتف، وكلهم حجز، رائعين ومهذبين عكس الذين يعملون بالفروع، بينما موظفي البنك الفرنسي في الفروع رائعين إلى أقصى حد، ولكن من يجيبوك على التيليفون يجمعون بين الغباء والوقاحة والنذالة. في فرعي الذي أتعامل معه في حينا، قالوا بأن تحديث البيانات لبطاقة ائتمانية لا يتم إلا في فرع التمويل في خريص، مع العلم أني أعيش قرب جامعة الملك سعود. ولما اتصلت بخدمة العملاء لأسئلهم عن مكان أقرب طلبوا مني العودة والاتصال بهم مباشرة وأنا في الفرع. أخبرتهم بأني لا أستطيع الاستئذان مرتين من عملي. في الغد عدت واتصلت، قيل لي بالفرع أن النماذج منتهية لديهم!! وطلب مني الذهاب إلى فرع آخر. وهكذا قالوا بالتيليفون إنما بطريقة أكثر أدباً. في الفرع الآخر أخذت رقماً. وكان 805. مع العلم أنه لم يوجد غيري، والذي تجري خدمته لدى الموظف الوحيد لخدمة العملاء في الفرع الذي يحتل عمارة كاملة أمام سوق العويس في طريق الملك فهد. انتظرت لوقت طويل، قدره بنصف ساعة. جاء لاحقاً رجلين وحصلا على رقم. حينما خرج العميل من عند الموظف، تغير رقم الشاشة، يفترض أن يظهر رقمي بأني الثاني، ولكنه أظهر: 400!! فقفز الرجلين بحماس لأنه رقمهما. فذهبت معهما، وأخبرت الموظف بأني جئت قبلهما، ومع ذلك لم يتم إظهار رقمي، فهذا دوري بالواقع. قال بأن هذا ما أظهرته المكينة، رقمهما، فقلت بغضب، إذاً أنتم تستعملون أجهزة فاسدة؟ أم ليس لديكم منطق؟ أنت تعلم والكل يعلم بأني الثاني، والآن تقول لي المكينة؟ هل لديكم منطق هنا؟ ارتبك الموظف، وقال بأن هذا ما أظهره الجهاز، وأن الأمر لن يطول ومن هذا القبيل، فقلت بغضب وقد بدأت أن أفقد السيطرة على نفسي، فصرت أنتفض: يعني، تبونن،، أمرح عندكم الليلة؟ يمكن يجي دوري بكرى؟ مرتين تطلعونن من العمل، والحين، تبي تخلين أجلس عندكم أكثر؟... كدت أن أطلب المدير، فقط لأصنع مشكلة في الفرع، لأني أعلم بأن مدراء البنوك والمحلات الخاصة لا فائدة منهم، ولكنه قال بسرعة بأنه سيخدمني بلا رقم الآن، فقط أنتظره قليلاً. لم يستحق الأمر كل هذا التأخير، لو وفروا النماذج لاختصروا الكثير من الوقت. بنك سخيف إلى أقصى الحدود.
أتمنى دائماً أن أعرف من المسئول عن قفل الباب، ذلك الباب المؤدي إلى الشرفة، في مصلى كلية الآداب، وكلية اللغات سابقاً. هناك، حيث لي العديد من الذكريات المربوطة، صرت أتطلع إليه الآن من خلف الزجاج. لا أنسى وقوفي هناك بعد الصلاة وتأملي للنخلات المتمايلات بسكينة، في مدخل الكلية، أو الاستمتاع بالهواء ورائحة المطر، مطمئنا بوجود المصلى الذي أحبه كملجأي خلفي. لا أنسى وقوفي مع صديقي في تلك الأيام، وتناول الكعك الذي آتي به معي، ونحن ننظر للنخيل والناس ونتكلم بعد الصلاة، كوقت معلوم. لا أنسى صدمتي ورجائي، حينما هززت الباب عدة مرات فعلمت بأنه مقفل، رجوت أن أجده مفتوحاً في مرة أخرى. ولكن، بعض الأمور حينما تقفل، تصبح هكذا فقط، يصبح الباب جزء من الجدار.
الصورة في قمة الموضوع مأخوذة من الأسر.
سعد الحوشان