‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيديوات"لي"فيها"رأي"". إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيديوات"لي"فيها"رأي"". إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 3 فبراير 2014

كمين القلوب (ما سقط سهواً،متنوعات عن الرحلة،المعتاد،قصيدة)

بسم الله الرحمن الرحيم





أعادني الحظ وبقيت روحي بمنفاها...
وظل قلبي في كمين القلوب ومهواها...
أين زهيرات الانديز وفراشاته...
أين أهله وحدائقه وساحاته...
أين الصحاري المغايرات بأنهارها...
أين السهول والمراعي وحيواناتها...
ألا أيها المحيط الأبدي خذني بأحشائك...
واحبل بي هوناً تسعمئة عام رجعية...
ثم بمخاض يسير الفظني...
برفق على شواطئ تلك الأرض النقية...





مرت الأيام الآن، دون أن يخيل إلي أن الرحلة صارت بعيدة العهد، لا أدري ما السبب. إني أنظر إلى الشهور وأشعر بالضيق، وكأنما بازديادها تفرقني وجودياً عن ذكرى جميلة.
عموماً؛ أردت أن أتحدث هنا عن بعض الجزئيات الجانبية من الرحلة، كتجربة المطارات المختلفة، وما نسيت ذكره خلال رصدي للرحلة في التدوينات السبع الفائتة، خلافاً للمتفرقات المعتادة.


أتذكر أمور متفرقة أحياناً، أكون قد نسيت أن أذكرها في التدوينات الأساسية عن الرحلة، مثل قرية في تشاتشابوياس بالشمال، ينشط أهلها بصنع الفخاريات الجيدة، ولهم أشكال مختلفة عن أهل المنطقة الأصليين، يكمن السبب في التاريخ البعيد. كان الإنكا قبل وصول الأسبان يلجأون إلى إعادة توطين أهل القرى والمدن الذين يثورون أو يسببون المشاكل في مناطق اخرى، وأهل هذه القرية هم بالواقع من العرق الذي ينتمي إليه الإنكا في جنوب البيرو حالياً وفي قلب الانديز، وقد وطنوهم الإنكا منذ ذلك الوقت في الشمال، حيث لا زالوا يعيشون ويمارسون أنشطة أجدادهم، ويعرفون بتاريخهم وانتمائهم الأصلي.
إن تأثير الإنكا على الحياة لا يزال حاضراً بقوة، ومع ازدياد الوعي والحس القومي لدى أهل الجنوب، أو الكيتشوا كما يسمونهم، يرى المرء توجه مختلف للبلد وثقافته على وجه العموم. مع أن المرء يلاحظ ضيق أهل الشمال باستحواذ الجنوب وتاريخه على الاهتمام، وربما اعتزاز أهل الجنوب بتاريخهم وثقتهم المتزايدة بأنفسهم. وبالواقع، يرى المرء أن أهل الشمال أكثر انهزاماً ثقافياً من أهل الجنوب، حتى الأصليين منهم. أتخيل بأن هذا عائد إلى العمق الحضاري المختلف في الجنوب. إذ رغم قيام حضارات عظيمة في الشمال، آثار عبقريتها لا زالت موجودة، إلا أن الطموح كان دائماً يأتي من الجنوب، حيث تبدأ الحضارات الجنوبية توسعها دائماً على حساب الشمال، مثل الإنكا وقبلهم الواري، الذين ورثهم الإنكا، والجنوب الأبعد الأقل تحضراً من الناحية المادية (تشيلي وشمال الأرجنتين حالياً). يخبرك أهل الشمال بمرارة بأن الإنكا استفادوا من خبرات أسلافهم في حضارتهم، وكأن هذه نقيصة، في تجاهل للبعد الحضاري للاستفادة والإندماج. قالوا لي بأن تومي، آلهة مشهورة على مستوى المنطقة، إنما تبناها الإنكا من حضارة قائمة في لمباييك بسطوا نفوذهم على أهلها، رغم أن هذا في رأيي أمر مذهل، هذا الإنفتاح والتواضع الحضاري. يقولون لي بأن الإنكا مثلاً استفادوا من خبرات حضارة تشيمو بالهندسة المائية، ولكن هذا أمر رائع. يحاول بعضهم تقويض أهمية الحضارة التي توسعت ونظمت المنطقة، لتخيلهم بأنها بالواقع تغطي على إرثهم الأصلي، رغم أن هذا غير صحيح. كان أمر غير سوي هذا الاستهتار في رأيي، ومثله الإنهزام. قيل لي، بنوع من السخرية، أن أهل الجنوب أكثر تمسكاً بالتقاليد وبالهوية الأصلية، أما أهل الشمال فهم أكثر انفتاحاً، لكني لم أرى سوا أنهم أكثر تغرباً، وإن يكونوا بالواقع محافظين كذلك ومهتمين بالهوية نوعاً ما. أتصور بأن الأصليين من المناطق الشمالية لا يرون الغزو الإسباني خسارة لهم بقدر ما كان خسارة لأهل الجنوب. نعم، إنهم يدركون أن الغزو كان خسارة لهم، لكن لم يبدو لي أنهم يشعرون بمرارة تساوي مرارة أهل الجنوب، الذين يصفون أحياناً الخسائر الثقافية والحضارية التي خلفها الأسبان.
وعموماً، أعتقد أن الشعور المتزايد بالهوية الأصلية ينبع من الجنوب دائماً. بينما غالباً ما كانت النخبة الحاكمة ذات أصول اسبانية مع الأسف، إلا أنه يبدو أن هناك تغييراً في بعض الدول في المنطقة. كان رئيس بوليفيا، وهي مجاورة للبيرو وجزء منها كان تحت نفوذ الإنكا، هو أول رئيس من السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية. كذلك، يوجد مطالبات بتدريس أكبر لغتين أصليتين بالمدارس، لغة الكيتشوا والايمارا. وقد أثير جدل قبل سنوات لاداء نائبة جديدة بالبرلمان القسم بلغة الكيتشوا، حيث احتج الغالبية، وهم اسبان الأصل على ما أعتقد، بوقاحة قل نظيرها.
إن الناس هناك من ألطف من قابلت عموماً، خصوصاً خارج ليما. إن الناس في ليما ليسوا سيئي الطباع على نحو خاص، لكنها مدينة تجمع كل من هب ودب، مثل الرياض، لذا لا يعول المرء كثيراً على طبيعة أهلها، خصوصاً أنه يوجد تركز كبير لذوي الأصول الاسبانية والأجانب فيها، على الأقل في المنطقة التي تمشيت فيها، حيث أن الأحياء العشوائية والفقيرة تمتلئ بالسكان الأصليين. لا زال توزيع الثروة والدخل هناك غير عادل، أعتقد مثلنا كذلك، وقد قرأت بأن ذوي الأصول الأسبانية لا زالوا عموماً يسيطرون على مقاليد الأمور ويتسببون بهذا الخلل، وإن كان الوعي ومحاولات التغيير في ازدياد كما قرأت، ومن مؤشرات ذلك ما أشرت إليه من دخول النواب الأصليين البرلمان، وقد سمعت كذلك أن الرئيس الحالي ذو أصول أصلية أو مخلطة على الأقل، وهو رئيس جيد بوضوح، يميل للعمل والأداء، وليس للظهور والخطابة كغالبية الرؤساء في أمريكا الجنوبية. ورغم أني سمعت أكثر من شكوى من الناس هناك، لأنه لا يحب الظهور كثيراً، إذ يبدو أن أهالي تلك البلدان اعتادوا على دراما السياسيين ومسرحياتهم العجيبة، مثل مسرحيات رؤساء فنزويلا والارجنتين والاكوادور وحتى بوليفيا الأبسط برئيسها من السكان الأصليين.
البيرو حالياً هي أسرع بلدان أمريكا الجنوبية نمواً، وأسرعها رأباً للصدع بين الفقراء والأغنياء، ورفع مستوى المعيشة. ويبدو أن هناك اهتمام حقيقي بالتعليم يأتي بنتائج، على عكسنا.

في إعتقادي، لدى البيروفيين الأصليين، وهم الغالبية العظمى، مشكلة جماعية في النظرة إلى أنفسهم وإلى الأجانب. أعتقد بأنهم لم يتخلصوا بعد من صدمة الغزو والاحتلال الاسباني قبل أكثر من 500 عام. إنهم شديدو اللطف والبساطة على وجه العموم، لكنهم يعانون بوضوح من مشاكل بالثقة بالنفس، واهتزاز في رؤيتهم لهويتهم، حيث أنهم أُفقدوا الثقة بقيمتها على مدى طويل وبطريقة قد تكون ممنهجة. إنهم في ظرف أفضل الآن، ولم يعد الخضوع لثقافة أخرى مفروض عليهم، لهذا يجدون أنفسهم أمام المزيد من الخيارات والتحديات، وبالنسبة لكثير منهم، يشكل هذا تشويشاً، ورغم أنه قليل من الشعوب، في ظروف تاريخية أفضل، لم تعد سالمة من التشويش والشعور بالضياع، إلا أن الأمر منطقياً مضاعف بالنسبة لسكان البيرو الأصليين في رأيي، ومن شاكلهم من ضحايا الأوروبيين.
لكن حسبما قرأت، بدأ الاتجاه إلى تعزيز حضورهم في شئون الحياة المهمة يقوى ويزداد أهمية لدى ذوي العمق الفكري منهم منذ منتصف القرن الفائت. وهم الآن على ما أعتقد يجمعون شتات كرامتهم ويستعيدون توازنهم، أو يحاولون بجد.
لاحظت بأن عمومهم لا يتوقعون دائماً لفتات اللطف والاحترام، ويكون تقديرهم لها مخلوطاً بالذهول في أحيان كثيرة. وأتصور أن هذا مرده إلى الرؤية الدونية المؤسفة تجاههم من قبل الآخرين.
بيد أن بعضهم ممن قابلت وحادثت على جانب كبير من الوعي، دون فقدان للطف المميز وبساطة التعامل، ولعل هذا مرده إلى ترويج الوعي القومي المتزايد والحرص على التعليم والتعلم عن الآخرين.
لكن مع ذلك، لا زالت الحياة العامة والحديثة تتجاوز أو تتجاهل تقاليد الأصليين وحضورهم. بالتلفاز، لا يرى المرء علاقة بين أشكال وحضور الظاهرين بالدعايات والغالبية العظمى ممن يرى بالشوارع. ترى بالتلفاز أشخاص لهم مظاهر أسبانية، وأحياناً أشكال تتخطى حتى المظهر العام المتوقع من الأسبان إلى الأوروبيين الخالصين، وأساليب الحياة الغربية المنمطة يروج لها بشدة على التلفاز.
ماذا بوسعي أن أقول عن المطارات؟ إني غير مجرب إلى حد بعيد، لكني لم أتوقع بعض الأمور صدقاً. مطارنا بالرياض، كالعادة، مكان شديد البرودة معنوياً، شديد الجلافة، وكأنما كل ما فيه، خصوصاً العاملين به، مجرد تماثيل ذات أشكال تلقي الهم بالنفس، وهذا ينعكس على مرتاديه كذلك، على نحو مفهوم.

سافرت على الخطوط البريطانية في ذهابي إلى لندن، محطتي الأولى. وقد ذهلت من جودة الخدمة، والتهذيب الشديد الذي كان العاملين عليه، إنه تعامل راق على مستوى شخصي. ورغم أني لم أجرب السفر كثيراً كما أسلفت، إلا أني خلال الرحلة ومروري على بضعة خطوط عرفت أن الخطوط البريطانية خطوط لا غبار عليها إجمالاً.

كان هبوطي الأول في مطار هيثرو في لندن خلال ذهابي. كنت قلق جداً، لعلمي بضخامته. لكن حالما هبطت الطائرة أرشد كابتن الطائرة المسافرين بطريقة سلسة ورائعة، مع إعادة باللغة العربية من قبل مضيفة. قال فقط بأن من سيواصلون رحلتهم يتبعون اللوحات ذات اللون الفلاني، ومن سينزلون في لندن يتبعون اللون الآخر. كان هذا نصف القصة عموماً، لكن حتى النصف الثاني لم يكن صعباً أيضاً. وكان العاملين بالمطار غاية بحسن التعامل والذوق إجمالاً، ولا خلاف لديهم على إرشاد المرء، خلافاً لما يشاع لدينا. إذ استوقفت عامل شحن أسود، وأرشدني بلطف لما أحتاج.
هو مطار ضخم، ولكن يسهل على المرء فيه أن يجد طريقه، إذ أنه منظم على نحو رائع جداً، بحيث يصعب الضياع حينما يجد المرء المسار الصحيح.
حينما وصلت قرب بوابتي كان علي الانتظار لوقت طويل، فتمشيت في محلات تبيع مختلف الأشياء. كان المكان أشبه بسوق، لكني لم أكن مهتماً بشراء شيء، سوا كتاب أثار اهتمامي واشتريته في طريق عودتي.

واصلت الرحلة من لندن إلى ميامي في أمريكا، على الخطوط الأمريكية. ويرى المرء الفرق بين الشركتين على نحو واضح. إنه لأمر غريب أن تختلف ثقافتين بأمور مؤثرة رغم تشابهما من حيث المبادئ إلى حد التطابق. حالما جلست في مكاني لاحظت أن المضيفين والمضيفات نافدي الصبري، مباشرين بصفاقة وغفلة. رأيت مضيفة يشرح لها راكب وزوجته أمر ما، فأوقفتهما بيدها قائلة: هذا كل ما أحتاج إلى سماعه، وحينما حاول أن يبين أكثر كررت بطريقتها الشوارعية، ثم شرحت له ما بدا أنه يشكل عليه، ويبدو أنه يتعلق بشئون الهجرة، أي أنها لم تكن غاضبة. وهم يتكلمون عموماً وكأنما هم منزعجين من العمل والاضطرار للتعامل مع الناس.
أما الشيء الغريب فكان الطعام على تلك الرحلة. لم يتوقفوا عن إطعام الناس، تارة وجبات كاملة، وتارة أطعمة خفيفة، حتى صرت أرفض عرضهم للطعام، إذ لم يكن هناك مجال لأكل كل هذا. حتى الوجبات كانت كبيرة على نحو غريب، بكميات لم أرها على خطوط أخرى.
كنت متحمس لشيء معين... كان الكولا. كنت أريد أن أتأكد إن كان الكولا سيكون جيداً. وكانت العلب منتجة في أمريكا. لم يكن جيداً، ربما أفضل بقليل لما يعلب لدينا، لكنه ليس جيد، وليس بجودة ما أشرب في برقركنق، أو شربت بالبيرو. ربما كان هذا لاستخدامهم شراب الذرة للتحلية بدلا عن السكر، إذ أن هذا شيء منتشر في أمريكا، استبدال السكر بشراب الذرة، لأنه أرخص بالنسبة إليهم لإنهم ينتجونه بكميات ضخمة، على عكس السكر الذي يستوردونه على حد علمي.
إلى جواري، ويفصل بيني وبينهم الممر، رجل هندي مسن بالثمانين من عمره، وزوجته من نفس العمر. وهم هندوس. كانوا لطفاء، دائمو التبسم تجاهي، وقد رأيت الزوجة تلفت نظر زوجها إلي؛ لعلها تقول بأني أشبه أحد الأقارب.  ساعدتهم بفتح علب الكولا، إذ لم يستطيعوا فتحها بأنفسهم، وملئت لهم الاستمارات المطلوبة في المطار الأمريكي لسلطات الهجرة، إذ لا يعرفون الكتابة باللغة الانقليزية. كان الشيخ يتحدث بلغة انقليزية على جانب من الضعف. لسوء حظهم، العجوز خصوصاً، أن أمامهم عائلة أوربية شرقية، رجل وزوجته وطفلتهم الرضيعة، وكان الرجل أمام العجوز قليل ذوق بصدق، يميل المقعد إلى أقصى حد عليها، حتى آلم ركبها، وكلما لفتوا انتباهه رفع الكرسي، ثم عاد وخفضه بعد دقيقتين أو ثلاث بقلة إحساس غير معقولة. حتى المضيفة أفهمته بلا فائدة، فكفت العجوز عن تنبيهه. كانت مرهقة في تلك الرحلة الطويلة، ولم تتمكن من النوم. عرضت عليها مبادلة المقاعد حتى تستريح قليلاً، ووافقت ونامت مباشرة. تحدث زوجها معي، متسائلاً من أين أنا، وأخبرني عن نفسه. هو رجل هندوسي على جانب من الثراء، يملك مصنعين ومزارع، لكنه لم يتعلم كثيراً. وهو يزور كل بضعة أشهر ابنين وابنة له مقيمين في أمريكا، يعملون أطباء ومهندسين، بعدما اهتم جيداً بتعليمهم. سألني إن كنت متزوجاً، فلما نفيت تسائل لماذا، وحاول إقناعي. قال لاحقاً بأني سأدخل الجنة، لم أستوعب رغم قوله جنة باللغة العربية إلا بعدما أوضح بتأكيد بأنها الجنة التي لدى المسلمين كذلك وسواهم، قائلاً بأن أمثالي لا بد أن يدخلوا الجنة. شكرته على رأيه، ولكنه أوضح أنه ليس بالأمر مجاملة، فالجنة للناس الطيبين.

نزلت في مطار ميامي. هناك تعرفت على حقيقة جديدة، ذكرتها بالتدوينة السابقة؛ السود الأمريكان ليسوا لطفاء إجمالاً. إنهم على جانب كبير من السوقية وسوء التهذيب وقلة الصبر. كان هناك فتاة سوداء تنظم الناس وكأنهم غنم، وتصدح بصوتها بأبعد أسلوب عن الذوق. لحسن الحظ، كان مسؤول الهجرة رجل أبيض طيب، لعله في أواخر الأربعينات من العمر، نظر إلي بتأمل، وتسائل لماذا أذهب إلى البيرو، وأفهمني بأني يجب أن أملأ استمارة غير التي ملأت، وحاول أن يكون متساعداً. كنت مرتبكاً إلى حد بعيد، لكنه حاول أن يكون مُطمئناً. قال لي حينما فرغت من عنده: لا تقلق، وكررها. أعتقد بأنه لسبب ما تعاطف معي.

ذهبت لأنتظر الحقائب، وقد استغرقت وقت طويل جداً لتصل؛ ففي المطارات الأمريكية، حتى لو كنت عابراً، يجب أن تستلم حقائبك وتمر بها على التفتيش، على خلاف ما يجري في بريطانيا، وهذا أمر سخيف، لكن على الأغلب يتعلق بوسواس الأمن لديهم.
في ذلك المطار، لا يدري المرء أين يذهب، لا شيء واضح، ليس مثل هيثرو. وجدت امرأتين لاتينيتين خلف طاولة استعلام، يتحدثن بحماس عن شأن في حيات إحداهن على ما يبدو، لكنهن كن لطيفتين وساعدنني بابتسامة. وقفت في صف طويل، وكان هناك كثير من التذمر. كانت أمامي امرأة لا أدري من أين هي، لعلها في الخمسينات، وتكلمت عن طول الصف، وسألت من أين أنا، وتبسمت. لسوء الحظ، كان من سيفحص جوازي أمريكي أسود، نافد الصبر، كريه إلى أقصى حد. بعده مررت حقائبي في جهاز، وسألوني عما بها، ويبدو أن الرجال السفهاء الذين يراقبون الجهاز قد وجدوا ما يضحك في حقائبي، ولا أدري ما هو، ولكنهم على الأقل انتظروا حتى ابتعدت ليضحكوا، وهم رجال بيض. وربما لو كانوا سوداً من ذلك البلد لقالوا النكت أمامي، من يعلم؟.

لم أدري أين أذهب، لا يوجد علامات واضحة على البوابة، بالكاد وجدت طريقي، وقد تأخرت كثيراً، كثيراً، حتى كدت أخشى فوات الرحلة، بسبب الإجراءات الطويلة والغبية رغم أني لن أنزل في بلدهم. وبالواقع، كانت الرحلة قد أوشكت على المغادرة، فلو ظللت طريقي أكثر، ومع تباعد المسافات بالمطار، لفاتتني الرحلة. إنه مطار غبي حقاً، ليس بسبب الإجراءات فقط، لكن لعدم تنظيمه على نحو بديهي.
إلى جانب البوابة حيث سأصعد إلى الطائرة، تواجد محل ايسكريم، يبيع فيه شاب لطيف جداً، لاتيني، لا يحسن الانقليزية كثيراً، فقط بعض كلمات، وحاول ممازحتي، لانه يبدو أنه بطبيعته محب للناس. كان الايسكريم لذيذ.
أما البوابة، فقد أثارت اهتمامي لأني رأيت الكثير من البيروفيين الأصليين، وكان الجو على جانب من الصخب، وكأنما يجمع الناس حس احتفالي غريب.

الحمامات بالمطار غير نظيفة عموماً، ويبدو أن الناس هناك لا يحترمون النظافة العامة في الحمامات مثلنا تماماً.

حينما صعدت الطائرة المتوجهة إلى ليما كان مكاني فيها إلى جانب امرأة مسنة من السكان الأصليين، وحاولت محادثتي بالاسبانية، وبدا عليها الاضطراب الشديد، كان لديها شيء مهم لتقوله، لكني لم أفهم، قلتُ بعجز: نو اسبانيول. ابتسمت لي بارتباك، وكأنما وقَعَت في ورطة. ناداها رجل مسن، ضخم الجثة ذو حضور رزين، من جنسها، وقالت له بأني لا أتحدث الاسبانية. أشار إلي الرجل الواقف عند كرسي آخر بعيد، في الممر الموازي من الطائرة، فذهبت إليه مسرعاً. بكلمات انقليزية قليلة قال بأن تلك زوجته، وأن هذا مقعده هنا. فهمت مباشرة، وأخذت بطاقته وقلت مبتسماً: حسناً، وأعطيته بطاقتي. حينما هممت بالجلوس استوقفني، وبدا مذهولاً، ومد يده مصافحاً، وقال بالانقليزية: شكراً.
أما من كان إلى جانبي هنا، فكان رجل، كالغالبية العظمى من الموجودين، من السكان الأصليين، وبدا بأنه على مستوى عال من العلم، حيث كان يراجع ويكتب أموراً عن الكيمياء في أوراق كثيرة معه وعلى الحاسب كما لاحظت. لكن، بدا وكأنه متضايق مني بشكل ما. جائت مضيفة، وكلمتني باللغة الاسبانية، وكنت أنتظرها لتفرغ حتى أخبرها بأني لا أفهم، لكن الشيخ الذي بادلته المقعد صاح من جوار زوجته بعيداً:"نو اسبانيول!!". كان يتابع أمري من بعيد. أعتقد أنهم يحسبون أني بيروفي.
لسوء الحظ، قلمي توقف عن العمل، وهو قلم منحني إياه الدكتور الألماني هدية منذ فترة طويلة. كنت خجلاً جداً، لكني تجرأت بالنهاية واستعرت من جاري قلمه، وأعطاني إياه بصمت، وإن يكن بلا تردد. كان يجب أن أملأ استمارة وزعت علينا.
إلى جواري عبر الممر الضيق، جلست امرأة جميلة جداً، بيروفية، ومعها طفلها، لعل عمره سنتين، من أجمل الأطفال الذين رأيت. يبدو أن والده رجل أبيض، إذ أن له ملامح والدته الأصلية، ولكن له الشعر الأشقر الخفيف، والعينين الشفافتين العسليتين. اسمه ايثن. لاعبت الصبي، وكان لعوباً، لكن لم يكن صعب المراس مع والدته، التي كانت فرحة به جداً، لا تمل من ملاعبته.
قبل هبوط الطائرة، بدأ بعض الرجال المسنين بالتحدث بصوت مرتفع جداً، وكأنما هم لوحدهم، ثم بدأوا يغنون ويقلدون عزف الموسيقى بأصواتهم، كانوا مزعجين جداً. وحينما هبطت الطائرة، كلمني جاري أخيراً. أعتقد أنه ظنني أمريكياً. ولما قلت بأني عربي من السعودية، شُده، وربما أُخذ، كان أمر غريب، وبدأ يسأل بفضول، أين سأذهب؟ وكم سأبقى؟ ولماذا اخترت البيرو؟، وظل يحادثني، وكان الناس قد بدأوا بالوقوف استعداداً لأخذ حقائبهم، وقد تجمهروا من كانوا بالقرب علينا، وسألوا الرجل، وأخبرهم بأني عربي. وحينما أنظر كان الناس يبتسمون في وجهي. وجه آخرين بعض الأسئلة كذلك، ورحب البعض بي، بينما هز الآخرين رؤوسهم موافقين.
حينما نزلت، وعبرت الجوازات كما قلت في أول تدوينة عن الرحلة. مطار ليما حديث التصميم، على جانب كبير من العملية والبساطة، لا يوجد بهرجة واستعراض هندسي، لكن التنقل فيه واضح جداً، ولا مجال للضياع. وهو بطبيعة الحال أصغر من المطارين السالفين، وأصغر من مطارنا حتى، لكنه ليس مثل مطارات المدن الصغيرة الأخرى طبعاً.
وجدت فتيات من شركة اتصالات، يعرضن على القادمين شراء شرائح سياحية. وكن من شركة قرأت لكثير من الأجانب ممن ينصحون باستخدام ارقامها على الانترنت، لكني لاحقاً اعتقدت بأنها أقل جدوى من شركة أخرى منافسة، يلجأ إليها البيروفيين أكثر. تقول كارلا بأنه ربما تكاليف الاتصالات الدولية أقل في الشركة التي اشتريت، لكني لا أعتقد هذا.
لم أعرف كيف أتصل بكارلا، وصادفت جاري بالطائرة، الذي جاء ليسألني إن كان كل شيء على ما يرام. أخبرته بالمعضلة، فساعدني بالاتصال عبر جواله، لكن جوال كارلا كان مشغولاً.
عند استلام الحقائب، لاحظت أمر شديد الغرابة؛ العاملين هناك يتواصلون عن بعد بالصفير، صفير أشبه بتغريد الطيور، التغريدة تجيب الأخرى بصوت ونمط مختلف، وكأنما هي لغة، ولا يحتاجون بعد ذلك إلى التحدث. يشعر المرء في لحظات معينة، حينما يستمع إلى "الحوار" الصفاري، بأنه في حديقة غناء.
وعلى وجه العموم، لاحظت أن الناس هناك، خصوصاً بالمجتمعات الصغيرة الأصلية، ماهرون بالصفير، على نحو لم أسمع مثله من قبل.
تذكرت ذلك الحين برنامج وثائقي قديم جداً، رأيته حينما كنت في الثامنة على الأغلب، عن أهل جبال الانديز، وتواصلهم من مختلف القمم وعبر الوديان بالصفير.
بيد أن المرشدة في تشاتشابوياس، حينما سألتها لماذا يصفر الرجال لسائقنا، قالت بأنهم أصدقاؤه وهكذا يلفتون انتباهه، ولكن هذا السلوك ليس مهذباً.

المطارات الأخرى بالبيرو كانت بسيطة، وصغيرة كما هو متوقع. مطار كوزكو كان على بعض الفخامة المعقولة، لكن ليس بمستوى مطار ليما، العملي أساساً.

عند مغادرتي مطار كوزكو إلى بويرتو مالدونادو، كانت رحلتي قد تأخرت كثيراً، حتى أن البوابة لم تفتح، ولم يبدو أن هناك أي إشارة إلى الرحلة. قلقت بشدة. وبعد وقت طويل كلمت موظفة، يبدو أنها مشرفة، تقف قرب أجهزة تفتيش الحقائب، ولم تكن تتحدث الانقليزية، لكنها اهتمت كثيراً بفهم ما أريد، ربما لكوني توترت كثيراً، ولم أفهم لماذا لا يوجد إشارة في أي مكان إلى الرحلة. حينما فهمت مشكلتي، بعدما أخذت أوراقي وفهمت بضع كلمات، أشارت علي، بصرامة شخص يتحكم بعدة موظفين، أن أجلس بالقرب من موقعها وأن لا أبتعد، واستخدمت جهاز الاتصال اللاسلكي لبعض الوقت. ثم جعلت أحد ما يخبرني بأن الرحلة لم تلغى، وأنها فقط تأخرت وستوضع شاراتها عند البوابة قريباً، حيث سيأتي موظفيها. كان الموظفين على البوابة منذ وقت طويل تابعين لشركة أخرى، ولم يساعدوني بطبيعة الحال، ولم يكن لديهم معرفة بأمر الرحلة الأخرى.

كنت قد سافرت على حافلات هناك لساعات طويلة، وذلك لأني أردت زيارة مناطق غير مطروقة كثيراً من قبل السياح، ولا مطارات فيها. كنت في الدرجة الأولى بالحافلة، وهي تختلف حقاً عن الدرجة المتأخرة، المقاعد مريحة جدا، ويوجد مضيفة تقدم الوجبات اللذيذة والمشروبات، ويوجد حمام نظيف، ولا أدري عن الدرجة المتأخرة. وقد حيرني وجود درج في الحافلة، وكنت أواجه صعوبة بالفهم أين يجب أن أتوجه، ربما لأني لم أعتد الحافلات، إذ لا نقل عام بالرياض، وحينما أسافر داخل المملكة يكون هذا بالسيارة عموماً، سوا مرة واحدة بالحافلة، ولم يكن هناك شيء مميز. لحسن الحظ، كان الناس يتعاطفون معي كثيراً في محطات الحافلات والأماكن العامة، حينما يرون بأني لا أدري أين أذهب ولا أستطيع التواصل جيداً لعدم تحدث الأغلبية للإنقليزية، فيبذلون جهدهم لمساعدتي.
وعلى وجه العموم، الحمامات العامة بالبيرو نظيفة جداً، على الأقل مما رأيت. في محطات الحافلات مثلاً، حيث آتي لأسافر بين بعض المناطق، وهي محطات بسيطة وعادية، كانت الحمامات دائماً نظيفة، ولم أرى شخص يدخل لينظف بعد كل مستخدم للحمام، بالواقع لم أرى شخص ينظف رغم أنه بالتأكيد يأتي أحد لهذا الغرض من وقت إلى آخر، لكن حتى الدخول بعد شخص آخر إلى الحمام لا يجعلك تجد المكان قذراً أو متسخاً، يبدو أنه أمر ثقافي، إنه يتركون الحمام نظيفاً بعد استخدامه. أشعرني هذا بالأسف على حالنا كثيراً. إني أمتنع في أغلب الأحيان عن استخدام الحمامات في الأماكن العامة في بلدي كالمطاعم لأنه لا يمكن أن يستخدمها أحد كما يجب، أو يتركها نظيفة بعد الاستخدام، رغم جهود الكثير من المطاعم بالتنظيف. تدخل الحمام وتجد البول في كل مكان، والمناديل الرطبة تتوزع على الأرضية، وإن كان الحمام من النوع العربي فستجد الفضلات على البلاط.

عندما أردت مغادرة البيرو، سألتني الموظفة بالمطار، بعدما استئذنت لسؤالي عن أمر شخصي. سألت لماذا لا ألبس مثل ما ألبس على الجواز؟. أخبرتها بأن ملابس مماثلة معي بالواقع بالحقيبة، لكن قيل لي هنا بأن لا ألبسها، لأنها قد تسبب سوء فهم وخطر من قبل البعض، من حيث السرقة وخلافه.
لكن بعد انتهاء الرحلة، لا أعتقد أن الأمر بالسوء الذي صورته كارلا حينما نصحتني بعدم ارتداء الثوب. ربما في ليما، لكن ليس بالأماكن الآخرى. ولو عدت، سأرتديه على ما أعتقد.

كانت رحلة العودة مرهقة جداً، وأطول من رحلة الذهاب. نزلت في مطار نيويورك بدلاً عن مطار ميامي، وكان مطار نيويورك أكبر بكثير وأقبح، وأهله أكثر فظاظة، ورواده كذلك من الامريكيين كما لاحظت. وكان أسوأ ما بالأمر هو أني لم أجد مكان أخزن فيه حقيبتي حتى تأتي الرحلة، لأن اماكن التخزين في صالات أخرى. وكانت موظفة الطيران فظة، آسيوية أمريكية، وقد طلبت ورقة لم أعطى إياها مناولة في مطار ليما، وأصرت بأني أعطيت إياها، واكتشفنا بالنهاية بأنها دست في جوازي حينما كانت موظفة الطيران تطابق معلوماتي في ليما.
يبدو أن سمعة أهل تلك المدينة نيويورك التي تروج بالأفلام صحيحة.
أخذت دوري في صف لشراء وجبة من مكدانلدز، وكنت متقدماً عن كثيرين جاءوا بعدي، وقد افتعل رجل متأنق مشكلة مع امرأة اخرى، وكلهم امريكان، قائلاً بأنها تعدت على دوره، ولم يبدو لي ذلك، حيث أني رأيتها قبل أن أراه. وأطال الموضوع بسفاهة، لكنها لم تهتم، بعدما حاولت أن توضح بالبداية بلا جدوى.
العجيب كان حجم البرقر، كان ضخماً، أضخم مما يباع لدينا أو بالبيرو، رغم أنه من نفس النوع.
بعد انتظار امتد إلى نصف يوم، وقد غلبني الإرهاق، صعدت الطائرة، حيث نمت كثيراً إلى وصولي إلى لندن. هناك، كان الوضع أفضل قليلاً، لكني لم أعد أطيق الانتظار أكثر، كنت أشعر بإرهاق غير عادي. على الأقل، في مطار هيثرو الحمامات نظيفة، عكس قذارتها في مطار جون كندي في نيويورك، التي تفوقت على قذارتها في ميامي. 
هناك، نسيت جوازي لدى موظف شركة الطيران لحسن الحظ، حيث ذهبت لأخذ بطاقة الصعود. عدت وأعادها إلي غامزاً، مقدراً بوضوح القلق الذي شعرت به حينما لم أجد جوازي معي.
الكثير من العاملين بالمطار هنود الأصل، أو أفارقة، لكن، يا للفرق الشاسع بينهم وبين الامريكيين. إنهم أفضل أدباً وذوقاً وتعاملاً، وفي أسوأ الحالات هادئوا التعامل محافظين على مساحة من الاحترام.
مفتشة حقائب شابة، تفتش الحقائب التي تحمل مع الراكب، وجدت في حقيبتي كريم الشعر، وقالت بأن العلبة أكبر من الحجم المسموح، واعتذرت لأني لا أستطيع الاحتفاظ بها. قالت بأسف بأنها تخشى بأنهم أفسدو إجازتي، وذلك حينما بدى علي عدم الرضا لأن الكريم لم يؤخذ في مطارين سابقين. تفهمت حاجتها لأخذ العلبة، وقدرت اهتمامها بشعوري.

حينما صعدت الطائرة، كان غالبية الموجودي سعوديين، على عكس رحلة الذهاب. ولكن أقرب راكب كان بريطاني، يفصل بيني وبينه كرسي. بدا كرجل أعمال، ومع اننا لم نتكلم، إلا أنه كان يحاول التلطف والتبسم باستمرار، خصوصاً بعدما فتحت له نافذة أمامي ليرى منها، بعدما لاحظ بأنه لا يستطيع أن يرى من نافذتي جيداً.
المضيفات كن مختلفات عن مضيفات الذهاب، كن أكثر صرامة، وقد رفضت إحداهن ترك حقيبة ظهري بين رجلي، كما كنت أفعل طوال الرحلات. لكن تواجدت مضيفة عراقية على ما يبدو، لعلها في أواخر ثلاثيناتها، كانت تلقي بنظرات غريبة ومتأملة تجاهي، وكانت تتصدد حينما تمد تجاهي وجبة أو ما شابه، رغم ردها على شكري بذوق مرتبك، وكأنها لم تتوقعه. أما ما استغربته كان مضيف آخر، شاب، عراقي كذلك ما يبدو، نظر تجاهي بضع مرات بازدراء غير مفهوم، ثم حينما وجدني نائماً ألقى علي خبزة مغلفة كان يوزعها على من يريد. لم أفهم سبب تلك الوقاحة، ولست أتخيل بأن جميع السعوديين عانوا منها على الطائرة، إذ رأيته يتعامل مع آخرين بأدب أفضل. لم أقل شيئاً، لكني راسلت الشركة حينما عدت مشتكياً، وقد ردوا معتذرين، موضحين بأنهم سيتخذون موقفاً من هذا المضيف.


لم أسافر كثيراً، لذا يبدو لي أنه من المحرج أن أتقدم بنصائح وأفكار لمن يريد السفر، مع ذلك، ربما أفادت هذه الأفكار شخص مثلي، لا يسافر كثيراً ولا يعرف.
من أفضل النصائح التي أفادتني جائت من أخي الكبير، نصحني بأن آخذ حقيبة أخرى أصغر من حقيبتي الأساسية، وتكون سهلة الحمل وبسيطة. كنت أشعر بأن هذا أمر لا داعي له، خصوصاً لحملي حقيبة صغيرة على الظهر. لكن تبين أن الحقيبة الأخرى مفيدة جداً، خلال التنقل بين المطارات والانتظار خلال الرحلات الطويلة جداً، وخلال الاستمتاع بالرحلة نفسها بعد الوصول. قد يترك المرء حقيبته الكبيرة في مكان، ويستغني بالحقيبة الصغيرة ليوم أو اثنين، حتى يزور منطقة قريبة ويعود، دون أن يجرجر حقيبته الكبيرة. هذا خلافاً لوضع الأشياء الاحتياطية خلال التنقل بين الطارات فيها، وكذلك لمساهمتها في تخفيف وزن الحقيبة الكبيرة التي يكلف وزنها مالاً حينما يزيد عن حد معين عند الشحن. وأتخيل بأنه يمكن اختصارها بحقيبة ظهر كبيرة، كما رأيت كثيراً بالمطارات، وهذا أمر مقبول، لكني لا أتخيل بأنه مريح حين الوصل إلى الجهة المقصودة والبدء بالتنزه، بحمل كل هذه الحقيبة الضخمة على ظهرك في كل مكان.
أما الحقيبة الرئيسية الكبيرة، فنصيحتي هي أن تكون كبيرة فعلاً، وليست صغيرة، على الأقل متوسطة، خصوصاً لرحلة طويلة وبعيدة، وخصوصاً إذا ما كان المرء سيعود بهدايا، وهي في أسوأ الأحوال يمكن أن تخزن الحقيبة الثانوية إذا لم يجد المرء لها استخداماً.

حينما تذهب إلى بلد غريب، كن مستعداً وراغباً بتكوين صداقات، هذه العلاقات تساعد بجعل ذكرى الرحلة حية، وتكسب المرء علاقات إنسانية بأبعاد قد لا يكون قد استكشفها أو تأمل بها.
لا مفر كذلك من سوء الفهم الثقافي، لكن تصحيحه ممكن جداً، وقد يصنع ذكرى جميلة كذلك.

كن كريماً بقدر ما تستطيع، أعتقد بأن الأمر لا يتعلق بصنع ذكريات جميلة للمرء نفسه فقط، لكن للآخرين كذلك. والكرم لا يكون مادياً فقط، لكن معنوي كذلك. إن المبدأ نفسه مهم في رأيي مثل أي غرض آخر من السفر؛ صنع ذكريات حلوة للآخرين، سواء أهل البلد أو زواره، إنه أمر يصنع المعجزات في العلاقات الإنسانية، ورؤية الناس لبعضهم البعض، ولقلب المرء نفسه.

بالنسبة للتصوير، إن الكاميرات العادية تفي بالغرض بالنسبة لمستخدم عادي في رأيي، أما المحترف فلا يحتاج إلى نصيحتي. لا أقترح الإسراف بشراء كاميرات مرتفعة الثمن، فالكاميرات بخمسمئة أو ستمئة ريال، أو حتى أقل، كثير منها ممتاز في السنين الأخيرة، وتملك مزايا كثيرة، كما أنها سهلة الاستخدام وممتعة.
لكن ما أعتقد أن الكثيرين يغفلون عنه هو مسألة كاميرا الجوال. ما أقترحه هو أخذ جوال جيد في سفرك، بكاميرا ممتازة في حال نسيت كاميرتك في الفندق أو لم تكن مستعداً بها.  يفكر معظم الناس بأخذ جوالات رخيصة معهم حتى إن سرقت لا يخسرون الكثير، لكن كاميرا الجوال ضرورية جداً في رأيي إلى جانب الكاميرا المستقلة. أرى أن يأخذ المرء جوال جيد بكاميرا ممتازة ويحرص عليه جيداً، فهو سيفيد حتى بالتواصل وإرسال بعض الصور إلى الأهل في البلاد.
ويجب تصوير كافة الوثائق المهمة كالجواز والهوية والتأشيرات بكاميرا جيدة، أو باستخدام برنامج سكنر على الجوال، وهو برنامج أنصح بشدة بالاحتفاظ به على كل جوال. ويجب رفع الصور على الشبكة في حساب المرء، على البريد أو خدمات التخزين.
كذلك، البطاريات الاحتياطية مهمة جداً، تلك البطاريات المحمولة التي تشحن كالجوال، ثم يمكن استخدامها بشحن الجوال أو الكاميرا في أي مكان. إنها منقذة للحياة، وبالواقع أحملها معي كثيراً حتى بالرياض.

التأمين الطبي لا يجب إغفاله أبداً. إن كان المرء سيسافر بمساعدة وكالة سياحية فليسأل عنه ويعرف كيف سيستخدمه، وإن كان سيعتمد على نفسه فقط فليشتريه فتكلفته معقولة أمام ضرورته. ذهبت إلى الطبيب مرتين هناك، وقد أفادني التأمين كثيراً وبسط أموري. حتى الأدوية أخذتها مجاناً. لا يدري المرء إن كان سيحصل له عرض مفاجئ أو حادث. لم يحصل لي حادث هناك لكن جرح في قدمي تطور (أعتقد أنه ترك ندبة دائمة فيها، لكنها ندبة حلوة ستذكرني بالبيرو)، وكان يجب أن يراه الطبيب لأن قدمي تورمت وساء حالها.
وهذا ما يمكنني قوله، ربما أوحى بفكرة لأحد ما يرغب بالسفر.

كنت أبحث عن مشروب لوالدتي في دكان صرت أتردد عليه مؤخراً، لكثرة خيارات المياه الجيدة فيه، حينما جاء أحد العاملين، صبي يمني أراه كثيراً، وحاول التعرف إلي. لست أفاجأ حينما يسألني أحد إن كنت من خارج الرياض، خصوصاً حينما لا يكون سعودياً، لكني لم أفهم مفاجئته الكبيرة حينما لم أكن كما توقع، ولم أفهم كذلك لماذا لم يرد أن يخبرني ماذا توقع بالضبط. قلت بأني لست من الرياض، فقال بأنه خمن هذا، فأنا هادئ، وهي ملاحظة سمعتها من الكثير من غير السعوديين في الأماكن التي أتردد عليها، رغم أني لا أرى صدقاً أن السعوديين من فئتي العمرية أصخب الناس. أراد المعرفة أكثر، قلت بأني من القصيم. اتسعت عينيه، لأنه توقع إجابة أخرى، ربما توقع أن يصدق تخمينه مرة أخرى. قال بأني لست مثل أهل القصيم، الذين وصفهم بعدم الهدوء كذلك. إني أشك عموماً بأنه يعرف أهل القصيم؛ فلا يبدو لي أنه عاش هنا منذ فترة طويلة، نظراً للهجته و حضوره وصغر سنه. سألته من أين توقع أن أكون؟ ارتبك، رغم ابتسامتي، وقال من بعيد، ورغم تكرار للسؤال، إلا أنه كرر؛ من بعيد. قلت: توقعت أني من الجنوب؟ قال لا.
أخبرني بأنه يعرف طبيب أمريكي مسلم يأتي إلى الدكان كذلك، وهو يتحدث القليل من العربية، بينما الصبي نفسه يتمنى لو تعلم الانقليزية، وقال بنوع من الزهو أنه يعرف الأحرف الانقليزية، لكن عقب بخيبة بأنه تعلم هذا حينما كان بالمدرسة، وأنه يتمنى لو تعلم أكثر. شعرت بالأسف، بالواقع، ليس كذلك أول من يخبرني برغبته بتعلم اللغة الانقليزية؛ يمني آخر، في دكان آخر، كان قد أخبرني برغبته، ولا أدري لماذا اختارني ليسألني إن كنت أعرف اللغة، لكن سره أني أعرف ليحدثني عن طموحه.
بيد أن هذا الصبي أثر بي كثيراً بموقفه، إنه يعمل هنا ولم يكمل دراسته، وهو صغير بوضوح، وهو يريد أن يتعلم أكثر. أتمنى لو كان بيدي مساعدته، ولو على الأقل لتعلم اللغة الانقليزية. لا خلاف لدي على شراء شيء أعتقد أنه قد يعينه على تدريس نفسه، شيء بسيط ويناسب الاستخدام في دكان. فكرت بشراء قاموس الكتروني بسيط، من النوع الذي يحوي دروساً، لكن هل سيعرف استخدامه، أو هل سيثير اهتمامه ويفيده؟. اشتكى كذلك من ضعفه باللغة العربية، وسألته إن كان يقرأ الجرائد الموجودة؟ قال بأنه لا يقرأ إلا الفيسبوك والوتساب، أخبرته بأنه يقرأ الصحف، ويحاول بصوت مرتفع لكي يسمع نفسه جيداً.
تساءل إذا ما كنت قد أتيت هنا من قبل؟ عرفت بأنه متشكك، رغم أني أعرف بأنه يراني في كل مرة، فهو غالباً من يحضر شد قوارير الماء لي من المستودع، لكنه غير واثق هذه المرة لتغيير في مظهري. قلت بأني آتي دائماً، وأني أنا من يرى لكن ربما القبعة غيرت مظهري قليلاً. قال بأنه لا يدري، لكن شكلي اليوم ملفت جداً. إنها قبعة صوفية، بيني، اشتريتها قبل سنوات بخمسة أو ثلاثة ريالات، ألبسها أحياناً بالشتاء مع اخت لها، لكن لعلها كانت اختيار موفق، حيث سؤلت عنها بضع مرات على مر السنوات.
هؤلاء الصغار من اليمن خصوصاً، لماذا يسمح لهم بالقدوم للعمل بالدكاكين؟ ما الضرر لو تم دعم مدارسهم ومعيشتهم وأهلهم هناك بدلاً عن الانشغال بسواهم؟ فالأقربون أولى بالمعروف.


كنت قد قلت في تدوينة سابقة عن تسجيلي بموقع للتعارف والمراسلة، حيث حققت فيه نوع من النجاح لم أعرفه في مواقع أخرى.
إني سعيد جداً بالفرص التي أتاحها لي الموقع، تعرفت على بضعة أشخاص مثيرين للاهتمام، من أماكن مختلفة، وقد بدأوا يهتمون بأمري ويسألون عني بعد القليل من المراسلة.
أعتقد أن أفاتاري، الموجود كذلك أعلى هذه المدونة، يجذب الكثير من الناس، حيث أني لم أنشر صورة وجهي هناك. ولم أكن أرغب بصراحة بإرسال صورتي إلى أحد، لولا حسن نية شخص آخر بادر بإرسال صورته، وضاعت بالبريد، فلم أستطع أن أخفف من خسارته، إذ أنها صورة خاصة بالملابس التقليدية لا يملك منها إلا نسختين، فأرسلت صورتي، حيث قال بأنه ابتسم حينما رآها، إذ أنها تشبه الأفاتار الذي صممته لنفسي فعلاً.
استلمت كذلك من شخص آخر هدايا لطيفة، أشعرتني بالخجل. إن الكرم وسلامة النية واللطف لا يعرفان انتماء محدد، صحيح أن هذه الصفات قد تزيد وتغلب في مكان عن آخر، لكنها لا تحتكر في مكان أو تمتنع كلياً عن مكان في اعتقادي. رددت بإرسال هدايا، لكن رد عليها بأفضل منها.
ربما العلة في هذه الهواية تكمن في طبع بعض الناس في اعتبارها مجرد مراسلة مجردة من المعنى، وكأنما كل ما في الأمر هو جمع مراسلين من كل مكان بالعالم للمفاخرة بهم. مثل هؤلاء غالباً ما يرسلون نفس الكلام إلى الجميع، حيث لديهم قوالب جاهزة كتبوها مسبقاً. أحد من أراسلهم، الذي بدا أني أثير اهتمامه بشدة، لديه هذا الطبع. أعتقد أنه يحاول أن يخصص بعض الحديث لي. سأرى إن كان الوضع سيتحسن، وإلا سأضطر آسفاً لإفهامه مشكلتي مع طريقته بصراحة.


عموماً، أجد نفسي الآن في انتظار رحلة أخرى، ليست للتنزه، لكن للعلاج مع أهلي. أحمل الكثير من الهم، سيكون الأمر مرهقاً جداً، الجو بارد على نحو أخشى معه على أهلي. والكثير مما يجب ترتيبه والقيام به في مكان غريب ومكلف.
سأرافق إن شاء الله نفس الثلاثي في رحلة الهند. والدتي، وأختي، وابنتها، التي نحن ذاهبون لأجلها حصراً هذه المرة.
مرت أشهر طويلة في متابعة الأمر، شارفت على الثمانية أشهر. تكاليف العلاج تتكفل بها الحكومة، وإلا لما تمكنا من القيام بالرحلة. لكن للأسف، لا يعطون مبلغ يغطي المصاريف المعتادة هناك، كما فهمت من المترجم والمنسق المكلف من الملحقية السعودية، لهذا سيكون الوضع صعباً جداً على ما أعتقد، ولا يمكنني الاستعداد بما يكفي، إذ أن ظروف معينة قد أسائت إلى وضعي المالي كثيراً.
ربما أكثر ما يخيفني هو السكن. لم نجد بعد السكن المناسب، رغم اقتراب الرحلة. السكن هناك مكلف جداً، مكلف بجنون، والملحقية لن تتكفل به، ستمنحنا فقط 4500 ريال حينما نصل كما فهمت، ونحن قد نبقى هناك لمدة ثلاثة أشهر، لكني أرجو أن تكون أقل بكثير.
كان طبيب ابنة أختي قد اقترح هذا الحل لمساعدتها. قال بأنه سيكتب توصية لعلاجها لدى طبيب يعرفه، ويعتبره أفضل طبيب في تخصصه. كان هذا قبل حوالي التسعة أشهر. هذه التوصية أخذت إلى الهيئة الصحية، جهة تابعة لوزارة الصحة تعمل على هذه الأمور. وقد أعطانا الطبيب هذا موعد بعد سبعة أشهر، مفترضاً بأننا سنكون قد عدنا من هناك بعد اتمام العلاج، وكأنما في الأمر سخرية. بالطبع جاء الموعد وقابلناه وفهم منا بأن الأمر ليس بهذه السهولة للأسف.
يُخيل إلي دائماً بأن العاملين في سفاراتنا وملحقياتنا بالخارج يتصورون بأنهم في إجازة دائمة في تلك البلدان. أحدهم لم يرسل موعد الطبيب إلى الهيئة الطبية بالرياض لأنه وصله في آخر يوم دوام قبل إجازة رسمية هناك، ولم يكن إلى جانبه موظف ليرسل الموعد بالفاكس كما عبّر، ففاتنا الموعد دون أن نعلم، سوا من اتصال المترجم الذي كان مستغرباً لماذا لم نتواصل معه لنخبره بموعد وصولنا أو نسأل عن شيء وقد تبقى ثلاثة أيام على الموعد، كادت أختي أن تفقد عقلها. بالواقع، كانت الملحقية في وقت سابق قد قالت أصلاً بأنه لم يصلهم جواب، وأنهم سيبحثون لنا عن طبيب بتخصص مماثل في بلد آخر. كانت صدمة.
حينما تواصلت مع ذلك الموظف كان يحاول أن يجيب بقدر ما يستطيع، لكن لم يكن لديه استعداد لإعطاء وقت واضح ليرسل الموعد الجديد، ولم يكن لديه استعداد للإجابة عن أي أسئلة في شأن السفر والإجراءات. بيد أنه أعطاني على الأقل بريد شخص آخر بالملحقية، الذي لم يكلف نفسه حتى الرد بذوق أو التظاهر بأنه قرأ الرسالة، قال فقط بأن أسأل الهيئة، رغم أن المعضلة كانت من الهيئة وإجابتها غير المنطقية، إذ قيل لنا بأننا يجب أن نتوجه إلى دولة أخرى أولاً لزيارة الملحقية، ثم إلى بلد العلاج المشمول تحت تغطية الملحقية. كان أمر مثير للغيض، طلبت من الأول توجيهي إلى شخص لديه استعداد للمساعدة، لكنه لم يجب، فزميله أهم. المؤسف هو أنه أجاب السؤال حينما جاء من المترجم، وتعاون معه جيداً.
تمنيت لو لم يكن لدينا سفارة هناك، وكان تعاملنا يتم عن طريق سفارة دولة خليجية أخرى.
حصلت على التذاكر مؤخراً لحسن الحظ. بالعادة، أحد إخواني هو المسئول عن مراجعة الهيئة الصحية لأجلنا، وقد قيل له بأن التذاكر لن تصدر حتى نحصل على التأشيرة. وبالمقابل، أخبرني موظف سفارة بلد العلاج في الرياض بأن التأشيرة لن تصدر حتى نأتي بالتذاكر، وقد أخبرهم أخي، دون فائدة، إذ أن هذا الإجراء المتبع مع كل الدول، والكل يحصل على تذاكره بهذه الطريقة بلا مشاكل، ويبدو أن القليل جداً من المرضى من يتم إرساله إلى حيث سنُرسل، فلا يبدو أن لدى الناس بالهيئة فكرة واضحة عن ذلك البلد. لم يتمكن أخي في أحد الأيام من الذهاب لمتابعة شأننا، لمرافقته ابنته إلى المستشفى، فذهبت أنا. كنت ذاهب لإنجاز بعض الأوراق فقط، ولم أطمع بالتذاكر، لكن لحسن الحظ، والحمد لله، حصلت على التذاكر بلا مشكلة، وكان شيء غريب، حيث قيل لي فقط بأن أحدث المدير العام، الذي لم يناقشني حتى بعد أول عبارة قلتها، فقط كتب على أوراقي: يمنح التذاكر، ووقع. فوجئ الموظفين، وتجمعوا لرؤية الملاحظة، وقال أحدهم مازحاً عن المدير: أجل خله يتورط!، فضحكوا. ذهبت إلى ناسخ هناك لطباعة بعض الخطابات لي، وكان لطيفاً، بينما احتفى زميليه بي على نحو غير مفهوم، ولكني حينما خرجت وجدت ما بدا انه خطأ، وما كدت أعود حتى سمعته يقول عني، دون أن أسمع السياق كاملاً: جزاك الله خير والله يجزاك الجنة! في تعليق على أسلوبي بالشكر. بدا الإحراج واضحاً على وجهه مباشرة حينما رآني، لكني تكلمت مباشرة، وتظاهرت بأني لم أسمع، فشرح لي بأن ما على الورقة خطأ غير ضار، إذ أنه قالب مستخدم للكل. كان الخطأ هو وضعي في خانة الوالدين للمريضة.
تتعامل الهيئة مع مكتب الفرسان للسفر، ومقر الهيئة عبارة عن فيلا قديمة قرب مستشفى الشميسي (حيث ولدتني أمي)، ومكتب الفرسان يقع في ملحق الفيلا الصغير. يعمل هناك شخصين لطيفين، احدهما سوري على ما يبدو، والآخر آسيوي، ولأن تذاكري متعددة، ولأني سأشتري تذكرة والدتي لأنها غير مشمولة بتغطية الحكومة للرحلة، تأخرت كثيراً لديهم. رأيت رجل سعودي كبير بالمكتب، يسأل ويدقق بالأمور ويتابعها. لم أفهم بالبداية ما دوره، لكني وجدته يراقبني، حتى حينما كدت أفرغ وطلبت بطاقة الموظف الآسيوي الطيب جاء، وسألني إلى أين سأذهب، وأخبرته بأنها سويسرا. قال للموظف أن يكتب رقم جواله  كذلك على الورقة مع اسمه، وأخبرني بأن أتصل عليه في حال واجهت أي مشكلة أو أردت أن أسأل، ثم أخبرني بأنه مدير المنطقة الوسطى والشرقية والشمالية في شركة الفرسان. شكرته على لطفه البالغ. اسمه سعد كذلك، حركة.
كاد أخي أن ينفجر غيضاً حينما أخبرته بأني حصلت على التذاكر من الهيئة دون جهد، وقال صائحاً بصوته الغليظ في مثل هذه الظروف: بَروح أتهاوش معهم!(!!). ربما كانوا قد ملوا منه لأنه راجعهم كثيراً.
ذهبت في يوم لاحق لإتمام أوراق أخرى وللاستفسار من مكتب السفر عن تأكيد الحجز وتفاصيل أخرى. كنت لم أذهب إلى العمل في ذلك اليوم لأني كنت في الصباح بصحبة والدتي بالمستشفى، ولم نفرغ قبل الظهر، لذا لم أكن تحت أي ضغط. رحب بي الناسخ وزميله جيداً، وقد كانا بالغي اللطف، ومزحا كثيراً. وسأل الزميل عن موقع بلد العلاج الجغرافي. لا يبدو أنهم يرسلون الكثيرين إلى هناك بالفعل. كنت قد كتبت اسم الدولة لهم لأنها غير مكتوبة ضمن قوالبهم الجاهزة للخطابات.
إني أحمل هم هذه الرحلة منذ أشهر، البرد الشديد، التكاليف التي يحاول المترجم أن يجعلني مستعد لصدمتها، التنقلات هناك، الفترة الطويلة التي قد نقضيها، وحالتي المادية السيئة، أو حالتنا عموماً.
إن ما يهون من الأمر هو الأمل، أن تتحسن حالة ابنة أختي الصحية. لو خرجنا بنتيجة واضحة وجيدة، ستكون كل صعوبة مبررة.
أسأل الله المعونة لنا والشفاء.



كانت أم الجيران في زيارة والدتي، وهي امرأة كبيرة طيبة القلب تداوم على التواصل مع والدتي، ويبدو أنها تحبها كثيراً. أحضّر لهن الفشار بنكهة الزبدة بالعادة حينما يتصادف وجودي، وهو شيء تفضله أم الجيران من "يديّ الحلوة"، بما أن محاولات الآخرين فشلت بإعداده بطريقة مرضية، رغم أن الأمر لا يتطلب أكثر من ضغط زر "فشار" على المايكرويف، بعد وضع الظرف. عموماً وقفت قرب الباب للسلام، ودعت لي المرأة، ثم تسائلت متى سأتزوج؟ وألحت بالسؤال، قائلة بأنها ووالدتي مللن انتظاري وانتظار ابنها، الذي أعتقد بأنه أصغر مني، ولم يتزوج بعد. كان أمر محرج، ولا يبدو أن لدي رد خلاف: الله يكتب الخير والصالح.




أحياناً تود أن تؤدي خدمة لأحد ما، تؤديها بتقدير واهتمام ودون مقابل بالطبع، لكنك تفاجأ بأنك علقت بدوامة لن تنتهي من تقديم الخدمات، فالخدمة تجر الخدمة، وإن انتهت شئون الشخص فلصديقه شأن يحتاج فيه إلى خدمة، فيمحو بطلب هذه الخدمات المتلاحقة أي تقدير بدأت به خدماتك، ليتحول الأمر إلى مرارة وسأم.
أعرف أن مساعدة الناس أمر طيب، ويعلم الله أني دائماً أحاول ما بوسعي لمساعدة من يمكنني مساعدته، أحاول أن أكون خدوماً كما يقال، رغم أني من النادر أن أجد من يعيد الخدمة أو يقدرها.
لكني أجد نفسي أحياناً وقد استنزفت لأجل شئون يمكن أن يقوم بها غيري، لأشخاص قادرين على مساعدة أنفسهم لكنهم يفرضون أنفسهم بشكل ما. وأشخاص لا يحتاجون فعلاً إلى مجهود كبير لمساعدتهم، لكنهم بثقل حضورهم، وتطلبهم وتشرطهم يصيبونك بالمرض وربما البغض تجاههم. لن أنسى شخص تعرفت عليه مع زميل، وجاء إلي لاحقاً في حاجة لتعريف مترجم من الجامعة، وكلما أعددت تعريفاً أراد أن يجمله بشكل ما لأنه سيقدمه إلى سفارة، بسفاهة لم أرى مثلها، حتى طبعنا ما يقارب العشرين تعريف، وصرت أنتظره يقترح أن أضع روج وأطبع قبلة محل التوقيع تملقاً للسفارة. كان متطلباً ولا يفهم، كان التعريف بأبسط صوره يؤدي الغرض، فما تريده الجهات هي معلومات واضحة ومباشرة. بالنهاية، ولبطء بديهته، لاحظ غليان دمي المكبوت، ولم يعجبه طبعاً، وقبل بالتعريف الأخير، ولم أره مرة أخرى لحسن الحظ.
وكان لي صديق لم يكن يكف عن طلب الخدمات المتعبة، ويتصرف مع ذلك وكأنه صاحب المعروف، إلى درجة أني أخدمه عند الحاجة متى طلب، وحينما أحتاجه كان يقول بنذالة بأنها ليست مشكلته، حتى انتهت الصداقة ولله الحمد غير مأسوف سوا على الوقت الذي ضاع عليها؛ سنوات وسنوات من الطفولة حتى الشباب.




قبل اسبوعين تقريباً، ذهبت إلى معارض الرياض الدولية، لحضور معرض التصوير الفوتوغرافي ألوان. وجدت المواقف مزدحمة، ليس بالسيارات فقط، لكن بالواقفين من الشباب الذين فهمت أنه لم يسمح لهم بالدخول. سمعت أن الهيئة موجودة، وكانت الشرطة كذلك حاضرة، وبدا الأمر مثيراً للأعصاب وكأنما هم هنا لردع شغب. حينما صعدت إلى البوابة، وقبل أن أصل، تعالى صياح وهرج، فرأيت شاب يصيح بالآخر، لماذا يغازل أهله؟. ثم اشتبك الشابين، بينما صحن النساء المسكينات، أخوات أحدهم، بذعر. لا يريد المرء الإقتراب وهو أعزب من هذه المواقف. سألت الشاب المسئول على الباب أن أدخل، فقال بأنه للعوائل فقط، قلت بأن الإعلان لم يقل شيئاً كهذا، قال بأنهم أعلنوا على تويتر، وكأن كل الناس يتابعونهم، أو حتى يشاركون في هذا الموقع. شرح بأن الهيئة جائت وتسببت بهذا القرار، مما أشعرني بكراهية متعاظمة تجاههم. كان إلى جواري شابين يريدان الدخول، فقال بأنه للعوائل، وما كانوا ليسمحوا لهم أصلاً بسبب ملابسهم، وقال هذا بازدراء لا معنى ولا داعي له إلا سوء تربيته. وبالواقع، رأيت أنه أسهل ما على القائمين على منع أو إدخال الناس حتى بالأسواق هو التكلم بوقاحة عما يلبسه الناس والانتقاد بجرأة. إني لا أحب صدقاً هذه الملابس، وأشعر بالحزن حينما أرى شباب لا يلبسون غيرها، وأموت قهراً وأنا أجد الثوب يزداد ندرة مع تجدد الاجيال، لكني لا يمكن أن أقدر مواجهة الناس بهذا الأسلوب الوقح، والحكم عليهم والتجرؤ بالانتقاد الشخصي دون مناسبة أو مسوغ. لم يكن الشابين يلبسان ملابس سيئة صدقاً، لم تكن الملابس أقصر من اللازم أو لافتة للانتباه على نحو خاص. مع ذلك، صار الشباب المكسور يبتلع مثل هذه الإهانات، إذ أننا شعب مُروع. ورغم أن القوي في المجتمع يأكل الضعيف، إلا أننا كذلك على جانب من التجبر والشراسة حينما تحين الفرصة حتى للضعفاء، ولا مكان للعدل واحترام كرامة الآخرين للاسف.
نزلت مشمئزاً، عبر المنحدر المؤدي إلى المواقف، وتقافزت إلى جواري طفلة لعلها بالرابعة من عمرها، فوَقَعَت، رفعتها مسمياً ونفضت ثويبها، وتأكدت بأنها بخير. حينما تحركت ماضياً قالت والدتها التي كنت أسمعها ولم أرها من خلفي: جزاك الله خير.
فكرت مباشرة، ماذا لو لم تفهم والدتها أني إنما أمسكت الطفلة شفقة، ونفضت ثوبها كما أنفض ثياب أطفال العائلة؟. ماذا لو أسائت الظن؟، فكرت بهذا وأنا أتذكر التشكك غير العادي الذي جعل الهيئة تأتي وتمنع كل العزاب عن الدخول، دون استثناء حتى لمن بعمري هذا.
إني أفهم بأن هذه مبالغة، في زمن الناس هذا، لكن بالمستقبل، مع الاستمرار بتقديم الشك والريبة في كل الناس، وتأكيد القدرة والحق بالحكم على أي أحد لحالته الاجتماعية أو شكله أو أسلوبه باللبس، ماذا يمكن أن يحدث؟. إنه لأمر مؤسف. قبل فترة، قبض على رجل تبدو عليه سيماء التدين، في سوق العثيم مول، كما أوردت صحيفة سبق على الانترنت، حيث يعمل هذا الرجل على قناة محافظة، ويقوم بأنشطة تثقيفية للأطفال بالسوق، أقول قبضوا عليه لكونه صار يستعمل الأطفال في عهدته جنسياً، وقد اكتشفوه حينما صاحت امرأة رأته يخرج بأحد الصبية، وقالت بأنه هو من استغل ابنها مؤخراً. يقال بأن الرجل انهار باكياً، وقال بأنه مُبتلى. لا شك لدي بأن مثل هذا الرجل كان سيدخل في المعرض الذي ردوا عنه كل من لا يرافق امرأة، دون أن يرده أحد، فقد رأيت هذا سابقاً بالأسواق.




هذا أغنية أحبها. بشكل ما، أجدها تعبر عن بعض أفكاري حول أمور معنوية وحياتية. أهديها للإزابيلات والفرديناندات في مجتمعنا. شق منهم سيسمع الأغنية بلا خلاف، وشق سيمتنع لأسبابه، فلا ينتمي هؤلاء القوم إلى فئة واحدة من المجتمع، إنهم ينتشرون في كل فئاته، يحاكمون، يرغمون، يفتشون عن العيوب، ويتظاهرون بالأفضلية.







حضرت زواج لقريب غالٍ مؤخراً، وكان في مكان قصي ومخفي إلى درجة ضياعي إلى حوالي الساعة قبل الوصول، وحينما يئست وكانت آخر محاولة أقوم بها قبل أن أعود أدراجي. 

رأيت هناك بعض الوجوه القديمة من الوسط الفني العائلي؛ فنانين باللطف والطيبة، وفنانين بالسخرية، وفنانين بالتمثيل، وفنانين بالنصب، وفنانين باللؤم والنذالة، وفنانين باللباقة والذوق، وفنانين بثقل الظل. بيد أنه ليس كل فنان موهوب وناجح فيما يقوم به.
لكني سعيد بحضوري، تقديراً للعريس وأهله، ولرؤية بعض من أقدرهم صدقاً من الضيوف الآخرين. سمعت مجاملات، في حين تفادى بعضهم السلام علي حتى حين، إلا أني لا أشقى بالأمر. وبالواقع، لا يتجاهل الجميع بعضهم عمداً، إن السلام على عدد كبير من الناس، وبالترتيب الملائم حسب الشروط الإجتماعية الدقيقة والاتيكيت المحلي، أمر مشوش حقاً. فقد يؤجلك البعض لأنك بالمكان أو الاتجاه الخطأ، أو لأنهم يتوقعون منك المبادرة والاقتراب، أو فقط لمجرد ضغط الموقف. لكن لا شك أن البعض يتجاهل أفراد معينين لأنه لا يريد السلام عليهم. تجاهلني أحدهم، ولم أسعى إليه، وهو دون شك لا يرتاح إلي ولا يحبني، لكني فوجئت به يسلم لاحقاً، ولا أدري لماذا.
رأيت قريب يأخذ رقم جوالي في كل مرة نلتقي، حتى لو لم تتح الفرصة لنا للجلوس أو الوقوف معاً والتحدث، مع وعد بالاتصال للتنسيق للقاء قريب، دون أن يحدث شيء. بدأت أجد الأمر مضحكاً. لكني بالحقيقة أحب رؤيته.
صادفت شاب من بعاد الأقارب من ألطف من عرفت في حياتي. قال بأننا لم نرى بعض منذ حوالي خمس عشرة سنة. لم أصدق، لكنه أوضح بأننا لم نرى بعضنا منذ زواج شقيقتي حينما تورمت يدي وآلمتني من تقديم القهوة. ضحكت لأنه تذكر الأمر بهذه الصورة، وتبين أنه محق. بالواقع، قدرت حساسيته وتذكره للمناسبة على هذا النحو، في حين أن قريب آخر كان قد غضب في تلك المناسبة لأني جلست أستريح حينما بدأوا بفرش السمط للعشاء، دون أن يفكر بأني لم أغضب لعدم مساعدة أحد لي بتقديم القهوة للجميع. بقيت يدي تؤلمني لبضعة أيام بعد تلك المناسبة، وبقيَت ليومين على وضع قبضة الدلة بالكاد أحركها. لقد بدأت بتقديم القهوة منذ العصر حينما جئنا حتى وقت متأخر من الليل.
سلمت على قريب من الأقارب الأعزاء بالقصيم، الذين يشبهون الهنود الحمر، وناديته بخلاف اسمه ممازحاً، لأن والدتي مصرة على أن اسمه عبدالسلام. أخبرته أن والدتي لا زالت تسميه بهذا الاسم. وبالواقع، سألتني بعد المناسبة إن كنت قد رأيت عبدالسلام، فهي تحبه.
قريب آخر قال مجاملاً بأنه في كل مرة يراني يجدني قد صغرت بينما هو قد كبر. قلت له ضاحكاً بأنه لابد يقصد العكس. لا شك.



سعد الحوشان

الاثنين، 1 أغسطس 2011

الراحل إلى أمانيا (ألماني،قصائد،كتب،إنكا،فيديو)

بسم الله الرحمن الرحيم




خيبة الأمل، هل هي فقط التعبير الذي تظهره وجوهنا حينما يحدث ما توقعنا خلافه، و مجرد الشعور المؤلم في القلب حينما يقوم شخص نحبه بجرحنا من حيث لم نتوقع. كل هذه أمور لحظية، حينما يحدث خلاف ما توقعنا فإنه أمر حدث في لحظة معينة، وليس حدثاً مستمراً؛ لقد تبدل القدر وعلينا أن نتأقلم، وحينما يجرحنا أحد ما، ويحطم قلوبنا، فإننا قد اتخذنا موقفاً في تلك اللحظة؛ لقد خاب ظننا، وعلينا أن نبدل من رؤيتنا للأمور وما نفعله مع ذلك الشخص. ليست هذه أمور مستمرة. لكن هل هذا كل ما هنالك؟ هل خيبة الأمل نفسها أمر لحظي؟ أم أمر قد يعيش مع المرء طوال حياته.
إني أرجح أن خيبة الأمل ليست شيء يحدث وينتهي في لحظته؛ إنه تجربة، وبعض التجارب قد لا نغادرها، أو لا تغادرنا. إن ما سبب خيبة الأمل، من خلاف للتوقعات أو جرح للقلوب، هو الأمر الوحيد الذي توقف عن التطور والاستمرار بعدما اكتشفناه، فاختلاف المتأتي عن المتوقع لا يصدمنا بعد أول مرة، وجرح القلب قد يستمر ألمه، لكنه ليس متكرراً بطبيعته على الأغلب. لكن خيبة الأمل نفسها هي أمر آخر، يحتاج إلى تعامل، أو نظر وتأمل، على حدة.

قد تنتهي الأمور التي خاب أملنا فيها، وينتهون أهلها من حياتنا، لكن خيبة الأمل تظل تطبع رؤيتنا لكل ما يشبههم، ولو مبدئياً، إنهم يظلون معنا ويعيشون في قلوبنا ليس من خلال حبنا السابق لهم، وليس من خلال جرحهم لنا وشعورنا المستمر بالأذى، ولكن من خلال خيبة الأمل التي فاقت تحملنا وأخضعتنا.



حينما تمطر بخيبة الأمل عيناي...
ويضيع قلبي في الغيم بين حناياي...
ويبدأ الصقيع بالتكون حيثما وقعت خطاي...
سيظل قلبي ينبض...
طالما بقيتم فيه...
يا أحبائي...
وأعدائي...
يا دافع حياتي...
ومصدر شقائي...
ضائع في متاهة متصدعة...
تشبه قلبي حيث تضيعون...
لعلكم لا تجدوا لها نهاية...
حتى تنهار جدران متاهتي...
فتغفون في قلبي...
إذ أنام للأبد...



كنت قد أوضحت من خلال الفيديو في التدوينة السابقة أني مقدم على أمر مهم. بالواقع، لم يتم الأمر، والحمد لله. ماذا كان؟ كانت قوازه واتفركشت، قُم الصعايدة وفركشوها بالبارود (وكسروا بريق الغضارة اللي على راس الرقاصة).
لا، أمزح عليكم بالطبع. كان الأمر هو خطة سفر للعلاج، مع نفس الثلاثي "المرح" في العام الفائت، أمي وأختي وابنتها، ولكن ليس إلى الهند، إنما إلى ألمانيا. لم أكن مرتاحاً لا للسفرة هذه المرة ولا لترتيباتها ولا الضليعين في الترتيبات، وقد كان شعوري في محله، لهذا، أحمد الله ألف مرة. كنت مأزوماً بالواقع طوال الفترة الفائتة. لكن لم يكن لي من القرار شيئاً، كما قلت لأختي؛ أنا لا أقول إذهبوا أو ابقوا، أنا فقط أذهب إن ذهبتوا وأبقى إن بقيتوا.
الآن، يمكنني أن أستأنف حياتي في الصيف كما خططت إن كتب الله. كأنما كسبت وقتاً جديداً، غير محدوداً. فنحن لم نكن نعرف متى سنعود ولو على وجه التقريب، عكس رحلة الهند في العام الفائت. مع أنه لا بد مِن مَن سيحاول أن يأكل من وقتي، ويقوض خططي. 






غداً موعد قصير لأمي في مدينة الملك فهد. إن من يجد لي أقل القدر لديه، أو حتى يكن لي كراهية معقولة ومتعقلة، أسأله أن يدعو الله لأمي وصحتها، وأن يكون كل شيء على ما يرام.







التقيت بالدكتور الألماني في منزله الاسبوع الفائت، كنا ننوي مشاهدة فيلم الأميرة مونونوكي معاً. لكن الجهاز الذي أحضرته معي، وهو ليس جهازي لأن جهازي ضخم جداً، لم يشغل الاسطوانة للأسف. أمضينا الوقت بالتحدث عموماً، ومناقشة بعض الأمور. كان لديه آية من القرآن الكريم يتسائل حولها، وقد وجد لها أكثر من تفسير. جرنا هذا لأمور أخرى مشابهة، وتكلمنا حول رؤية الدين لقصة أحد الأنبياء عليهم السلام، وقال بأن التوراة تقول كذا. قال هذا بتأكيد، فقلت بأني لا أصدق هذا، فبالنسبة إلي التوراة مبدلة. قال بأنها لم تبدل، إنما تعبيرها تبدل. واستمر يتحدث عن رؤيتها ورؤية الانجيل. فأوضحت بأن هذه مصادر فاقدة للمصداقية بالنسبة إلي، على عكسه، وهذا يحصر مصادري أكثر، ويجعل فهمي للأمور أسهل. بدا أن ما قلته لم يكن متوقعاً، أو غير مرغوب، لأنه سيحصر النقاش كثيراً.
لكن في خضم نقاشنا، وقد كنا نتناقش عن سبب حمل الإنسان للأمانة بعدما رفضتها الأرض والجبال، ووصفه بالجهل، سألته عن سبب اهتمامه بهذه الآية بالذات، فقال بأنه يريد أن يفهم لماذا قبِل الإنسان، ولماذا وصف هكذا. أخبرته بأن أكثر ما شد انتباهي منذ أن كنت صغيراً في هذه الآية ليس الإنسان، فهو أحمق بطبيعته عموماً وهذا أمر مفروغ منه، هكذا خلق، لكن كون الأرض لها إرادة، وكأنما لها روح أو هي حية. هذا، جعله لاحقاً يقول بأني أنحاز للطبيعة دائماً، وأكره الإنسان. هو عموماً اتهمني كثيراً بأني أكره الإنسان من قبل. أنا أكره الإنسان، ولكني أحب الناس.


إني أعمل حالياً على تدوينة أجمع فيها فيديوها وآرائي بها وتأثيرها علي، وليست الفيديوهات هي المعنية بقدر الأفلام التي اقتبست منها وما أريده قوله حولها. أرجو أن تنتظروا التدوينة.






يضايقني طبع بعض الناس الذين يأتون من ثقافات مختلفة أحياناً. إني أجد لهم العذر، لكن أحياناً يفوق الأمر احتمالي. بعض الناس مثلاً يقترب منك حينما يريد محادثتك إلى حد لصيق. ومهما تراجعت للخلف يظل يقترب، وحتى حينما تبدأ بالتراجع بوضوح وبرد فعل سريع على اقترابه يظل يقترب أكثر. غالباً لا تكون رائحة أفواههم مقبولة، وهذا يزيد المشكلة، السيئة أصلاً، سوءاً في نظري. أبدأ بفقد التركيز، والتوتر كلما اقتربوا أكثر. أخشى أحياناً بأني سأمد يدي واوقفهم على مسافة معينة برفق، لكن هذا سيكون جارحاً. أتذكر أن أحدهم طاردني وأنا أتراجع إلى الخلف باستمرار وأصر على الاقتراب من وجهي وهو يتحدث حتى حصرني على جدار، دون أن ينتبه أني لا أريده أن يقترب إلى هذا الحد، مما جعلني أفكر ببديهته البطيئة. كنت أتراجع بقوة لأن رائحة فمه كانت فضيعة. يجب أن تتحمل الكثير حينما تكون مترجماً، لكن ليست كل التجارب هكذا بالطبع، إن الترجمة المباشرة للناس وبينهم أمر جيد غالباً.

بشكل عام، السعوديين حساسين عموماً تجاه اقتراب الناس إليهم، خصوصاً إلى وجوههم. بينما الهنود يتلاصقون على نحو عجيب حينما يريدون التواصل.
قد يقترب السعوديين من بعضهم عند السلام، لكن ليس إلى درجة لصيقة، باستثناء حينما يقبلون بعضهم بالخد.







قرأت قبل قليل مقابلة للداعية العريفي. كنت قد قلت من قبل بأني لا أجده مريحاً، هو والقرني. في المقابلة تأكد شعوري أكثر بأن هذا الرجل لا يعجبني. لا تعجبني ثقته بنفسه، وإشاراته الواثقة والمباشرة لجمال شكله، الذي صدقاً أراه عادياً أو أقل. أما على المستوى الفكري، فأيضاً لا يعجبني. أشعر بأنه سطحي محب للظهور المفرط وغير الرزين تماماً، مثل القرني، وهذا قد يلائم البعض، لكنه لا يلائمني.
ورغم أني اكتشفت بأني لا أحب الرجال من كبار السن في مجتمعنا، إلا أني أحب الشيخ المطلق.







أمس يوم الاثنين، وقد التقيت الدكتور الألماني على خلاف العادة. أخبرني برسالة الكترونية مبكراً في نفس اليوم أنه سيسافر، إذ توفي أخيه، وأنه يمكننا أن نلتقي قبل أن يذهب في المساء، طالما لن يكون موجوداً في نهاية الأسبوع. عزيته، وأخبرته بأني سآتي. فكرت بأنه لو كان يريد أن يخلو بنفسه لقال بأنه سيسافر فقط.
كانت وفاة أخيه متوقعة منذ مدة، فقد كان مريضاً جداً، وقد كنت على علم بهذا. وجدت الدكتور في حالة جيدة وإن يكن أكثر هدوءاً، سوا أن ذهنه يشرد أحياناً، ويتنهد في أحيان أخرى بصمت. تحدثنا عن أخيه، وأهله. يجب أن يذهب سريعاً ليبقى مع العائلة في وقت الدفن والعزاء.
كان يجب أن نتحدث عن أمور أخرى، وحاولت أن أسليه، فأمامه وقت مشحون بالأسى والعاطفة.
أراد أن يعرف آخر أخبار صحة أمي كالعادة، وآخر أخباري. تناقشنا حول بضعة أمور أخرى.
اتصل به شخص، كان الدكتور يقول له، وقد طالت المكالمة كثيراً، بأنه غير قادر على فهمه، وأن الضجيج عال هنا؛ كان الدكتور يلمح بتهذيب لإنهاء المكالمة. لكن الآخر استمر بالتحدث، وبالكاد انتهت المكالمة. خمنت مباشرة بأن المتصل دكتور سعودي، وكان هذا صحيحاً. عرفت لأنه لحوح، ولا يفهم بسرعة، ويريد التحدث كثيراً وبلهفة غير عابئ بما يقول الدكتور، وكأنما التحدث معه امتياز يجب أن يستفيد منه إلى آخر لحظة، فلو كان يكلم دكتور سعودي مثله، لما طالت المكالمة رغم التلميحات التي قيلت، لتفهم أو حتى فقد الاهتمام، فالدكاترة العرب والسعوديين عموماً مبهورين بنظرائهم الغربيين. قال الدكتور بأنه يواجه مشكلة مع هذا الدكتور لأن لغته الانقليزية سيئة. ينخدع الناس بالدكاترة السعوديين وكل من درس في أمريكا، بل إن الدكاترة ينخدعون بانفسهم. بشكل مجمل لغتهم الانقليزية سيئة قواعدياً، محدودة المفردات، استعراضية على نحو سمج، ويحبون التظاهر المستميت بأنهم يجيدون اللغة كأهلها أمام من لا يتحدثها، مما يجعلهم يصرون على التحدث مع الأجانب لفترات طويلة أمام الآخرين غير المدركين لمهزلة ما يقولون. ويحبون كذلك أن يحكمون على لغات الآخرين، خصوصاً حينما يريدون القول بثقة بأن لغتهم جيدة، وكأنما لغتهم هم ليست بمحل سؤال، وهذا هو المغزى. وتبلغ بهم الجرأة أحياناً حد انتقاد ما يكتبه الآخرين، ومحاولة تصحيحه باستماتة لإثبات بأن لغتهم جيدة جداً، وقد حدث هذا لزميلي المترجم الآخر في العمل. أما نطقهم لما يقولون، فهم كالغراب الذي أراد تقليد الحمامة فنسي مشيته ولم يقلد الحمامة، يحاولون أن يبلعوا الحروف دون وعي أو علم بأنهم يبدون سخفاء (يعنني امريكان)، وذلك لخداع السامع، ويحاولون الاتيان بمفردات شعبية وقد تقارب السوقية أحياناً للتفاهم مع الأجانب كدليل على اندماجهم بالثقافة. إنهم مثيرين للشفقة، مجموعة سطحية بمجملها من الناس المغلفين بغلاف رخيص وممزق، لا يخفي بالحقيقة الجوهر البسيط غير المثير للاهتمام.


إني أذهل لقدرة الدكتور على السيطرة على مشاعره، رغم أنه إنسان بالغ الطيبة والرقة. 
لم أتحدث عن دفع الحساب هذه المرة، تركته يدفع بصمت.







فوجئت باتصال أختي باكراً صباح اليوم، إذ أخبرتني بأن السائق تعرض لحادث بعدما أوصلها ومضى، وقد اعتدى عليه الطرف الآخر في الحادث، وهو رجل باكستاني حسبما علمت. لأن زوجها قد ترك سيارته في الورشة، ذهبت أنا لأقوم بما يلزم. وجدت سائق أختي، وهو هندي مسالم وغير صغير، يبدو عليه الإرهاق، بينما زجاج السيارة الكبير الجانبي الخلفي قد تحطم. ثم جاء السائق الباكستاني، وهو سائق حافلة، وسلم علي. وجدته شاب غير كبير، ذو عينين شفافتين ووجه حسن، ولا تبدو عليه العدوانية. إلا أن أثار أظافره كانت على رقبة سائقنا. سألته لماذا ضرب السائق. أنكر في البداية، ثم علل بأن سائقنا حاول إبقائه في سيارته رغماً عنه وأخذ المفتاح حتى لا يهرب، رغم أنه لم ينوي الهروب. وهذا ما يقول سائقنا عكسه. وبالواقع، أرجح بأنه حاول الهروب، لأن الحادث لم يترك أثراً على سيارته، ولم يبدو عليه أنه شخص صادق. قال بأنه سيدفع لنا التكاليف. لكن لابد من استدعاء المرور أو نجم، وهي شركة متعاونة مع المرور. بالتواصل مع موظف نجم، وقد كان موظفهم صبوراً علي إلى حد بعيد، إذ لا يوجد أي أسماء شوارع في الحي الحديث أو معالم واضحة، تمكنت من مواعدته وإحضاره إلى مكان الحادث. أغلِّب بأن الشاب الذي جاء شيعي من القطيف، بحكم لهجته وسحنته. سرعان ما أبدى الشاب عدم اقتناعه بما يقول الباكستاني، ثم بدا عليه القرف منه بعدما أخبرته بأنه ضرب سائقنا وشاهد آثار الضرب، وسأله عنه. اقترح رجل نجم أن يحول الأمر بأكمله إلى المرور، للتعامل معه كحادث جنائي. لكن سائقنا رفض، وقال بأنه فقط يريد أن يدفع الباكستاني تكاليف الإصلاح. أفهمته بأن الخطأ على الباكستاني وسيدفع الثمن، وأنه لا يجب أن يخاف، إذ من حقه أن ينظر في موضوع الضرب، ولكنه رفض باصرار. سأل الشاب إذا كنا نريد أن نتفق دون حضور المرور. كان الباكستاني يريد هذا، فهو أصلاً لا يسوق الحافلة بالرخصة اللازمة، أي أنه مخالف للنظام. بعد وصف الأمور لزوج أختي، طلب مبلغاً تقديرياً، رفضه الباكستاني قائلاً بأنه كثير، وأنه سيحضر معنا ويدفع التكاليف بنفسه. طلب زوج أختي أن أستدعي المرور إذاً. لم يتأخر المرور كثيراً. وأخذ الباكستاني، وسط نظرات الكثير من الباكستانيين الذين توقفوا ونظروا بغير رضا.










ماذا بوسع المرء أن يقول عن فتاة تدعي أنها رجل على الانترنت، وتتمادى في الأمر، بحيث لا يصبح عذر تجنب أصحاب الأخلاق السيئة معقولاً، بعدما أصبحت أخلاقها هي سيئة بفعلتها؟.
في بدايات الانترنت، انتشر دخول الفتيات بأسماء رجال لأجل النظرة الاجتماعية ولتفادي الاحتكاكات الفكرية والعاطفية والشبهات. ولكن سرعان ما صرن النساء يدخل بأسماء مستعارة انثوية أو حتى أسماء حقيقية كاملة أو غير كاملة. صار ادعاء فلانة بأنها رجل أمر غير مقبول، إذ صار من الأولى تجنب مواطن تجمعات المشبوهين من الأساس بعدما أصبحت الأمور أكثر وضوحاً. وصار من المعروف أن الفتاة تفرض نوعية التعامل معها بعرض أخلاقها منذ البداية.
مع ذلك، ظل هناك من تدخل باسماء رجالية أو ذكورية، وتوهم الناس بأنها رجل، فتكسب صداقات الرجال بطريقة مخادعة، وتتسبط بالتحدث معهم، وربما ذهبت إلى ابعد من التبسط بقبول أن تدعو رجلاً "حبيبي"، بحكم أنه لا يدري أنها فتاة. أتسائل كيف لأي فتاة تعتقد أنها محترمة، وقد تصر على ذلك، أن تقبل مثل هذا الأمر على نفسها. أن تتشبه بالرجال بطريقة أو بأخرى، ثم تقول لهم ما قد يعطي انطباعاً آخر عنها لو علموا بأنها أنثى. فتاة متنكرة بالرجولة تقول لرجل بحكم الصداقة: حبيبي، وتبدي تقديرها الشديد وأطيب الأماني، وتبالغ بعرض الحميمية. كيف سيفكر بها المرء حينما يعلم أنها فتاة؟. إنها تعود إلى أنوثتها بعد كل شيء، وتمارس الفضيلة التي لا مراء فيها، بتناقض غريب.
إني أجد الأمر خسيس على كافة الدرجات. فهي تحط من قدرها بالكذب في البداية، وما أجبرها الله بالتداخل مع الرجال إلى هذا الحد، ثم تحط من قدرها أكثر بالتبسط معهم بذريعة أنها رجل، ثم تحط أكثر وأكثر حينما تتصرف وكأنه لا شك يلحق بأخلاقها.
إني أتفهم ما كان يجري في بدايات الانترنت، حذر الناس وبناتهم ورغبتهم بأشياء محددة، الصداقة مع الرجال ليست منها. لكني ألوم الآن من تحاول نفس الشيء بعد تغير الزمن، وألوم كذلك من كانت تدخل باسم ذكوري حتى في البداية وتتسبط أكثر من اللازم.
أتذكر قبل زمن طويل، كان لدي صديق في الثانوية والجامعة، وقد كان يدخل التشات كثيراً. وقد كون صداقات مع الكثير من الناس، وكانت له غرفة محادثة خاصة وفكرية، فقد كان يرى في نفسه مثقفاً من طراز خاص. المهم أنه حدثني عن صديق جديد له، خفيف دمه وودود جداً، من المنطقة الشرقية. وكان معجب جداً بذلك الصديق المضحك. بعد فترة طويلة، تعدت السنة بكثير على الأغلب، أخبرني صديقي بصدمة بأن من شاركه الأحاديث وربما الأسرار أخبره في النهاية بأنه فتاة، لهذا رفض مقابلته حينما زار المنطقة الشرقية. كان مذهولاً لاتقان الدور. وقد تفكرت أنا في كل ما قاله لي صديقي هذا عن حكايات هذا الشخص، قوله حينما رأى صورته بأنه جدير بناد للمعجبات.
هل كانت لتتحدث بهذا الارتياح لو أنها كتبت بأنها فتاة؟ لا أتصور. إذا، هل هي نفس الشخص أم لا؟ هل كانت تنظر للأمر من هذه الناحية؟ خصوصاً أنها لم تكن مضطرة لأي من هذا؟. إن هذا يشبه خلع بعض النساء لملابس الحشمة حينما يغادرن الأجواء السعودية، مع فارق كبير، أن النساء في الطائرة لن يقمن بالضرورة بالتبسط مع الرجال. ولم يقتحمن مجتمع الرجال هكذا، أو يخدعنهم، أو يعبثن بشعورهم.

لا أتحمل هذا النوع المنافق من الناس. قد يكتب الناس بصفة مجهولة لأي سبب من الأسباب، وقد يقوم الناس ببعض الذنوب خفية؛ كل هذا معقول. لكن هذا النوع من النفاق الخالي من الندم يثير اشمئزازي.






ذهبت قبل فترة إلى كلية الحاسب في الجامعة، لأسأل عن بعض الأمور الأكاديمية لأجل ابن أختي، الذي تخرج الآن من الثانوية. هناك، وجدت مكتباً مفتوحاً، وفيه رجل ذو وجه طويل وغريب. وكان يتصرف بنذالة غير عادية مع الطلاب حوله، الذين جائوا حسبما أتخيل للتسجيل للدراسة في الصيف أو لإجراء أكاديمي آخر. كان لا يعطيهم حتى فرصة ليتكلموا، إنما يقاطعهم، ويرفع صوته عليهم، ويتكلم بطريقة ساخرة، وحينما سأله أحدهم قلماً، قال بجلافة: ماعندي!. ظللت واقفاً، وهو يعلم بوقوفي، لعله يتكرم  وينظر فيما أريد، لكنه ظل على تجاهله عنوة، وعرفت بأنه يحسبني طالب، ينتظرني لأكلمه فيسيء التعامل معي. لذلك، سألت أحد الطلاب عما أريد، فتدخل هو وسألني ماذا أريد، وحينما بدأت السؤال لم يتركني أكمل، إنما سخر مني، وحاول إظهاري بمظهر الغبي، رغم أن المرء لا يسأل إلا عن جهل بطبيعة الحال، كما أنه لم يدعني أسأل فعلياً، فأخبرته بأني أسأل عن شيء آخر وليس ما يتحدث عنه، وسأل بجلافة وهو رافع صوته عن أي شيء أسأل؟. هززت رأسي باشمئزاز لم أخفه، وأنا أنظر في جوالي، حيث نقاط ابن اختي التي يريد مني أن أسأل عنها مسجلة، ثم وجهت سؤالي إليه، فاتضح بأنه ليس لديه فكرة، وهب الطلاب لمساعدتي، مما جعلني أشعر بشفقة كبيرة عليهم. حينما أردت الخروج، شكرت الطلاب، وودعتهم. ربما انتبه بأني لست طالباً، وأني على الأغلب موظف، لأني تجاهلته بسهولة.
عدت في وقت لاحق إلى الكلية للسؤال أيضاً، وهي تمتلئ بغرباء الأطوار، ووجدت موظف غير شاب اقترب من الدرج حينما رآني صاعداً، وظل يتأملني بطريقة غريبة وغير مهذبة، ولم يرد السلام حتى نظرت إليه فجأة. كنت أسمع ضجيج مرتفع في الأعلى، وضحك لشخص واحد، وكان هذا هو الرجل ذو الوجه الطويل، كان يتحدث بالجوال وكأنه وحده في مجلس بيته، وصدى صوته يردح في أرجاء الكلية. حينما رآني تنبه، وأنهى المكالمة. كنت سأتجاهله وأمضي إلى قسم محدد، لكنه استوقفني وسألني بود بماذا أأمر؟. أخبرته بهدوء أني ذاهب إلى القسم الفلاني، فقال بأني سأجد فلان وفلان هناك، وأنهم سيساعدونني. وسألني بلطف أكبر إن كنت أريد شيء آخر. شكرته ومضيت. 
لم يتغير موقفي منه، لأني بالواقع لم أغضب لنفسي، إنما غضبت لأجل الطلاب المساكين. سيظل الطلاب يعانون من الجميع، ويظلون الطرف الأضعف، في مفارقة لكونهم الطرف الأهم بالواقع.

لا زلت أتذكر أيامي في الكلية، وكم كانت عصيبة مع الموظفين وخلافهم. الموظفين في الكليات غالباً ما يكونون مجموعة من ضعيفوا التعليم والوعي، من لا سلطة حقيقية فوقهم. ورغم أنهم محتقرون من الدكاترة، إلا أنهم لا يملكون عليهم سلطة حقيقية، فتكون العلاقة غالباً بينهم ما بين شد وجذب على نحو خفي ودسيس، مغلف بابتسامة التملق والنفاق المغصوبة من قبل الدكاترة حتى لا تتعطل أمورهم بالكيد وإضاعة الأوراق، وابتسامة البلاهة الأبدية من معظم موظفي الكليات.
كان هناك مسجل الكلية، وهو كان رجل لا يعرف غير الصراخ ومحاولة تصعيب الأمور. الكل يتخيل بأن الطلاب لا يجب أن تتم خدمتهم وفق ما يريدون ويحتاجون وفق الأنظمة ولا أن يمنحوا الكرامة، ليبقوا تحت السيطرة. هذا الرجل رأيته بعدما توظفت، وقد انطبعت في ذهني دائماً صورته المراوغة والقاسية، وقد أصبحنا زملاء كموظفين في الجامعة. كان قد تغير مظهرياً على الأقل، وقد أطال لحيته وأصبح متديناً. صادفني ذات مرة مع زميل طيب، وهو صديق له على ما يبدو، وقال بأنه يتذكرني، أني كنت طالباً في الكلية وأنه لطالما أحس أن شكلي مألوفاً حتى تذكر، وضحك، لكني كنت بارداً معه، وتفاديت ملاطفاته بقدر ما يسمح به التهذيب، تجاهلته ففهم وتوقف. قد نكون أنداداً الآن، أن يحترمني لهذا، لكني ما عرفته عنه هو أنه لا يحترم من هو بحاجته، من هو أضعف منه، وهذا شيء لا يمكنني أن أنساه، ولا أرغب بذلك.
إن اجترار ذكريات أيام الدراسة دائماً ما يعود علي بالمرارة، والتفكر بما حدث. لقد حدث الكثير، الذي ليته لم يحدث؛ لا لي، ولا لغيري.
لكن، هذا لن يغير من الأمر شيئاً؛ لن أنسى، ولن تتوقف معاناة الآخرين.








رغم استعانتي بالجوال والانترنت في تنظيم مواعيد أمي وأبي، إلا أن فعاليتي رغم كل جهودي هي محل شك. اكتشفت ضياع موعدين مؤخراً دون أن أنتبه، لأني نسيت أساساً أن أسجلها في التقويم. أشعر بأني مهما حاولت لا يمكن أن أكون جيداً فعلاً فيما أقوم به، مما يوقع الحزن واليأس في قلبي.








ظهرت خدمة جديدة لقوقل، مثل فيسبوك. اشتركت حالما استطعت، إذا تطلب الأمر دعوة في البداية، ولم تنجح العملية بسرعة. لكني الآن أتسائل عن إمكانية استمراري. ليس لسلبية فيها، بل هي جذابة وسهلة الاستخدام، وليس لأنها مملة ولم تلائمني، إنها ممتعة؛ لكني أخاف أن تضيع وقتي. كما أخاف من الكمية الكبيرة من الناس الذين يصعب التأكد من أنهم ملائمين حينما يطلبون التواصل، خصوصاً أني فوجئت بالكثير من الناس يطلبون المتابعة دون سابق معرفة أو مجال مشترك في الاهتمامات أو العمل.
ولا أدري إن كنت أحتاج الخدمة أم لا. سأقرر في الأيام القادمة إن شاء الله، على الأغلب أني سأتخذ إجراءات لتجعله ملائم إن لم أوقف حسابي فيه، أو أحصره لاستخدامات معينة، أو أغلقه وأتركه حتى أجد له فائدة أو نفع واضح.

لكن، رأيت مشاركة من شخص طيب علق في مدونتي بضع مرات. هو معاذ الدوسري، وهو مدون له مدونة عن طب الأسنان وأخرى عن الفن السينمائي. مشاركته كانت رابط لمقال عن رجل سفيه اشتهر مؤخراً هو وطفله المسكين؛ مشعل ويدللونه ميشو. الوالد يعرض فيديوهات لابنه ذو التربية الغربية، ينتقد فيها مجتمعنا وطريقة حياتنا بشكل عام، ويتحدث بفوقية تربى عليها بوضوح، وهذا أمر مؤسف فعلاً. وقد ولد هذا ردات فعل مختلفة، أغلبها غير متعقل، ففريق يؤيد الطفل ووالده وينبهر بهم، رغم أنه لا يوجد ما يبهر، وفريق صب جام كراهيته تجاه طفل في السادسة أو السابعة لا حول له ولا قوة، وليس تجاه من يلقنه هذه المبادئ الخسيسة.
لاحقاً، أنزل الأب فيديو صوتي فقط، يتحدث فيه عن أرائه حول مشاكل المجتمع، بأسلوب لا يقل سفاهة وسطحية عن ابنه ذو السنوات القليلة، مع فارق الكبر والاستعلاء الواضح بنبرة الصوت. وهو كبر ناتج عن الثراء وربما الخلفية الاجتماعية على ما يبدو، ففكرياً؛ لا أدري بماذا قد يفتخر مثل هذا الرجل. وكان المقال عن هذا الفيديو على وجه الخصوص.
رددت على مشاركة معاذ في القوقل بلس، وقد كان في قلبي الكثير لأقوله رغم اني اختصرت؛ فهذا موضوع كنت أنوي الكتابة عنه منذ زمن في المدونة، وقد جاء هذا المقال والفيديو كمثال جيد على ما أريد قوله.
هذا رابط المقال، ويحتوي رابط الفيديو:
إضغط
بداية؛ سأضع ردي على معاذ، وهو باللهجة العامية إلى حد ما:

قرأت المقال. هذا التبلد والغرور يلقى تشجيع غريب من الناس. الحقيقة ان هذا الرجل السطحي مجرد مثال متطرف على موجة تسود المجتمع بدون ما يدري. يكفي فقط الاطلاع على أوصاف الناس لأنفسهم في ملفاتهم الشخصية ومدوناتهم، أوصاف خالية من أي تواضع. ابو الطفل المسكين مجرد مرآة مقعرة، تكبر اللي يحصل في جزء كبير من المجتمع.
لأكون صادقاً، لم أكن في السابق سأمثل على رأيي بهذه الطريقة، المقال والفيديو، وربما رأى البعض أن العلاقة بعيدة عن ما أريد قوله، لكن كما قلت، الدليل أعلاه مجرد مرآة مقعرة (أو محدبة؟)، وما كنت سأتحدث عنه هو الحالة العامة والسائدة دون أن تُلاحظ، عكس ما عكسته المرآة سالفة الذكر، فالأمر بالنهاية واحد إلى حد بعيد، لكن شيء متطرف بشدة، وشيء مستمرأ مع الأسف، وكليهما سيئان. لكني كنت سأتحدث عن الملفات الشخصية، وأوصاف الناس لأنفسهم في تعريفهم لها كتابة، كشكل من أشكال انعدام التواضع عموماً لدينا دون أن ندري. صار مديح الذات الزائد عن الحد وغير المبرر بشكل عام وعلى نحو لا يبدو أن هناك من يراه غير طبيعي هو الأمر السائد؛ وينظر إليه كتعزيز للثقة بالنفس أو كوصف محايد للذات رغم مراوغته وإيجابيته المريبة.
لا شك لدي بأنه ليس كل الناس الذين يكتبون هكذا عن أنفسهم هم بطبيعتهم مغرورون، إنهم فقط رأوا الآخرين يكتبون هكذا فظنوه أمر لائق ويعطي انطباع جيد كتسويق للذات. لكن من يقول أن الطبيعة البشرية لا تتغير، وأن النفس لن تصدق كل حرف تقوله عن نفسها بمبالغة؛ حتى يحسب المرء نفسه أفضل الناس؟، كما أن الناس لم يعودوا يستحون أبداً في التسويق لأنفسهم وشخصياتهم، كل شيء صار مقبولاً، وكل شيء يقال صار مع الأسف محسوباً، بطريقة غبية في الأغلب الأعم، ليصطاد أقوال رجيعة من المديح والإعجاب والاقتناع بما يقال، إنه فقط تصيد للمديح. تخيل أنه أُتي إليك بكأس فارغ، ولوِّن من الخارج بلون العصير حتى قرب فوهته، ثم عرض عليك؛ هل سيمكنك القول بأن العصير لذيذ؟ العصير غير موجود أصلاً. هذا ما يحدث، الناس يعرضون أشياء قد تكون غير موجودة، في حين أن من يقدم العصير الحقيقي سيسألك عن رأيك بعدما تتذوقه، وليس قبل ذلك.
 لقد سادت ثقافة تتجاهل فضيلة التواضع في رأيي؛ وبات التواضع مفهوم لا يخطر على البال كممارسة حياتية ضرورية؛ إنه فضيلة تذكر في القصص فقط، وليست ميزة حسنة في المرء تحسب لصالحه.
وصار النجاح وجاذبية الشخصية مجرد كلام يقال؛ وشهادات يقدمها المرء لنفسه بكرم، والملفت أنه لا أحد يفكر بأن الأمر بالواقع مثير للسخرية والعجب؛ كيف تقبل شهادة المرء بنفسه، خصوصاً حينما يبالغ كما يحدث الآن؟.
إني لا أرى مع الأسف أي جانب في الحياة الاجتماعية يطرح التواضع ومسائلة الذات كأمر له الأولوية، بل إني لا أرى أمثلة جيدة فيمن يعدون أنفسهم أمثلة جيدة. بعض الدعاة يمتدحون أنفسهم كثيراً بإعجاب حينما أقرأ لهم مقابلات بالصدفة أو مقالات عنهم أو لهم. والكثير من المسئولين، كمدير جامعتنا، كثيراً ما روجوا لفكرة أن كثرة الحكي عن النفس والخطط والإيجابيات هي إنجازات كافية بحد ذاتها.
إنه حب البروز، أمر يشبه من خطر في باله أن يقف بينما الجميع جالسين حتى يميز نفسه، فإذا بالجميع يقفون معه، ولما أدرك كل فرد أنه كالجميع رغم هذا المجهود الصغير للتميز، بدأ الجميع بالقافز للفت الإنتباه، في مجهود لا جدوى منه أساساً.











قبل قليل وأنا أكتب في المطعم على الجهاز، سمعت شاب يقف قريباً من طاولتي، وهو يتحدث بسخرية عن فتحي لجهاز الحاسب على طاولة المطعم، وهو لا يدري أن المطعم أصلاً يوفر الانترنت اللاسلكي، كما وصلت به قلة الذوق إلى الإشارة باصبعه والتندر على جهاز الانترنت الذي شغلته أمام النافذة، قائلا بأن هذا تطور. كان يتحدث وكأني لا أسمع، رغم أني لو وقفت ومددت يدي للمسته لقربه إلي، ولما التفت لأنظر إليه تظاهر بأنه لا يراني. فعدت للكتابة. لكنه قاطعني بتحية، سألاً إن كان هذا جهاز انترنت لاسلكي، فقلت نعم دون أن أنظر إليه، فاستأذن بأنه يريد استخدامه إذا سمحت بعد قليل، وتسائل إذا كان عليه كلمة سر؟ فأخبرته بأني سأطلعه على الكلمة حينما يريد استخدامه. شكرني ومضى مع رفيقه إلى طاولتهم. في اعتقادي أن هذا الشاب اعتاد على السخرية من كل ما يرى دون أن يسمعه الناس، ولكن لكثرة ما جرى الأمر على لسانه، وصار من طبعه، نسي أني أسمع، وأني قد يكون لي رد فعل. ولما لم أرد بأكثر من النظر ولم يتمكن هو من مبادلتي النظر، أتصور بأنه شعر بالخجل، وأراد أن يغطي على ما قام به بالتظاهر باللطف وحسن الذوق. لكن، هل يغير هذا أي شيء من وقاحته المتأصلة؟ قد تجد أحياناً بعض الشباب يعلقون على مشتريات الناس في السوق وهم يسمعون. قال أحدهم ذات مرة معلقاً على عربتي: شف شاري كل هالمويه! فرد صاحبه بصوت عال: وش عليك منه ياخي، خله ينبسط (!!).
استمر شاب المطعم بالنظر إلي من طاولته، وقد كانت تفصل بيننا زوايا المطعم بزجاجها، ولم يطلب رقم الانترنت.
كانت مثل هذه المواقف تتكرر كثيراً معي في الجامعة، من طلاب آخرين لا أعرفهم. وربما لأني لا أعرفهم ولا يعرفونني لا يجدون ضيراً من التندر بي حينما أمر، لإضحاك من معهم. وحين النظر إليهم؛ يتظاهرون بأنهم يتكلمون عن أحد آخر، وبعضهم ينظر باسماًى بسخرية.

يوجد انخفاض غير عادي بوعي الكثير من فئات المجتمع بضرورة التأدب مع الآخرين، أنها ليست مجرد فضل، إنها واجب صارم.








اليوم يعود صديقي الحقيقي الوحيد.








كم أشعر بالحنق على المسئولين عن التعاقد مع الأجانب في الجامعة من الدكاترة السعوديين الحمقى، عمداء ووكلاء ورؤساء أقسام. كثيراً ما يعطون وعوداً خيالية بدون إستشارة الجهات التي تصنع العقود وفقاً للتنظيمات المحددة، فيأتون الأجانب متوقعين شيء لا ينطبق مع التنظيمات المحددة لمميزات العقود. أحياناً يكتشفون منذ البداية، إذ يكون الراتب أقل بكثير مما وعدوا، فيقال لهم هذا ما لدينا؛ والدكتور الذي تواصل معك لم يكن يعرف الأنظمة أو الحدود. ويكون الأجنبي قد ترك وظيفته في بلده أو البلد الذي يعيش فيه، وجاء لمختلف الأسباب، إما للعيش في مجتمع مسلم يصدمه مسئوليه هكذا، أو لمجرد تحسين حياته فيجد أن الأمور ليست كما وعدوا. وآخرين يكتشفون لاحقاً، مثل الذي قيل له اليوم بأنه لن يحصل على تكاليف تعليم ابنه، رغم أن العميد وعده بها، لأن ابنه أصغر من العمر القانوني، ولا ألومهم، لكني ألوم العميد الأحمق، ولو كنت مديراً للجامعة؛ لأرغمته على الدفع من حسابه الخاص للرجل، حتى يتعلمون بأن حقوق الناس وآمالهم ومشاعرهم ليست للتلاعب والاستهتار.
كما أقرف أشد القرف ممن يسرقون مجهودات الآخرين، سواء أجانب أو طلاب في مشاريع تخرجهم، حيث يشاركونهم على الورق دون أن يبذلوا أي مجهود، وحينما يمانعون أصحاب الفكرة والعمل، يكون جزاء الأجنبي الطرد المهين كما شهدت، أما الطالب، فعلى الأغلب أنه سيموت قهراً في قلبه فقط.
أتخيل بأن قولي بأن الدكاترة والدكتورات السعوديين هم من أهم أسباب تخلفنا لأسباب كثيرة لن يكون قابل للتصديق في أول وهلة، لكنه الواقع الذي لا يقبل الشك لدي.








قررت أن لا أضيف من لا أعرف أو لا أجد معلومات كافية أو مثيرة للاهتمام في ملفه على قوقل+، الخدمة الجديدة الشبيهة بالفيسبوك، حينما يضيفني. أعتقد أن هذا أمثل عن الازدحام. قد أعطي أحدهم فرصة وأضيفه، لكن حينما أكون لا أعرفه، ولا يعجبني ما يكتب أو أنه يكتب ويشارك أكثر من اللازم، سأحذفه من دوائري.
هذا حل ملائم للوقت الحالي، حتى أجرب وأرى إن اقتنعت.
عموماً، هذا هو عنوان ملفي هناك، أعتقد أنهم سيطورونه لاحقاً ليصبح بالحروف او اسم المستخدم بدلاً عن الأرقام:
بعد يومين سأفقد الأمل من الرفقة الوحيدة التي أتطلع إليها خارج المنزل إلى ما بعد العيد بفترة. سيسافر الدكتور الألماني إلى بلاده، بعدما عاد لوقت وجيز من جنازة شقيقه. التقينا، وشاهدنا معاً أفضل فيلم أحبه على الإطلاق، الأميرة مونونوكي، وقد كان متحمساً لرؤية أهم فيلم لدي، لأنه يتخيل بأنه لا بد سيكون لدي سبب وجيه ومميز. أحياناً أجد نفسي عاجزاً عن وصف كل أسباب حبي لهذا الفيلم وإلهامه لي على نحو يشعرني بالرضا، أشعر بأنه يوجد دائماً نقاط أغفلها. استمتعنا بالفيلم المميز والذي لا أعتقد أن الدكتور رغم استمتاعه به سيرى ما أرى فيه. مع ذلك، ناقشني فيه مطولاً، يريد أن يرى ملاحظاتي، ورؤيتي للوارد في الفيلم. لا يمكنني أن ألخص هذه الأمور؛ لكن يمكنني أن أقول بأني قلت للدكتور ضمن ما قلت بأني أحببت الإصرار اليائس على تصحيح الأمور ومساعدة الآخرين، التضحية من خلال هذا الإصرار المؤلم، وبراءة الطبيعة حتى في مقاومتها. حينما انتهينا تقريباً من النقاش، وقفت لأجمع الأشياء، الجهاز الضخم والاسطوانة والأسلاك وحقيبتي بجهازي وخلافه، لكنه استوقفني متسائلاً باستغراب أين سأذهب؟ قلت بأن الوقت تأخر، وأنه  ينام باكراً، لكنه أخبرني بوضوح بأن أبقى، لأحكي له قصصي المسلية. وليحزم أمري، قام ليحضر لي علبة سفن آب، وقد اشترى كمية جيدة رغم أنه لا يشرب هذه الأشياء، حتى حينما آتي إليه أشرب.

من ضمن ما سألني عنه كان الرئيس البشير، في السودان، الذي سماه مجرماً، وأخبرني بأن دكتور سعودي قد قال له بأن هذا ما يريدنا الغرب أن نراه. أنا أجد هذه الإجابة، صحت أم لم تصح، هي إجابة خليقة بدكتور سعودي لابتذالها، فهي معلبة بحيث تبدو  ذات مدلول وحجة، في حين أنها لا تساوي شيئاً بذاتها، وقد صارت تقال في كل مناسبة، حيث تجدها العقول المقفلة والكسولة ملجأ يسهل الوصول إليه بلا تفكير. قلت بأني لا أعتقد بأنه مجرم بالضرورة بقدر ما أعتقد أنه غبي. ذهل، إذ يبدو أنه لم يتوقع هذه الإجابة، أن لا أعتقد بأنه مجرم. ذكرني بأمور كثيرة؛ الحروب التي خاضها البشير والمذابح التي يتهم بها، فأخبرته بأني لا أعلم عن هذه الأمور، فهو يدعي خلافها، ويدعي أن الجنجويد هم من أسائوا لأهل الجنوب، ولو كان مجرماً بالفعل، فهو ليس المجرم الوحيد في العالم، أما المآسي فقد ارتكبت بسبب غباءه في النهاية، أكان المجرم أم لم يكن. فهؤلاء في الجنوب كانوا أصلاً منقسمون كما يدعي، وأنه لانقسامهم كان لا يستطيع الاتفاق معهم، وهذا غباء من طرفه أيضاً، عذر غبي للإهمال المادي والمعنوي الذي لحق  بأهل الجنوب. لقد رحل الجنوب الآن، وهو ليس خسارة للسودان فقط، لكن لكل المسلمين في رأيي، بسبب الإهمال والاحتقار الذي سمح به البشير. بدا أن هذا منطقي إلى حد ما بالنسبة للدكتور، وقال بأنه ربما كنت على حق، فهو لا يعلم الكثير بدقة حول ما جرى هناك.
تكلمنا حول الجنازة هناك، ولم يبدو الأمر بائساً للحد الذي تخيلته، ربما لأن الميت كان متوقع له المصير منذ فترة نظراً لمرضه، ورضا العائلة عن مستوى التصالح والتواصل الحميم معه قبل وفاته المتوقعة.
ثم نظرنا إلى صور عائلية جديدة، ومزرعته في أحد بلدان البحر المتوسط. كانت صور جميلة؛ خصوصاً صورة لحفيدته الصغيرة المليحة، بعينيها الجميلتين ووجهها المستدير كالقمر ما شاء الله. اسمها كلارا. وحجمها أكبر مما يراه المرء هنا لأطفال من سنها. بالواقع، إن أطفالنا أصغر حجماً عموماً من أطفال الآخرين. في عملي القديم في مركز طبي، حملت ابن زميلة مصرية، وقد كان ما شاء الله ثقيل إلى حد صدمني، ورغم عمره الصغير إلا أني واجهت مشكلة في حمله على ذراعي بسبب حجمه الكبير وطول أطرافه. هذا رغم خبرتي بحمل الأطفال التي تمتد إلى سنوات طفولتي أنا. لم أتعجب كثيراً بعدما رأيت والده عموماً، الذي يعمل مندوب مبيعات، فقد كان خليقاً به أن يعمل في المصارعة الحرة وفقاً لشكله وحجمه، وموقفه كذلك.
تكلمنا كذلك عن أمور أخرى كثيرة.
قال بأننا سنتواصل عبر البريد الالكتروني حينما يسافر، فقلت بأن لا يحمل هم الأمر، يمكننا الالتقاء حينما يعود. ولكنه أصر، فأخبرته بأنه بالواقع غير جيد بالتواصل عبر البريد، فضحك، وقال بأنه سيحاول التحسن، لم أتحمس مع ذلك، فأصر على الأمر. 







لقد جائت ابنة أخي أمس، التي أنتظرها طوال الاسبوع، وقد أوقعتُ بالخطأ فنجان القهوة، وهو خالي، على وجهها، لكن بمساعدتها. أود لو أنزلت لها صورة لتروا جمالها، لكني حينما لا يكون الطفل ابن لأخواتي، أخاف أن أغضب أهله، ربما إخواني قبل زوجاتهم في بعض الحالات.
أتمنى لو كنا نربيها لدينا. كانت قبل فترة تأتي كل صباح لتظل في رعاية أمي حتى العصر تقريباً، وكنت أحياناً أتأخر عن العمل عمداً حتى أصادفها مع أمي حينما أنزل. وكانت أيام سعيدة، مليئة بالقبل الانفجارية.
هذا قبل أن يحصلوا على خادمة، لسوء حظي.
هي حجمها صغير على نحو استثنائي، وخديها رقيقين وغريبين. هي عموماً كاللقمة، أخاف أن أبتلعها كلها حينما أقبلها. لكنها بدأت تتمرد، وهذا ما أكرهه في البنات، فهن لا ولاء لهن، عكس الصبية.






السفير البريطاني يقول، وكأنه يخاطب أطفالاً، بأنه شعر بالاسف على مخيم مزيف دمرته في تدريب قوات مشتركة بريطانية وسعودية. وهو بهذا يتحبب ويتلطف بزعمه. إنه يستخف بالناس بوضوح بلهجته القاصرة هذه.








قبل فترة، طلبنا غرض من أمازون بمساعدة أخي، كان لمساعدتنا على الرحلة إلى ألمانيا قبل أن يغير أهلي رأيهم. انتهزت الفرصة وطلبت كتابين؛ أحدهما عن حضارة الإنكا وشعبها، ورغم أني لا زلت أريد إنهاء كتاب آخر إلا أني قرأت القليل منه، ووجدته جميلاً، مكتوب بلغة ممتعة ومؤثرة.




 اما الآخر فاسمه يترجم إلى: اغتصاب نانكينق. وهي المدينة الصينية التي تحدثت عنها سابقاً، التي غزاها اليابانيون وعاثوا فيها فساداً لا يتصوره عقل. ولم أقرأه حتى الآن، ولكني رأيت صور توثيقية أحدثت أعمق الأسى في قلبي. 





وبذكر الإنكا، شاهدت الكثير من المقاطع لذلك الأثر المهيب؛ ماتشو بيكتشو، الذي بنوه فوق قمة جبل بين السحاب، ونسي من ذاكرة البشر لحوالي ثلاثة قرون، حتى اكتشف لاحقاً من جديد، وقد هجره أهله لسبب مجهول، قد يكون انتشار الأوبئة التي أتى بها الاسبان ولم يكن لأهل البلاد مناعة ضدها، ولعل بعضها وصل إلى ذلك المكان المعزول.


إنه أثر يسحرني على نحو مختلف، إذ يجلب الشجن العميق إلى قلبي، فلا أنفك أتأمله وأتفكر فيه ومن بناه وسكنه، حينما أرى صوره أو أقرأ عنه. مكان لا يُدرى على وجه التحديد لماذا بني هناك بالذات، ولماذا هجره أهله فجأة كما توضح الدلائل، رغم أنه أشبه بالجنة الأرضية؛ وكأنما المرء إذ يعيش هناك فإنه يعيش في حديقة غناء، في جيرة الشمس والسحب، محفوف بقمم مهيبة، ولكن تجلب السكينة إلى القلب.


ما يعجبني في الأثر هو اندماجه بالطبيعة، وبساطة مبانيه الجميلة الخالية من الزخرف رغم حسن تصميمها وبنائها. المدرجات البديعة، والخضرة غير العادية المحيطة بكل شيء، والموجودة على كل شيء. الساحات الخضراء الجميلة والممرات المحاطة بالجدران الحجرية، وجوهرة التاج، وأكثر ما أثر في نفسي؛ مصب الماء المنحوت في الحجر، كنافورة طبيعية.





قد لا يبدو للكل تميز هذا الأثر عن سواه، ولربما بدا أقل إثارة للذهول مما يتخيل البعض من ذوي النظرة الجزئية، النظرة التي قد لا ترى الصورة كاملة. لكن، إن هذا جزء من تميزه، إنه مكان للعيش الطيب فقط، في مكان فريد قلما يوفق الناس إلى اختيار مثله وبظروفه. الاطلاع عليه يشعرني بالحنين والحزن اليائس، والسكينة؛ يشعرني بالاستسلام.
(يشمل موسيقى)



http://youtu.be/Z2MN5glPgUs

هذا مقطع جيد للأثر. يمكنكم رؤية المصب المائي الجميل فيه، ورؤية ساقي يتفرع عنه على الأرض في لقطة أخرى.






يوجد كذلك منظر طبيعي مثير للذهول؛ إنه أعلى شلال في العالم. يسقط في فينزويلا، من أحد جبال التبوي التي تشكل ظاهرة طبيعية فريدة بحد ذاتها. يسمونه شلال آنجل، وهو لفرط طوله يتبخر بعضه قبل أن يمس الأرض. إنه منظر طبيعي مذهل، سبحان الله.



http://youtu.be/iLmvCLPjUM4





أشعر بالوحدة والملل في نهاية الأسبوع. الصديق الوحيد، الدكتور الألماني، سافر، ولن يعود قريباً. على الأقل، جائت ابنة أخي ذات الأشهر الثمانية، ولكن كما توقعت، أصبحت إنسانة أنانية، لا تريدني أن اقبلها، بينما تسمح لأمي بذلك (قهر)، بل وتقبلها هي فاتحة فمها على اتساعه، وكأنها ستأكل أمي بسنيها الاثنين. ولم تجدي الهدايا، إذ أنها لا تفهم.


وبذكر أمي، اشتريت لها كوباً ظننت أنها ستفرح به، إلا أنها سرعان ما تخلصت منه بإعطائه أخي في ذات الليلة، لأن عليه رسوم لأغنام تضحك في المراعي (حرام). لا أدري ماذا سأفعل مع هذه المطوعة. الغرض الأساسي من الكوب كان هذه الأغنام، وإلا فالأكواب في المنزل كثيرة. ماذا أفعل وهي ترفض إحضاري لنعجة حقيقية إلى المنزل، رغم حبها لهذه الحيوانات(وحبي للغنم النجدي). هل أعاقبها وأحضر بقرة؟ (هي تكره الأبقار، كأنها بدوية).








المشترك الأخير في مدونتي كتب تعليقاً لطيفاً، لكن التعليق لسبب ما لا يظهر في مكانه في جانب المدونة، حيث يعلق متابعو مدونتي حينما يرغبون. لذلك لم أتمكن من الرد على التعليق كما يجب. يقول التعليق: 
"السلام عليكم ورحمة الله ... انا متابع من فترة لفترة لهذي المدونة ... وكنت اتوقعك تقرب لي :) ... عالعموم مجرد تسجيل إعجاب بأسلوبك ... أخوك : عبدالرحمن الحوشان .... مغترب في امريكا .."
أشكرك أخي عبدالرحمن على لطفك، وأقدر كثيراً متابعتك لما أكتب، خصوصاً بعدما عرفت بأني لست قريبك، ومع ذلك شجعتني بكرم.
أعرف بأن عائلتك كبيرة، أكبر عدداً من عائلتي بكثير، إن كانت هي بالذات من أعرف، أقصد عائلة الحوشان من بريدة. كنت قد حضرت مع أخي زواج صديق له من هذه العائلة قبل سنوات، وهو رجل من الحوشان درس معه في أمريكا لا أتذكر اسمه الأول، وقد كان لطيفاً جداً (ألطف من أخي). كان الزواج في الفهد كراون، أعتقد أن اسم الفندق تغير الآن.
كثيراً ما اعتقد الناس أني من عائلة مختلفة. البعض يظن بأني من المزاحمية، وهم من آل ثنيان على حد علمي، وآخرين من حائل، والأغلبية من بريدة (ربما بحكم اللهجة وشهرة عائلتكم)، وأماكن أخرى أقل جرياً على الألسن، لكن أصلنا، الحوشان من المذنب، أصلنا دواسر من فخذ البدارين.
أشكرك مرة أخرى أخي عبدالرحمن، وأتمنى أن تجد دوماً ما يمتعك هنا. كما أتمنى أن أطلع على مدونتك إن كانت لديك واحدة. عسى الله أن يردك سالماً غانماً إلى من يحبك.
شكراً جزيلاً.







ذهبنا اليوم أنا وأمي إلى مدينة الملك فهد الطبية، وقد ذهبنا بضعة مرات خلال الأشهر الماضية، ولم نقابل الدكتور الذي طلبنا تحويلنا للمستشفى لأجله بعد المرة الثانية، كنا نرى الطبيب الهندي من فريقه، وهو الآخر طبيب طيب جداً مثله، ودود ومتفهم، لكن هذا ليس غريباً، فالأطباء الآسيويون عموماً أكثر تواضعاً وطيبة من العرب، أما الغريب فهو أن الدكتور الأساسي، الذي جئنا لأجله، طيب جداً، رغم أنه سعودي.
طال انتظارنا إلى حد ما، ثم ظهرت أمي فجئة من استراحة النساء، وقد ملأها التوتر، قائلة بأن من جائوا قبلنا قد مضوا جميعاً، وبدأ من جاء بعدنا يمضي، بينما لم يتم استدعاؤنا. لتهدئتها، ذهبت إلى الاستقبال أسأل، حيث قيل لي أن أسأل في غرفة الطبيب الهندي، وهناك قالت المساعدة السعودية بأن ملفنا لدى الدكتور مشبب العسيري، في المكتب المجاور. لم أتوقع هذا بصراحة، فقد بدأت أظن بأنه لا يرى مرضاه بعد أول مرة شأن بعض الأطباء الرؤساء لأقسامهم، وربما كانت الثانية بالصدفة. لكني فرحت صدقاً. سألت الممرضة في مكتبه، وقالت بأن ملفنا هو الأول، وستدعونا قريباً بعدما يراجعه الطبيب. وفعلاً، دعتنا مباشرة تقريباً، ودخلنا. كان الطبيب مشغول الذهن عموماً، إذ بدا أن وقته ضيق، ولكنه مع ذلك لم يستعجل. كان لطيفاً جداً مع أمي، وأجاب أسئلتنا بوضوح. كانت الأمور ولله الحمد مطمئنة. أزعجتُه قليلاً بالإسئلة والنقاش، وأعدت بعض الأسئلة بصيغ مختلفة لأتأكد بأني فهمت جيداً وضع أمي بكل حيثياته، وقد صبر علي جيداً، ولا أقول بأني كنت أختبر صبره صدقاً، لكني بطبيعتي أحب التأكد من صحة فهمي في الأمور المهمة. بعد تقرير ما سنفعل للفترة القادمة من فحوص ومواعيد وأدوية، أحضرت الممرضة الأوراق لتشرح لي ماذا أفعل بكل ورقة، بينما تكلم الطبيب مع أمي، سائلاً إياها عني، إن كنت ابنها (!!) ومن هذا القبيل، ومطمئناً إياها بأني أفهم جيداً كما يعتقد. حينما ابتعدت الممرضة، سأل أمي عن ما أفعل أنا بحياتي. قالت بأني في الجامعة، تقصد أني أعمل بالجامعة، لكنه حسب بأني طالب، فسألها بأي سنة أدرس. قالت بأني أعمل، وتدخلت لأخبره بأني متخرج منذ زمن بعيد، وأعمل هناك. سألني عن مكاني هناك بالضبط. ثم عاد يسأل أمي عن تخصصي، قالت: انقليزي. فقال لأمي مازحاً بأن هذا السبب ربما لطول شعره (يقصدني. وبالواقع، شعري ليس طويلاً، لكن كثافته تعطي انطباعاً مغايراً) ضحكت أمي وقالت: يا حبي له (!!). ثم سأل عن كليتي، وأوضحت له بأني درست في اللغات والترجمة، بعدما ظن أني تخرجت من الآداب. تكلمنا قليلاً حول الأمر. بعدما انتهى النقاش الودي، أخبرته بأني كتبت عنه في مدونتي. فتح عينيه على اتساعهما بطريقة كوميدية وقال: يا ساتر!. وكأنه خاف، مما أضحكني. تسائل ماذا كتبت، قلت بأني كتبت خيراً، فمن النادر رؤية دكتور سعودي لديه دم وإحساس بمرضاه. صمت قليلاً متأملاً، ثم قال ما لم أفهم وهو مبتسم: كنت أحسب أن ما عندي دم. بدا سعيداً بالأمر، وشكرني جيداً وهو مبتسم. وحينما أردنا الخروج وضع يده على كتفي وسأل أمي إن كانت قد زوجتني. قالت بأنها لم تزوجني بعد، وأن من تزوجوا لم يعودوا يبالون بها، وهي وجهة نظر تقليدية على ما أعتقد. خرجنا وهو يودعنا.
لكن، عندما أردت الحصول على ورقة للمرافقة، علمت بأن الإجراء تغير عن السابق، ولهذا يجب أن أعود إلى مكتب الطبيب، ليمنح الموافقة الالكترونية. جاء رجل وحاول الدخول قبلي، ودخل، أخبرت الطبيب واقفاً بالباب بأن يعطي موافقته على المرافقة. وأعطاني، وهو يقرأ اسمي وبياناتي على الحاسب، واسم الجامعة حيث أعمل. ثم سأل عن مدونتي، وإن كنت قد كتبت في مدونة أو الفيسبوك، فأخبرته بأنها مدونة، سأل عن عنوانها، فقلت بأن يبحث فقط عن اسمي في قوقل. إن اسمي يظهر في أول النتائج، حتى لو نسي اسمي الأول (من الصعب أن ينسى المرء اسم مضحك كالحوشان).


تركت القسم وأمي فيه، لأحصل على الأدوية وأطبع عذر المرافقة من التقارير، ثم مضيت إلى مبنى آخر من المستشفى، للسؤال عن التوظيف هناك، ومعرفة من سيتمكن من العلاج في المستشفى من أهلي في حال عملت لديهم. قيل لي بأن التأمين يشمل أمي وأبي، وهذا رائع، وزوجتي وأبنائي(هؤلاء غير مهمين إذ أنهم غير موجودين). فرحت كثيراً. لكن قيل لي بأن الانتقال من عملي غير وارد، حيث يتم توظيفي لديهم بوظيفة جديدة. أعتقد بأنهم ربما يعملون على نظام مختلف عن الحكومة. إني أفكر بالأمر. ولدي الوقت، إذ لا أستطيع الانتقال حالياً من عملي وأنا ملتزم في غياب زميلي. لكن مع ذلك، يجب أن أستشير وأفكر جيداً وكثيراً، فهناك بخلاف أمي وأبي ابنة أختي.
حينما خرجت من المبنى، خرجت من طريق آخر، ووجدت نفسي في مكان لا أعرفه من المدينة الطبية. لكنه كان مكان جميل. رأيت نافورة جميلة، فأخرجت جهاز الننتندو ثري دي اس لألتقط صوراً ثلاثية الأبعاد لها. إني أعشق تصوير النوافير كما لا أعشق تصوير أي شيء آخر، والمساقط المائية طبعاً إن وجدتها، خصوصاً بشكل ثلاثي الأبعاد.


كان يوماً جيداً، فالطبيب طمئننا أخيراً على صحة أمي، بعد أشهر من الانتظار والإجراءات المختلفة، وقد رأيناه وتمكنت من إظهار تقديري له، وتشجيعه على اللطف والتواضع.








البارحة، حينما دخلت التميمي لشراء غرض أوصاني عليه أحدهم، وكان الوقت متأخراً في جوف الليل، وقفت لأنظر إلى مكان مجلة ناشيونال جيوقرافيك، رغم أن وقت العدد الجديد لم يحن بعد، لكني كنت أرجو أن شعوري بمرور الوقت قد أخطأ. كنت أواجه المحل وأميل برقبتي فقط لآخذ نظرة، وربما سهمت قليلاً، وظللت أفكر دون حركة، بعدما رأيت أن العدد الجديد لم يأتي بعد. لا أدري كم ثانية أو لحظة مضت وأنا ساهم، لكن حينما نظرت إلى الأمام لأمشي، وجدت رجل شديد الضخامة والعرض، بدين إلى حد كبير، رأسه كبير جداً، ووجهه الضخم المحاط بلحية كثيفة يكاد أن يلتصق بوجهي، وهو باسم. لا أدري ما أصابني، قد أكون ذعرت قليلاً، لكن ما شعرت به أكثر كان الإحراج والخجل، إذ حسبت لأول وهلة بأني أسد الطريق أمام هذا الرجل غير المعتاد. ضحكت محرجاً، ربما مجفلاً، أو ما يسمونه ضحك "الروعة"، وقفزت للخلف جانبياً، وأنا أعتذر. كانت ابتسامته واسعة في البداية، لكنها بدأت تصغر قبل أن يمضي في طريقه، يبدو أن ردة فعلي سببت له صدمة (وأنا ماذا أقول عن رؤيته أمامي فجأة؟!). شعرت بإحراج، وكان البعض ينظر إلي باسماً بعدما رأى الموقف. لكني حلّلت الأمر بسرعة، واكتشفت بأن الأمر غريب، إذ أني بالواقع لم أسد الطريق حتى يتوقف تماماً، ولم يكن أمامي أو قربي أي أحد حينما توقفت لأرى المجلة في الرف البعيد. إذاً هو جاء لاحقاً، وقرر الوقوف مقابلي والسكوت، والاقتراب كذلك على نحو غير مألوف.
غرابة أطوار فقط على ما يبدو.





أيا راحل إلى أمانيا...
وآخذ معه الأنس والسلوى...
تاركني لوحدتي...
أسأل أحلامي النجوى...
ولا من مجيب...
أيا راحل إلى أمانيا...
نادني إذاً بأحلامك...
وابسط تجاهي يدك الحمراء الأبوية...
وعلى ريح المطر أطلعني...
في غابتك البافارية...
وخذني لأشرب من ماء الألب...
تلك الجبال الموحشة الجميلة...
لأروى من عطش الصحراء...
لعلي حين أفيق...
أغلب يأس الوحدة والشقاء...

أنتهت.
أمانيا هي ألمانيا، كما كان ينطق اسمها الناس في القصيم قديماً، في القصص التي سمعت.


سعد الحوشان